16-أبريل-2016

حكيم عاقل/ اليمن

كنت أفكر أني سأختلي بها، خططت لذلك جيدًا، كنت أحبها لا ريب في ذلك لكني أيضًا كنت أريد أن أرى وجهها، في رغبة شهوانية لا علاقة لها بالحب كما اعتقدت، كنت في الدرك الأسفل من جنون التخيل والتهويمات، لقد حددت ألف أنف لها وآلاف الشفاه، بل وحتى دربت روحي على أن تتقبل فكرة أنه من الممكن أنها تعاني من حب الشباب، أو أنه لديها كلف مثل ذاك الذي تعاني منه خالتي الصغرى، كانت لعبة التخيلات هي ما أستطيع فعله خلال الشهور الأولى من علاقتنا، فقد رفضت رفضًا قاطعًا أن تبعث لي بصورة وجهها، حدثني أصدقاء كثر عن فتيات يبعثن بصور نهودهن وأشياء أخرى، بل أيضًا يصورن أفلامًا قصيرة لحياتهن المنزلية، لكنها كانت من الحيطة والحذر بأن رفضت ولم تترك لي مجالًا للنقاش أو حتى للرجاء، وقالت لي بصراحة إنها لا تثق بي ولا حتى قدر رأس إصبعها كما أشارت واستخدمت إصبعها الصغير بظفرها المطلي بالأحمر، قبلت رفضها الحاسم، وكان يفترض بي أن أشعر بالأمان، قال لي هذا صديقي: يجب أن تكون سعيدًا، هذا دليل أنها لم تبعث بصورتك من قبل لأحد، كان صديقي يهتم بمسألة حقوق الملكية والسبق النظري أكثر مما أهتم أنا، فأنا على عكسه تمامًا لم يكن يعنيني إن كانت قد بعثت بصورة وجهها لأحدهم أو أنها ستبعث مستقبلًا، أعود فأقول أني كنت أحبها بطريقة ما، لكني أيضا كنت أفكر أنها الخيار الوحيد المتاح لي لأعيش قصص الحب والهوى و"البنات" كما يدعوهن جميع الشبان.

قلت لها أننا لن نلتقي في الجامعة، ولا في الحديقة، نحن بحاجة لمكان ذي أسوار نختلي به، مكان تستطيعين فيه إزالة "البرقع"، وبالتالي اكتشاف المعجزة الإلهية المتجسدة في وجهك المشرق، أفرطت في امتداح جمال وجهها فرضخت، لكنها فيما يبدو كانت تفكر في هذا أيضًا، وهكذا قررنا أننا سنلتقي في المطعم وسط المدينة، المطعم ذي الستائر الحمراء والطاولات الحمراء، وعلب الشطة المتناثرة في كل مكان، كان ذلك المطعم الحديث يهتم بالخصوصية، فهو يحيط الطاولات الخاصة بالستائر الفضفاضة، وقد حيكت عنه الأساطير، قيل أن من له حبيبة يأخذها لذلك المكان ثم ينهال عليها بالقبل فلا يراهم أحد، كان الشبان من ذوي الخبرة، يعرفون كل تفصيل حول المطعم وحول زبائنه الدائمين، لكني كنت سأذهب لتجربتي الأولى، وربما لم تكن تعرف هي بأمر السمعة السيئة للمطعم، أو أنها كانت تعرف لكنها تغاضت.

كان الموعد في اليوم التالي لاندلاع الحرب، كنت أستعد، وكانت الحرب أيضًا، وربما نمصت هي حاجبيها أو وضعت قناعًا من العسل على وجهها الذي كان اللقاء يتمحور حوله، في اليوم السابق للقيانا، حلقت الطائرات في السماء، وتفجرت الصواريخ في الأرض، وقطعت رصاصات مضادات الطيران المسافة بين السماء والأرض بسباق محموم، كانت المدينة تشتعل، وكنت أنا أشتعل بخيبة الأمل الرهيبة، بعثت لها برسالة: 

- ماذا بشأن الغد؟
- هل أنت أبله؟ قد لا نعيش للغد
- إذن فلنلتق الآن!
- أنت أبله فعلًا!

كنت غاضبًا، وكانت هي مرعوبة، قالت لي إن أباها قال إنهم يجب أن ينزحوا فالحرب ستستغرق وقتًا طويلًا، لكننا اتفقنا معا أنها حرب خاطفة، ستنتهي حالًا، ستعود الدبابات في الجنوب لأعشاشها، والمقاتلون سيقطفون العنب في الموسم القادم، ويتذكرون كيف شاهدوا المدن الأخرى والتقوا بأناس جدد، وكيف جاعوا في الطرقات، والطيارون في الطيارات الحربية سيتحدثون عن جبالنا الشاهقة التي شاهدوها من علو، وعن المدن المظلمة التي لا تضيء فيها سوى الرصاصات ونيران الانفجارات، ثم منحنا الحرب أسبوعًا كاملًا، قلنا فليكن أسبوعًا كاملًا، لينتهوا من بعضهم ثم يذهبون جميعًا إلى جنيف: الكبار والصغار ومضادات الطيران والقنابل الفراغية، لأقل الحقيقة، لم نكن حينها نعرف عن القنابل الفراغية شيئًا ولا عن الصواريخ شديدة الانفجار، ولا عن مخازن الأسلحة تحت الأرض وفي أعماق الجبال، لكنه كان أسبوعًا، وكنت أراه زمنًا طويلًا، خاصة وأن صديقي النذل قال لي إنها قد تكون قبيحة جدًا، لذلك رفضت إرسال صورتها ولذلك اندلعت الحرب، وكان لهذا الاحتمال أثره في زيادة معدل تخيلاتي لوجهها أو للأجزاء التي تقع تحت عينيها البنيتين الجاحظتين قليلًا.

في الأسبوع الأول فقدنا الاتصال ولم تتوقف الحرب، اختفت الكهرباء وازدادت الصواريخ، وذهب مقاتلون أكثر، وتدفقت طوابير السيارات في محطات البترول، وندبت أمي حظها لأنها لم تشترِ الغاز المنزلي قبل الحرب، وكنت أقيم الصلوات الخمس في الجامع في محاولة لإيجاد شحن لهاتفي، وكنت أجد أحيانًا، لكن آخر ظهور لها توقف في أول أيام الحرب ولم تعد متصلة خلال أسبوعين كاملين، استنزفت قدرتي على التخيل والدعاء، حين عادت أخبرتها أني اعتقدت أنها ذهبت بهم جميعًا إلى جنيف، ضحكت، وأخبرتني أنها لن تذهب إلي أي مكان بدوني، وكان هذا اتفاق السلام بالنسبة لي، ثم في الشهر الثالث، وحين كنت قد أزحت جانبًا رغبتي الانتهازية في علاقتي معها وكنت أحبها بصدق رغم أني لم أزح أمنيتي النارية في رؤية وجهها، نزحت من منزلها في المنطقة التي دمرت كاملًا بسبب ضربات الصواريخ إلى منطقة قريبة من منزلنا، وأصبحت في نطاقي، وحين أملت أني سأراها ولو بالنقاب، قرر والدها أنها لن تخرج بسبب خطف الفتيات، توقفت أختها الكبيرة عن العمل وتوقفت هي عن الصلاة بسبب انعدام المياه، قلت لها أني أريد أن أشتري لها هدية، لم أكن أملك نقودًا لكني كذبت، قالت لي إنها لن تستطيع أخذها، قلت لها أني اشتريتها وخبأتها، وكنت أكذب أيضًا، لكني كنت أفعل ذلك بدافع إسعادها ولم أعرف إن كانت أحست بالسعادة فعلًا، لكني افترضت ذلك.

بعد ستة أشهر من الحرب، كانت تظل أسبوعًا كاملًا غير متصلة، وآخر ظهور يعود لأسابيع، وكان هذا أيضًا مستهلكًا بجانب أني لم أعد أستحم ولا آكل كالمعتاد وأمي تنوح على جاراتها اللواتي بالضرورة يفقدن شخصًا من عائلاتهن، لكني صمدت، وقلت أنه حان الوقت لأن أرى وجهها، كان الجميع يعيش حياته العادية والمطعم ذو الستائر الحمراء نجا من الدمار على عكس المحيطين به، وكانوا قد ذهبوا إلى جنيف وعادوا مسرعين، قلت لها فلنذهب، رفضت، ازددت إلحاحًا واستخدمت كل أنواع الابتزاز، رضخت، قالت: صل ألا يقصفونا أو يقصفوا المطعم، لقد اندلعت حرب بسبب إلحاحك، إنه وجهي وليس وجه نفرتيتي.

بالطبع أخبرتها أنها أجمل من نفرتيتي وأهم، في الشهر الثامن للحرب كان الموعد، لم تتحقق مخاوفها وما زلنا نعيش، كان آخر ظهور لها في اليوم السابق، وضربات الصواريخ كانت بعيدةً عن منطقتنا، أخذت حمامًا بماء جلبته من المسجد، وتأنقت ثم ذهبت، كانت المدينة تعيش في النهار وتموت في الليل، والناس غاضبون ولا ذكر لجنيف سوى لدينا، ذهبت وانتظرت أمام المطعم، قالت لي ستتصل، انتظرت، كان كشك الصحف مغلقًا، لم تعد تطبع الجرائد، خفت من أن أستخدم الإنترنت على هاتفي فيستنزف الشحن، لكني بعد ساعة من الانتظار، تشجعت وانتظرت الرنة المميزة لرسائل الواتساب، تلقيت رسالة من رقم غريب، كانت صورة، ثلاث دقائق كاملة كي تتحمل الصورة وأشاهدها، كانت لفتاة بيضاء الوجه، لديها بثور صغيرة في جبهتها، شفتاها مكتنزتان وعيناها بنيتان جاحظتان قليلًا، ولديها خصلات شعر ناعمة تظهر من حافة الصورة وكانت تحتفظ ببقايا ضحكة، وتبدو جميلة بشكل عام، وتظهر كفها الأيمن الذي كتب عليه اسمي وبجانبه جنيف.

اقرأ/ي أيضًا: 

فتاة صعبة

مثل غصن متأرجح لا يقع