09-يناير-2019

همام السيد/ سوريا

إذا قبلنا بأنّ الشعر، في جزء منه، تعبيرٌ عن عطب نفسيّ، فشعراء كليّات الآداب، على طول البلاد الناطقة بالعربية وعرضها، نماذج هائلة للدراسة.

هؤلاء الذين يظنّ الواحد منهم نفسَه الحطيئةَ إذا هجا والفرزدق إذا غضِب شخصٌ واحدٌ جرى استنساخه

هؤلاء الذين يظنّ الواحد منهم نفسَه الحطيئةَ إذا هجا والفرزدق إذا غضِب شخصٌ واحدٌ جرى استنساخه بشكلٍ سحريّ في جغرافيّاتٍ متباعدة. تتشابه البدايات والنهايات والمسارات تشابهًا يُدهش المُولعين بعلم النفس ومراقبة السلوك البشري، بالرغم من أنّ أي اثنين من أفراد هذه الفصيلة لا يمكن لهما قبول بعضهما البعض فيما لو التقيا، مع أنهما درسا الفرع نفسه، قادمَين من مناطق هامشية لا تختلف إلا أسماؤها ومواقعها على الخريطة، بالبدلة الرسمية نفسها، وربطة العنق نفسها، والحذاء الملمّع إلى درجة الامّحاء نفسه.

اقرأ/ي أيضًا:طبقات شعراء البعث

على أيّة حال، تثير البدلة الرسمية سخرية أبناء دفعته فيحصل منذ يومه الأول في الجامعة على لقب "العريس"، وتبدأ الفتيات الخبيثات بالتندر من زميلاتهن الساذجات بألا مستقبل عاطفي لهنّ إلا معه. غير أنّ الحال يتبدل في السنوات التالية حين يصبح جزءًا طبيعيًّا من مشهد الحياة الجامعية، خصوصًا بعد اعتلائه المنابر مزمجرًا بحقد في وجه الاستعمار، أو هامسًا بعذوبة لا يمتلكها غير الملائكة عن معنى الحب وجمال النساء. صحيح أنه ما من أحدٍ يكتشف تناقض قصائده التي تتحدّث عن الحب المتسامي، وفي الوقت نفسه تقدّم كبتًا جنسيًّا من نوع متطور حينما يجري إهداء القصيدة نفسها كل مرّة لفتاة جديدة، لكنّ الصحيح الثابت أن جميع زملائه يشاركون في الخديعة حين يبدؤون بالترويج له، ليخرج اسمه من أروقة الجامعة إلى المجال العام كرمز للشباب "الوطني" المخلص. لاحقًا سوف يستثمر في هذا الميراث استثمارًا تظنّ معه بأنه أحد مفجرّي ثورات الطلاب عام 1968!

يعيد شاعر كلية الآداب الخطأ نفسه، والندم نفسه، في مختلف الأمكنة والأزمنة التي يظهر فيها. فحين تصله رسالة حب من زميلة يعيدها إليها مع إشارات بالقلم الأحمر إلى مواضع أخطائها في النحو والإملاء، وحين تشيح وجهها عنه من شدة انكسارها، يبدأ بالحديث عن خيانة أصليّة في جوهر النساء.

في بيئته الأولى، يلتزم بالظهور بهيئة الحكيم الناصح لمن يحتاجون توجيهًا وإرشادًا. يبالغ في الدفاع عن القيم والتقاليد في الحديث اليومي أو في مطولاتٍ تصل إلى عشرات الأبيات. يرتجل مديحًا لصاحب البقالة الذي يبيعه السجائر بالدين، وبالقوة نفسها يهجو منحرفي المنطقة حتى يقوّموا سلوكهم. أمُّه موجودة دومًا في قصائده. تقريبًا لا تغيب أكثر من مدة قصيدتين لتعاود الحضور مجدّدًا، حتى يخال متابعه بأنه لمّا يُفطمْ بعد.

في مجالس رجال المنطقة، يلقي أبياتًا مدويةً في رجولة مدير المنطقة، ومروءة مدير المخفر، وأبوّة إمام المسجد. وفي جلساته السرية مع رفاق السوء، يرتدي قناع أبي نوّاس ويطلق خمريات، وغلمانياتٍ إن لزم الأمر.

إنه الملك ميداس. ذاك الذي يُحوّل كل ما يلمسه ذهبًا. لكنه ميداس من نوع أقلّ جودة، وخيمياؤه تقتصر على تحويل أية عبارة عادية إلى كلامٍ موزون مقفى.

تقول له أخته الصغيرة، في لحظة براءة، إن شعره يشبه الشعر الذي يتصدّر أوراق الامتحانات، وتحت بعض كلماته خطوط، وحول بعض جمله أقواس، من أجل إعرابها كمفردات أو جمل. تقول الأخت ما تعرفه، فيهجوها بالصّفعات وشدّ الشعر، كونه يؤمن أن بعض القصائد أفعال لا أقوال. كما يقول لنفسه دائمًا.

أما آن أوان الاعتذار لأفلاطون عن تحاملنا عليه طول هذه القرون، بسبب طرده الشعراء؟

ها هو على فيسبوك، يطلق قصائده عن الوطن المغدور، عن حق المرأة في الحب والحياة، عن محبة الناس البسطاء، عن بؤس الفقراء، في قصائد لا يتغيّر فيها إلا عروضُها.

اقرأ/ي أيضًا: محمد الماغوط.. شاعر الشفوية المضادة

انظروا إليه. ركّزوا في عيونه الباردة. تمعّنوا في صوره المفلترة بغباءٍ تكنولوجي يتفوّق عليه أقلُّ مصوري الأحياء الشعبية موهبةً. هل نظرتم؟ أليس من يكتب الشعر ميكانيكيًّا عن كل شيء، دون ضرورة للإيمان به، هو نفسه الذي قرّر أفلاطون طرده من الجمهورية؟ أما آن أوان الاعتذار لذلك الرائي، من عصور ما قبل التاريخ، عن تحاملنا عليه طول هذه القرون كلها؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

يسر دولي.. مكسيم غوركي الشرق

علي عبد الأمير: زمن النشر الإلكتروني