05-أكتوبر-2015

الدلائل تقول إن وقائع جديدة تتشكل (Getty)

الفلسطينيون ليسوا على قلب رجل واحد، حتى وهم في أوضح مراحل الخطر الوجودي، والانقسام شنيع وفي كل الاتجاهات. وفي غمرة الانقسامات يغيب التفكير فيها حتى تصبح وكأنها شيء طبيعي، والأسوأ انها تتكرس بهذا الإهمال لأي نقاش جاد حولها.

مع ارتفاع وتيرة المواجهات في القدس والضفة خلال الأيام الماضية، يبدو مهما نبش هذه الانقسامات المتوهمة وإعادة النظر فيها، خاصة أن الواقع يثبت ضرورة البت فيها ومواكبة ما يجري على الأرض من مواجهات، والدلائل تقول إن وقائع جديدة تتشكل.

تصوران للنضال والمواجهة

في القدس الاستهداف مستمر لكل ما يتصل بالاحتلال وبكثافة ثابتة ويومية

هنالك منطق موجود وقوي في الشارع ولدى الفصائل يرى أن المواجهة المستمرة مع الاحتلال وبمستويات عالية هي قدر الفلسطينيين وواجبهم المستمر، هنا لا يوجد تفكير جدي في النتائج أو الأهداف أو مسار هذه المواجهة، أو بلغة أخرى فإن التفكير بالنتائج ليس محوريا ولا مهما، بل الفعل النضالي المستمر، ويرتبط هذا التصور مع فكرة أن الهدف من النضال هو إدامة حالة من انعدام الاستقرار وتكبيد الاحتلال خسائر في كل شيء مهما كانت كلفة الدم والعمر الفلسطينية باهظة.

اقرأ/ي أيضًا: اللاعنف كأخلاق مسيّسة

المهم هنا أن الكثير من متبني هذه القناعة ينحازون إلى نمط مواجهة غير قابل للاستدامة أو التعميم ليصبح طريقة حياة، والمقصود هنا هو نهج النضال العسكري. هذا النهج يظل يغدو نخبويا باضطراد مستمر ومرتبطا بقدرات عالية من التمويل والتنظيم. بل يمكن القول بوضوح إن التنسيق الامني وسياسة الاحتلال الأمنية بعد الانتفاضة الثانية كانت تستهدف بشكل أساسي كل إمكانيات تحويل هذا العسكرة إلى جهد عام وشعبي، وبدا الفلسطيني غير خطير بالنسبة للاحتلال ما لم يُكحِّل يديه بـ "الحديد والنار"، واقتنع كثير من الفلسطينيين أنهم ما داموا بعيدين عن الحديد والنار فهم في مأمن، وفي الوقت عينه بدأوا يتساءلون عن جدوى ما يفعلونه إن لم يكن يخشاه الاحتلال، بالتالي ما جدوى أي شيء غير الحديد والنار! استحكمت هذه المتتالية وتعقد مع الوقت.

الاختراق الأهم، وربما الوحيد، الذي حققه هذا التصور لجهة تطوير نمط أو منجز شبه عسكري قابل ليصبح شعبيا وعاما، هو الكوع، والكوع قنبلة بدائية يدوية تصنع محليا ويستخدمها الشبان والفتية في المواجهات مع الاحتلال، وبالمناسبة فأصوات الأكواع تتردد في الأسابيع الأخيرة في الضفة الغربية. وهذا نمط أنتجته الخبرة الشعبية الفلسطينية بالمواجهة مع الاحتلال، بل خبرة المخيمات، فبدل الحجر والمولوتوف يحمل الفتية الكوع، عسكرة شعبية غير مكلفة. ولكن باستنثاء الكوع، لم ينتج هذا النهج حالة عامة من المقاومة الشعبية شبه العسكرية. ويظل التحدي في إنتاج نمط شبيه. بل من المهم التمسك بالكوع تحديدا لأنه إنجاز غير مسبوق، التحدي الحقيقي والمأزق الواقعي هنا هو رفع النسبة المئوية عند الإجابة على سؤال: كم نسبة من يعرفون كيف يصنع الكوع في الضفة؟ بل ما نسبة القادرين/المستعدين لصمع كوع في الضفة؟

على جهة أخرى هنالك تصور مشغول بالنتائج ومكتو بنار صفقات القيادة البائسة والمتنكرة والمستغلة لتضحيات الفلسطينيين، تصور يريد أن يعرف أن سنصل، أو على الأقل أين نريد أن نصل، قبل أن نبدأ. إن كانت الإجابات واضحة ومحددة فإنه مستعد للتضحية، ولكنه يخشى عودة أزمنة التضليل والخداع، فيظل يتساءل كل حين عن العلاقة بين ما يقدمه وما سيجنيه، ويظل يتفقد موقعه مع كل خطوة إلى الأمام، أو تورط في المواجهة. هذا التصور أفرز التفكير المستمر والتنظير الدائم لنمط المقاومة الشعبية. ليس المقصود هنا مقاومة اللاعنف أو السلمية، فهذه خارج النقاش هنا، بل المقصود نمط مواجهة صالح لمشاركة عامة من الجماهير وقوامه الضغط المستمر بما يشمل إشراك الجميع في المواجهة بما يشمل العنف غير العسكري. وهذا التصور زج به في نقاشات السلمية المرعية من السلطة ومنظمات غربية، حتى فقدنا القيّم والمفيد في تجارب النضال اللاعنفي وفقدنا القدرة على فهم نموذج مقاومة شعبية غير قائم على العسكرة، تماما كالذي ينتهجه مستوطنو الضفة فيبدوا مجديا وعمليا جدا.

ربما يكون النموذج الأهم على هذه الحالة، وإن كانت تتم دون تخطيط، هي المواجهة في أحياء القدس، المواجهة المستمرة في البلدة القديمة والأحياء والضواحي، والاستهداف المستمر لكل ما يتصل بالاحتلال وبكثافة ثابتة ويومية. ليس أدل على نجاعة هذا النموذج مع التخبط القانوني والأمني عند الاحتلال في قضية محاكمة راشقي الحجارة والعجز مع كل أنظمة الرقابة والضخ الامني عن مواجهتهم.

تجاوز التصورين أو التوفيق بينهما

شهدت السنوات الماضية نقاشات صاخبة ودعايات مضادة تحاول خلق نزاع متوهم بين هذين التيارين أو التصورين دون أي سعي جاد لتوحيدهما أو للتوفيق بينهما أو التفكير الصادق بهما، ما يمكن أن يجعل التوفيق بين التصورين عمليا، هو إدراك ما تغير على الاحتلال وعلى الضفة خلال السنوات الماضية، إدراك أن الوصول إلى أقرب نقطة عسكرية إلى مدينة جنين يحتاج لقطع مسافة تتجاوز ٨ كيلو مترات، يصلها المتظاهرون منهكين، ناهيك عن قيمة ما كانوا سفعلونه في تلك الأرض الخلاء حتى لو وصلوها بكامل قوتهم. إدراك أن المواجهة الحقيقة هي مع الاستيطان وفي مناطق c حيث التجلي الأهم لحقيقة الصراع، وحيث العلاقة الأنجع مع البيئة الفلسطينية والأبعد ولو نسبيا عن عناصر الأمن الذين ستأتيهم الأوامر باعتقال كل من يخل بالأمن والقانون وفق قاموس التنسيق الأمني. وأدراك أن الاحتلال تدرب طويلا حتى أتقن تقنيات حصر العنف بعينة محددة من الفلسطينيين دون توجيه أي عنف جماعي شامل يؤلب الجميع عليه، الاحتلال اليوم يمنح تصاريح استجمام على شواطئ تل أبيب لبعضنا ويقتل وينكل ببعض آخر، ويدرك كيف يجعل المشكلة مع بعضنا ويحيّد الآخرين.

وما يمكن استخلاصه هنا من التصورين، وجلعه بادرة توفيق بينهما، وهما ليسا على خلاف بالمناسبة إلا في مساحات التقاتل الافتراضي، هو أن العمل بمنطق رد الفعل لم يعد مجديا، وهو كارثي بكل المستويات، وأن انتظار التنظيم الفلاني أو الكتائب الفلانية حتى تفعل ليس إلا مضيعة للوقت وتبديدا للطاقات، وأن منطق الثأر لا يجدي، وأن التفوق على الأرض يخلقه التفوق في إرادة التضحية بالدم لا الدم نفسه، من البديهي أن المعركة الأنجح هي التي يراق فيها دم أقل لا أكثر.

أي "انتفاضة" نريد؟!

لو سألنا عينة عشوائية من الفلسطينيين عن تعريفهم للانتفاضة، سنحصل على إجابات مفاجئة ومتعددة ومتنوعة بشكل غير متوقع

لو سألنا عينة عشوائية من الفلسطينيين عن تعريفهم للانتفاضة، سنحصل على إجابات مفاجئة ومتعددة ومتنوعة بشكل غير متوقع، كل فلسطيني لديه تصوره الخاص عن "الانتفاضة"، من مواجهات مفتوحة إلى تضييق وتنكيل مستمر. ولو سؤالناهم لماذا يريدون الانتفاضة سنحصل على إجابات لا تقل تنوعا وإدهاشا، هنالك من يريدها لتصفية حسابات داخلية ومن يريدها لتحقيق منافع شخصية، ومن يريدها لمجرد نوستالجيا تعصف به، ومن يريدها لأنه لا يجد سبيلا غيرها لتحرير صديقه المحكوم بعدة مؤبدات، وهنالك من يريدها لأنه سئم الذل.

يحذر أو مازن من الانجرار إلى العنف، ويمكن توصيف الأداء السياسي للسلطة تجاه أي تحرك شعبي على أنه مقاومة مستمرة لهذا الانجرار المزعوم، وهنالك من يريد أن يجر الجميع إلى العنف، وهذا تعريف ممكن للانتفاضة، جر الجميع إلى العنف بما هو مواجهة مع الاحتلال، ويحق لأي طرف أو فصيل أو تيار أن يفكر ويسعى لجر الجميع إلى العنف، طالما الواقع أردأ من العنف بكثير، وجوهر نظريات العنف الثوري قائم على جر الجميع للعنف. إلا ان تجربتنا الفلسطينية ربما تقول إن جر الشعب إلى العنف لا تحمد عواقبه إن كان مجرد جر وتوريط دون أي تصور للمواجهة وشكلها وأكلافها، خاصة مع وجود تلك التشكيلة الكامنة ممن ينتظرون أي عنف ليفتكوا بمجتمعهم وبالفلسطينيين ويستغلوا معاناتهم.

الشبان والشابات الذين يقدمون أرواحهم في كل مكان بالسلاح أو بغيره، أدركوا المطلوب منهم وقادهم حسهم السليم للفعل الوطني، والتعامل مع عائلاتهم وعموم شعبهم بمنطق البليد الجاهل الذي يحتاج من يورطه لم يعد لائقا ولا فعالا، هذا السلوك يمتد للتشكيك بالفلسطينيين بعمومهم ودفعهم لطرح الإثباتات المستمرة على ما يقدمونه من جهد ونضال، وابتزازهم يوميا لخوض معركة قبل التفكير فيها وأين ستصل، ثم بعد سنوات نسيانهم وتركهم لمواجهة مصيرهم مع الفقد والحرمان والأسى.

الفرصة مواتية لتحويل الحياة إلى مواجهة مستمرة، لتحويل كل بيت على تخوم طرق المستوطنين لمصدر تهديد، الفرصة مواتية لتشكيلات شعبية خارج سيطرة الفصائل لإيصال المزارعين إلى أراضيهم المصادرة في موسم الزيتون، ولإشعال مواجهات عند كل طريق يغلقها الاحتلال بحاجز، الفرصة مواتية لجعل كل اقتحام لاعتقال شاب ليلة مواجهات، والتصالح بل والترحيب بكل ما يمكن أن يلقيه الشبان على جنود الاحتلال وآلياته، الفرصة مواتية للتظاهر أمام المقرات الأمنية عند كل اعتقال لمقاوم ورفض الانسحاب إلى والمقاومون في مأمن، والفرصة مواتية لمقاطعة اجتماعية وأهلية لكل متساهل مع الاحتلال. الفرصة مواتية للتوقف عن انتظار خبر عن عملية في نتانيا تشفي غليلنا البدائي ثم نختبئ في البيوت لنسترق النظر لخبراء المتفجرات الإسرائيليين وهم يفخخون بيت منفذ العملية ويفجرونه، الفرصة مواتية للتساؤل عن كون القيادة الفلسطينية قادرة على حفظ أي تضحيات قادمة ناهيك عن البناء عليها واستثمارها سياسيا، والفرصة مواتية للعمل لإيجاد هذه القيادة. الفرصة مواتية دوما، ليس الآن وحسب، وحتى إن هدأت الموجة المتصاعدة منذ أيام.

إن شئتم أن تسموا ما سبق "انتفاضة"، فسمّوها.

اقرأ/ي أيضًا: من للأقصى؟