19-يناير-2016

وزير الخارجية الإيراني خلال مؤتمر الإعلان عن رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران (Getty)

حمل السبت السادس عشر من كانون الثاني/يناير 2016 انجلاء العقوبات الاقتصادية القاسية عن سماء الاقتصاد الإيراني. فبعد تأكيد تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية لمجموعة 5+1 (الدول الأعضاء بمجلس الأمن وألمانيا)، وهي الجهة التي أبرمت الاتفاق النووي في الصيف الماضي مع إيران، على التزام الأخيرة بالشروط التي وقعت عليها في الاتفاق -المنطوية على إرسال مخزونها من اليورانيوم المخصب إلى روسيا وخفض عدد أجهزة الطرد المركزي بمقدار الثلثين وإغلاق مفاعل "آراك" النووي، ضمن خطوات أخرى- أعلنت الولايات المتحدة، بمشاركة شركائها وحلفائها، أخيرًا رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران.

أدت الفترة المديدة للمفاوضات إلى تدشين علاقات دبلوماسية ودية بين وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري ونظيره الإيراني، جواد ظريف، يمكنها احتواء التوترات

يسجل ذلك الحدث بداية جديدة لتبعات عالمية ضخمة، وربما طبيعة جديدة للنظام الاقتصادي العالمي، ناهيك عن جيوسياسيات الشرق الأوسط، التي انخرطت، وأثرت إيران بها في السابق، رغم وجودها تحت سياط العقوبات الاقتصادية. وهنا يطرح السؤال نفسه، من المستفيد الأكبر من دخول الاتفاق الإيراني حيز التنفيذ؟ وكيف؟

نجاح الدبلوماسية

راهنت الإدارة الأمريكية، رغم ضغوط الأعضاء الجمهوريين بالكونجرس وشركائهم في إسرائيل، على نجاح الدبلوماسية في تخليصها، ونظيراتها من القوى العالمية، من صداع الأسلحة النووية الإيرانية، وعلى نطاق أوسع، من شبح إيران الذي دائمًا ما توعدت إسرائيل بضربه عسكريًا إن تجاوز خطوطه الحمراء. وبالفعل آتى الرهان حقه، حتى الآن.

فبغض النظر عن نجاح الدبلوماسية في التوصل إلى الاتفاق وتوقيعه، وإدخاله حيز التنفيذ، أدت الفترة المديدة للمفاوضات إلى تدشين علاقات دبلوماسية يمكن وصفها بالودية بين وزير الخارجية الأمريكي ونظيره الإيراني، جواد ظريف، ففي حال نشوب أي بادرة توترات بين القوتين متشابكتي المصالح في الشرق الأوسط، ليس على وزيري الخارجية سوى إجراء اتصال هاتفي لوأد التوتر في مهده. وهو ما تحقق بالفعل بشكل عملي خلال الأسبوع الماضي، حين ضل عشرة جنود أمريكيين طريقهم، وفق المزاعم، إلى داخل المياة الإقليمية الإيرانية، فلم تسدد البحرية الإيرانية طوربيدًا إلى سفينتيهم، ثم إلى الاتفاق النووي، بل انتهت الأزمة بعودة الجنود إلى الأراضي الأمريكية خلال أربع وعشرين ساعة. إنها القوة السحرية للدبلوماسية!

وفي ذات السياق، قبيل ساعات من رفع العقوبات، أطلقت إيران سراح خمسة أمريكيين، على رأسهم الصحافي بواشنطن بوست، جيسون رضائيان. وفي المقابل، تعهدت الولايات المتحدة بالعفو عن سبعة إيرانيين محتجزين لديها. فيما بدا كصفقة لتبادل السجناء بين البلدين على خلفية المنعطف المريح للعلاقات بين البلدين.

يطرح هنا السؤال نفسه عن مصير العلاقات بين البلدين فيما بعد إدارة أوباما، التي تنقضي مدتها الأخيرة قريبًا، خصوصًا أن خلفها إدارة جمهورية، تحمل توجهات معارضة بشكل قوي لتدشين علاقات هادئة مع إيران، وللاتفاق النووي بشكل خاص. وللجمهوريين أسبابهم أيضًا..

بعيدًا عن الاتفاق النووي

بغض النظر عن كون إيران العدوة الأهم لحليفة إدارة أوباما الأبرز في المنطقة، السعودية، يرى الجمهوريون المنطقة من منظور آخر، حيث يعتبرون إسرائيل حليفتهم الأهم، وإيران عدوتها الأهم، أيضًا، وهو ما يدفعهم لاتخاذ منهج أكثر بعدًا عن براجماتية أوباما واستعداءً لإيران.

جدير بالذكر أنه في أيلول/سبتمبر الماضي، قادت إدارة أوباما حظرًا ناجحًا لسفينة إيرانية محملة بالأسلحة كانت موجهة لمتمردي الحوثي في اليمن، حيث تخوض السعودية حربها ضدهم، وهو ما اعتبرته الإدارة الأمريكية انتهاكًا للقانون الدولي. وعلى صعيد آخر، عاقبت وزارة الخزانة الأمريكية أكثر من مائة شخص أو كيان إيراني، أو على صلة بإيران، بسبب انتهاكهم للعقوبات المفروضة عليها، وذلك خلال فترة المفاوضات فقط. كما وقعت الوزارة عقوبات على شركة اتصالات مقرها بلبنان، بسبب دعمها لحزب الله، أحد أبرز أعداء إسرائيل في المنطقة.

يسيطر الغموض على طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران فيما بعد إدارة أوباما، ولكن الأرجح أنها لن تكون بذات السلاسة الحالية. فمن ناحية، لا تزال أمريكا تعتبر إيران راعية للإرهاب، ومنتهكة لحقوق الإنسان. ومن ناحية أخرى، لا تزال العقوبات الأخرى غير المتعلقة بالأسلحة النووية قيد النفاذ، وحتى التجديد بالنسبة لصفقات الصواريخ الباليستية الموجهة مثالًا.

النفط لن يحكم العالم

تمر أسواق النفط العالمية بواحدة من أسوأ كبواتها، حيث بلغ سعر برميل النفط واحدًا من أحط مستوياته منذ 2003. يعود ذلك إلى إغراق أكبر منتجتين عالميتين، السعودية وروسيا، للأسواق بالإنتاج، حيث يبلغ الإنتاج السعودي أكثر من 10 مليون برميل يوميًا، وتقاربها روسيا. ما أدى بشركات النفط الصخري الأمريكية إلى تخزين إنتاجها الفائض، ويتوقع الخبراء انكماش إنتاج الدول غير الأعضاء بأوبك بمقدار يتراوح بين 600 إلى 700 ألف برميل يوميًا، وهو ما لم يحدث منذ الأزمة العالمية عام 2008.

أما من جانب إيران، فقد بلغ إنتاجها خلال عام 2015، أثناء سريان العقوبات التي تقيد تصديرها، حوالي مليون برميل يوميًا، بينما يتوقع المسؤولون الإيرانيون، الأكثر تفاؤلًا، مضاعفة ذلك إلى مليوني برميل خلال العام القادم. ولكن في الواقع، يتوقع خبراء أسواق النفط زيادة الصادرات الإيرانية خلال الربع الأول من 2016 بمقدار بضع مئات آلاف البراميل فقط.

يؤدي تطبيق الاتفاق النووي الإيراني بشكل فوري، إلى فك تجميد 100 مليار دولار من الأصول الإيرانية المجمدة في البنوك الخارجية

أدت، مجرد، التوقعات بدخول الاتفاق حيز التنفيذ إلى انخفاض سعر البرميل بمقدار 6% يوم الجمعة، ليستقر عند سعر 29,3 دولار. ما يثير تساؤلًات حول تأثير دخول إمدادات النفط الإيرانية إلى الأسواق المغرقة بالفعل بالإنتاج، ترسم تلك الاحتمالية خارطة جديدة للعالم، وللمنطقة بشكل أخص، لا يصبح فيها النفط محركًا رئيسيًا، ضمن عوامل أخرى، لمجريات الأمور. جدير بالملاحظة هنا إعلان الإمارات، جارة السعودية الأوفر ذكاءً، مؤخرًا عن احتفالها بتصدير آخر برميل نفط وتدشين مرحلة اقتصادية جديدة أكثر تنوعًا.

انتعاشة اقتصادية

يؤدي تطبيق الاتفاق، بشكل فوري، إلى فك تجميد 100 مليار دولار من الأصول الإيرانية المجمدة في البنوك الخارجية، والتي يخصص نصفها لسداد ديون خارجية مستحقة الدفع، وتنتفع الدولة في عهدها الاقتصادي الجديد بالنصف الآخر. بالإضافة إلى ذلك، يعطي رفع العقوبات رخصة خاصة تسمح للمصنعين الأمريكيين ببيع الطائرات المدنية إلى إيران، التي تحتاج إلى ما بين 400 إلى 600 طائرة لتجديد أسطولها الجوي المدني الذي أصبح متهالكًا.

وعلى صعيد آخر، تتيح الإجراءات الجديدة للشركات والمستثمرين الأجانب طرح استثمارات في إيران. بالتأكيد يسيطر عليهم تخوفٌ أولي، ولكن ستسعى إيران إلى إزالة تلك الشكوك دون شك حتى تحقق الانتعاشة الاقتصادية المرجوة. يقودنا ذلك إلى السؤال الأهم، ما الأهداف التي ستسعى إيران إلى تحقيقها ضمن خططها لتعزيز نفوذها في المنطقة؟

في ساحات القتال

استطاعت إيران خلال السنوات الماضية، رغم تكبيل العقوبات لاقتصادها، أن تمثل ندًا للمملكة السعودية على ساحات الحروب بالوكالة، في سوريا واليمن بشكل رئيسي، وأن تمول عددًا غير هين من المليشيات الطائفية التي تأتمر بأمر الولي الفقيه في هذين البلدين وغيرهما بالأموال والأسلحة. بالنسبة لإسرائيل، قد يبدو تحركًا غير ذكي من جانب إيران إن حفزت تحركاتٍ لحزب الله تستهدف إسرائيل، فرغم تنفيذ أحكام الاتفاق النووي، لا تزال إسرائيل متمتعة بحلفاء أقوياء في الغرب، والذين يترصدون لإيران علهم يتمكنون من إيقاعها مجددًا في شباك العقوبات الاقتصادية.

أما بالنسبة للعدوة الأبرز، فقد راهنت السعودية على عدم توقيع الاتفاق النووي، ثم على عدم تنفيذه، وسخرت مواردها، على نحو متهور، لإضعاف دولة حزب الجمهورية الإسلامية في إيران، حيث عملت على إضعاف الاقتصاد الإيراني عبر إغراق الأسواق بالنفط، معتمدة في ذلك على مخزونها القوي من الدولار، ثم توجت ذلك بحملة عسكرية تستهدف حلفاء إيران على حدودها الجنوبية. ولكن تلك الخطوات حملت نتائج معاكسة، فقد أدت إلى إرهاق الموازنة العامة السعودية بخفض أسعار النفط والنفقات العسكرية في اليمن. وعلى الجانب الآخر، نجحت إيران في تحقيق مرادها.

يتضح الأثر الأكبر لذلك في ساحات القتال السورية، حيث يؤدي تعزيز الوضع الاقتصادي الإيراني إلى تقديم دعم أفضل للأسد، الذي يسبح بالفعل في بحر مكاسب الدعم المالي والبشري الإيراني والدعم الجوي الروسي، ويشير الانكماش السعودي إلى تراجعٍ في دعمها للمعارضة السورية، الهزيل بالفعل. ويصب ذلك إجمالًا في مصلحة اتفاق سياسي يهيمن عليه رضا نظام الأسد، ومن خلفه روسيا وإيران.

_____________

اقرأ/ي أيضًا: 

السعودية وإيران..إنه النفط

منتمو داعش في تركيا..وسيناريوهات الترحيل إلى مصر