15-سبتمبر-2021

إنياتسيو سيلونِه (1900 - 1978)

ألترا صوت – فريق التحرير

فونتَمارا قصَّة قريةٍ في إيطاليا الجنوبيَّة تحت الحكم الفاشيِّ؛ أو هي بالأحرى قصة دمارها على أيدي الفاشيِّين. هي حكاية فلَّاحين تعساء، جرَّدَهم الأسيادُ من ممتلكاتهم، واستغلُّوهم. إنَّها عملٌ أدبيٌّ متينٌ، موجزٌ، ترويه بلاغة الأحداث الحيَّة. صفحاتٌ تطفح بالحقد على الدِّكتاتوريَّة، ودعوةٌ إلى التَّضامن والأخوَّة الإنسانيَّة.

يقول إنياتسيو سيلونِه (1900 - 1978) في تقديم روايته: "لقد خلعتُ هذا الاسمَ فونتَمارا على مكانٍ قديمٍ مظلمٍ، يقطنه فلَّاحون فقراء، ويقع في مارسيكا إلى الشَّمال من بحيرة فوتْشِينو المجفَّفة، في فم وادٍ بين الهضاب والجبل. ثمَّ علمتُ فيما بعد أنَّ هناك أماكن في جنوبيِّ إيطاليا تحمل هذا الاسم. وأشَدُّ من هذا خطورةً ما علمتُه من أنَّ الأحداث التي رويتها بأمانةٍ في هذا الكتاب قد جرت فعلًا في أماكن مختلفةٍ، وإن لم تقع كلُّها في الفترة عينها. ثمَّ يقول: "ففونتَمارا إذًا تشبه من جوانب عديدةٍ كلَّ قريةٍ جنوبيَّةٍ، بعيدةٍ بين السَّهل والجبل، معزولةٍ عن طرق المواصلات، ومتأخِّرةٍ -تبعًا لذلك- ومهمَلةٍ، وتعاني من الشَّقاء أكثر من سواها. إلَّا أنَّ لفونتَمارا مع ذلك بعض السِّمات الخاصَّة. والفلَّاحون الفقراء –بمختلَفِ لغاتهم- الذين يستثمَّرون الأرض، ويقاسون الجوع، إنَّما يتشابهون في جميع أنحاء العالم. إنَّهم على وجه الأرض شعبٌ قائمٌ بذاته، ومذهبٌ قائمٌ بذاته كذلك".

رواية إنياتسيو سيلونِه ستصدر قريبًا عن منشورات المتوسط وقد ترجمها عن الإيطاليَّة عيسى النَّاعوري، وراجعها وحرَّرَها وفقًا للطَّبعة الأخيرة أمارجي. هنا مقتطف.


في أوَّل حزيران من العام الماضي بقيَتْ فونتَمارا لأوَّل مرَّةٍ بلا إنارةٍ كهربائيَّة. وفي اليوم الثَّاني والثَّالث والرَّابع من حزيران استمرَّ الحالُ في فونتَمارا بلا إنارةٍ كهربائيَّة، وكذلك في الأيام التَّالية، وفي الأشهر التَّالية أيضًا، إلى أن اعتادت فونتَمارا من جديدٍ على نظام الاستنارة بضوء القمر؛ وكانت من قبل قد ظلَّت نحو مِائة عامٍ، قبل أن تنتقل من ضوء القمر إلى الضَّوء الكهربائيِّ، وهي تستعين بزيت الزَّيتون والبترول. أمَّا للعودة من النُّور الكهربائيِّ إلى نور القمر فلم تحتج إلى أكثر من ليلةٍ واحدة.

الشُّبَّان لا يعرفون التَّاريخ، أما نحن الشُّيوخ فنعرفه. كلُّ المستحدَثات التي حملها إلينا أبناء مقاطعة بييمونتِه على مدى سبعين عامًا تتلخَّص في أمرين: النُّور الكهربائيُّ والسَّجائر. أمَّا النُّور الكهربائيُّ فقد استردُّوه، وأمَّا السَّجائر؟ فليختنقْ كلُّ مَن دخَّنها ولو مرَّةً واحدة. فالغليون كان على الدَّوام كافيًا لنا.

لقد أصبحت الكهرباء في فونتَمارا مع الأيَّام شيئًا طبيعيًّا، كضوء القمر، بمعنى أنَّه لم يكن أحدٌ يدفع ثمَّنها. لم يدفع أحدٌ ثمَّنها منذ أشهرٍ عديدةٍ؛ وماذا كنَّا نستطيع أن ندفع ثمنًا لها؟ في الآونة الأخيرة لم يعد حتَّى جابي البلديَّة يجيء ليوزِّع علينا الفواتير الشَّهرية للضرائب المتأخِّرة؛ تلك الورقة المعتادة التي كنَّا نستخدمها في شؤوننا المنزليَّة. وفي المرَّة الأخيرة التي جاء فيها المحصِّل لم يكد يسلم بجلده، وكاد يسقط جثَّةً هامدةً عند مدخل القرية بطلقةٍ ناريَّة.

لقد كان على قدْرٍ كبيرٍ من الاحتراز، فما كان يجيء إلى فونتَمارا إلَّا والرِّجال في أعمَّالهم، فلا يكون في البيوت غير النِّساء وبعض البهائم. ولكن لا يمكن للمرء أن يكون محترزًا بما يكفيه شرَّ الآخرين. كان يُبدي دماثةً ولطفًا، فيوزِّع أوراقه مشفوعةً بابتسامةٍ بلهاء ورحيمة، ويقول: "خذوها، أرجوكم؛ لا تظنُّوا بها الظُّنون؛ ورقةٌ كهذه قد تكون دائمًا ذات نفعٍ للأسرة!".

ولكن لا يمكن للمرء أن يكون دمِثًا بما يكفيه شرَّ الآخرين. بعد أيَّامٍ أفهمَه حوذيٌّ خارج حدود فونتَمارا - فهو لم يعد يضع قدمه في فونتَمارا- أنَّ الطَّلقة التي كادت تُودي بحياته ربَّما لم تكن مصوَّبةً إليه، إلى شخصه، إلى شخص (إينُّوتْشِنْسو لالِجِّه) بل بالأحرى إلى الضَّريبة. ولكن مع ذلك، لو أنَّها أصابت الهدف لما قتلت الضَّريبة، بل لقتلته هو. لذلك لم يعد بعدها إلى القرية، ولم يحزن أحدٌ فيها لغيابه. ولم يخطر بباله أن يحثَّ البلديَّة على اتِّخاذ إجراءٍ قضائيٍّ ضدَّ أهل فونتَمارا.

وقد قال مرَّةً: "لو كان من الممكن الحجزُ على القمل الذي لديهم وبيعُه، لكان من الممكن أن تفيد الإجراءات القضائيَّة ضدَّهم. ولكن حتَّى لو أمكن الحجزُ على القمل فمن ذا الذي سيشتريه؟".

كان مقرَّرًا أن يُقطَع النُّور في أوَّل كانون الثَّاني، ثمَّ في أوَّل آذار، ثمَّ في أوَّل أيَّار. ثمَّ قيل إنَّه: "لن يُقطَع أبدًا. يبدو أنَّ الملكة كانت تعارض القرار. سترون كيف أنَّ النُّور لن يُقطَع". ثمَّ قُطِعَ في أوَّل حزيران.

كانت النِّساء والأطفال في البيوت آخرَ مَن فطنَ إلى الأمر. أمَّا نحن، وقد كنَّا عائدين من أعمَّالنا – منَّا أولئك الذين يعملون في المطاحن ثمَّ عادوا من الطَّريق التي تسير عليها العربات، ومنَّا أولئك الذين كانوا في جهة المقبرة وعادوا نازلين من الجبال، ومنَّا أولئك الذين كانوا يعملون في حفر التُّراب وعادوا سائرين بمحاذاة الخندق، ومنَّا أولئك الذين كانوا يعملون بأجرٍ يوميٍّ وعادوا من جميع الجهات فما كاد يهبط الظَّلام وما كدنا نرى أنوار القرى القريبة تشتعل، وفونتَمارا يختفي لونها، وتغيب وراء حجابٍ، وينسدل عليها الضَّباب، فلا تتميَّز عن الصُّخور والأسيجة وأكوام الزِّبل البلديِّ، حتَّى أدركنا الحقيقة في الحال. (لقد فاجأَنا ذلك ولم يفاجئْنا).

أمَّا لدى الأولاد فقد كان ذلك مدعاةً للمزيد من الهتافات. ولم تكن تتوافر لأولادنا، عادةً، دواعي الصِّياح والهتاف، فكان المساكين إذا وجدوا الوسيلةَ إلى ذلك اغتنموا فرصتها. كذلك كان شأنهم إذا وصلت إلى القرية درَّاجةٌ ناريَّةٌ، أو إذا تجامعَ حماران، أو اشتعلت النَّار في مدخنة.

حينما وصلنا إلى القرية وجدنا في وسط الطريق الجنرال بالديسِّيرا يصرخ ويلعن. وكان من عادته في الصَّيف أن يعكف على ترقيع الأحذية إلى ساعةٍ متأخِّرةٍ، أمام منزله، على ضوء مصباح الشَّارع الكبير؛ والآن انقطع عنه النُّور. كان بعضُ الحثالةِ قد أحاطوا بطاولته، فخلطوا كلَّ ما عليها من أدواتٍ، وسكاكين، ومسامير، وخيطانٍ، وصِباغٍ، وقطع جلدٍ، وسكبوا وعاء الماء القذر على قدميه، فكان يصيح بصوتٍ مرتفعٍ جدًّا ويلعن قدِّيسي الأماكن المجاورة، ويستشهد بنا نحن القادمين عمَّا إذا كان رجلٌ كفيف البصر مثله يستحقُّ أن يُحرم من نور المصباح، وماذا يمكن أن تقول الملكة مرغريتا في فضيحةٍ كهذه؟!

كان من العسير أن نتصوَّر ماذا تظنُّ الملكة في ذلك.

وكان من الطَّبيعي أن نرى هناك نساءً يتذمَّرن؛ نساءً، ولا طائل من ذكر أسمائهنَّ، يجلسن على الأرض أمام بيوتهنَّ ويُرضعن أطفالهنَّ، أو يُفلِّينَهم، أو يطهين الطَّعام، ويتذمَّرن نادباتٍ كما لو أنَّ هنالك ميِّتٌ؛ كنَّ يتذمَّرن لانقطاع النُّور، كأنَّ الشَّقاء يزداد في الظَّلام اسودادًا.

أمام حانة مارييتَّا، وحول الطَّاولة الموضوعة في الشَّارع وقفنا أنا وميكيل زومبا؛ ولم يلبث أن جاء لوسوردو مع أتانِهِ التي كان قد أخذها ليلقِّحها من حمارٍ آخر؛ ثمَّ جاء بيلاطس البنطيُّ يحمل على ظهره مضخَّة رشِّ الكبريت. وبعد ذلك وصل رانوكيا، وشارابَّا اللَّذان كانا يقلِّمان الأشجار؛ ثمَّ وصلَ بارليتَّا، وفينيردي سانتو، وشيرو زيروندا، وباباسيستو وآخرون كانوا يعملون في حفر التُّراب. وأخذنا نتكلَّم جميعًا حول نور الكهرباء، والضَّرائب الجديدة، والضَّرائب القديمة، والضَّرائب البلديَّة، والضَّرائب الحكوميَّة، ونكرِّر دائمًا الكلام نفسه لأنَّ هذه الأشياء لا تتبدَّل. ومن دون أن ننتبه كان قد وصل رجلٌ غريب. رجلٌ غريبٌ على درَّاجة. كان من الصَّعب أن نتبيَّنَ من يمكن أن يكون في تلك السَّاعة. فتشاورنا فيما بيننا بالنَّظرات. كان غريبًا حقًّا. لم يكن مأمورَ دائرة الإنارة، ولا مأمورَ البلديَّة، ولا موظَّفَ الأمن. كان في مظهره شابًّا أنيقًا ذا وجهٍ لطيفٍ وحليقٍ، وفمٍ ورديٍّ صغيرٍ، كأنَّه قطٌّ. وكان يمسك بمقبض الدَّرَّاجة بإحدى يديه، وهي يدٌ صغيرةٌ لزجةٌ كبطن الوزغة، وفي إحدى أصابعه خاتمٌ كبيرٌ كخواتم الأساقفة، وعلى فردتَي حذائه قماطان أبيضان. مظهرٌ كان غيرَ قابلٍ للفهم في تلك السَّاعة.

فانقطعنا عند ذاك عن الحديث. كان واضحًا أنَّ ذلك الحسُّون الصَّغير إنَّما جاء يحمل إلينا نبأ ضريبةٍ جديدة. ولم يكن ثمَّة مجالٌ للشَّكِّ في هذا. لم يكن من شكٍّ في أنَّه لم يقم بهذه الرِّحلة عبثًا، وفي أنَّ أوراقه ستلاقي المصير عينه الذي لقيته أوراقُ إينُّوتْشِنْسو لالِجِّه. غير أنَّ ما كان يحتاج إلى إيضاحٍ كان شيئًا آخر: على ماذا كان من الممكن أن تُفرَضَ ضريبةٌ جديدة؟ كان كلُّ واحدٍ منَّا يفكِّر في هذا بمفرده، فيما هو يجول بنظراته على الآخرين متسائلًا، ولكن لم يتوصَّل أحدٌ إلى معرفة الجواب. أتُراهم سيفرضون ضريبةً على نور القمر؟!

في تلك الأثناء كان الغريب قد سأل مرَّتين أو ثلاثًا، بصوتٍ كصوت عَنْزٍ صغيرةٍ، أن يدلَّه أحدٌ على "منزل أرملة البطل سوركانيرا".

كانت مارييتَّا واقفةً هناك، على عتبة الحانة، وكانت تملأ فضاءَ الباب ببطنها الضَّخمةِ، فقد كانت حبلى للمرَّة الثَّالثة أو الرَّابعة منذ أن مات زوجُها في الحرب. وكان الزَّوجُ قد ترك لها وسامًا فضِّيًّا وراتبَ تقاعدٍ، ولكن من المرجَّح أنَّه لم يترك لها الحبَل ثلاث مرَّاتٍ أو أربع. ويقال إنَّه بسبب مجد زوجها كانت لها بعد الحرب صلاتٌ بأناسٍ ذوي شأنٍ، وأنَّ هؤلاء أخذوها مرَّتين إلى روما، وقدَّموها إلى السُّلطات، والتقطوا لها الصُّوَر، وقدَّموا لها طعامًا وشرابًا، وجعلوها تمشي في طابورٍ مع مئاتٍ من الأرامل بخطىً سريعةٍ تحت شرفات القصور. ثمَّ لم يعودوا يوجِّهون إليها الدَّعوات بعد ذلك بسبب تكرُّر حملها.

وكنَّا نسألها: "لماذا لا تتزوَّجين من جديد؟ إذا كانت حياة التَّرمُّل لا تناسبك ففي وسعك أن تتزوَّجي مرَّةً أخرى".

فكانت تجيب: "إذا أصبحَتْ لي أسرةٌ جديدةٌ فإنَّني سأفقد مرتَّبي كأرملة بطل. كذلك يقضي القانون، ولهذا فأنا مضطرَّةٌ إلى البقاء أرملة".

وكان بعض الرِّجال يؤيِّدون رأيها، أمَّا النِّسوةُ فكُنَّ يبغضنها.

كانت صاحبة الحانة، إذًا، تعرف كيف تتصرَّف مع الرِّجال البارزين. فأجلسَتِ الغريبَ بجانب الطَّاولة. فأخرج من جيبه بعض الأوراق الكبيرة ووضعها على الطَّاولة.

فلمَّا رأينا الأوراق راحَ ينظر بعضُنا إلى بعضٍ، ولم يعد لدينا شكٌّ. كنت الأوراق هناك (أوراق الضَّريبة الجديدة). بقي أن نعرف نوع الضَّريبة المقصودة.

وفعلًا شرع الغريب يتكلَّم، وفهمنا في الحال أنَّه واحدٌ من أهل المدينة. ومِن كلِّ ما قاله لم نفهم سوى ألفاظٍ قليلةٍ، فلم نفهم نوع الضَّريبة التي جاءنا بها. أتُراها ضريبةٌ على نور القمر؟!

وصار الوقت متأخِّرًا، وكنَّا ما نزال هناك مع أدوات العمل، مع المجارف، والمعاول، والمناكيش، والغرابيل، ومضخَّة رشِّ الكبريت، وأتانِ لوسوردو؛ فأخذ البعض يغادرُ المكان، وسمعت أصوات الزَّوجات ينادين أزواجهنَّ من بعيد. لقد ذهب فينيريدي سانتو وباباسيستو، وبارليتَّا، وبقي شارابَّا ورانوكيا يُصغيان بضعَ هُنيهاتٍ أخرى إلى حديث ابن المدينة المسهب، ثمَّ انصرفا بدورهما. أراد لوسوردو أن يبقى، غير أنَّ أتانه كان قد نال منها التَّعب فاضطرَّته إلى الذَّهاب.

وبقينا ثلاثةً مع ابن المدينة الذي استمرَّ في الحديث، وبين الفينة والفينة كان ينظر بعضُنا إلى بعضٍ ولكنَّ أحدًا منَّا لم يكن يفهم شيئًا من كلامه. أريد أن أقول إنَّ أحدًا منَّا لم يفهم على أيِّ شيءٍ فُرِضَت ضريبةٌ جديدة.

وانتهى الغريب أخيرًا من الكلام، فالتفت إليَّ إذْ كنت أقربَ الجميع إليه، وقدَّم إليَّ ورقةً بيضاء وقلمًا وقال لي: "وقِّع".

لماذا أوقِّع؟ وما شأن التَّوقيع في هذا؟ من حديثه المسهب كلِّه لم أفهم عشر كلماتٍ. ولكن، حتَّى وإن فهمتُ حديثه كلَّه فعلامَ التَّوقيع؟ ونظرتُ إليه دونما مبالاةٍ ولم أعبأ حتَّى بالرَّدِّ عليه.

فالتفت الرَّجل عندئذٍ إلى الفلَّاح الذي كان بالقرب منِّي، ووضع الورقة أمامه، وقدَّم إليه القلم وقال له: "وقِّع، وستصبح بذلك ذا شأنٍ".

ولم يجبه هذا أيضًا بل راح ينظر إليه دونما مبالاةٍ على الإطلاق كما لو كان شجرةً أو حجرًا. فالتفتَ الغريب إلى الفلَّاح الثَّالث ووضع الورقة أمامه، وقدَّم إليه القلم وقال: "ابدأ أنت وسترى كيف أنَّ الآخرين سيوقِّعون بعدك".

ولكن كأنَّما كان يخاطب الجدار. لم يتكلَّم أحد. فإذا كنَّا لم نفهم شيئًا ممَّا كان يعنيه، فلماذا يجب أن نوقِّع؟

كنَّا إذًا ننظر إلى الرَّجل من دون أن ننبسَ بكلمة، فثارت ثائرته، وخرج عن كلِّ حدود الاتِّزان، ومن الطَّريقة التي كان يتكلَّم بها خُيِّل إلينا أنَّه كان يشتِمنا. لقد كنَّا ننتظر أن يحدِّثنا عن الضَّريبة الجديدة إلَّا أنه كان يتحدَّث عن شيءٍ آخر. وفي لحظةٍ ما تناول سوطًا كان معلَّقًا على مقعد الدَّرَّاجة وجعل يلوِّح به في وجوهنا حتَّى كاد يمسُّ به وجهي، وهو يصرخ بي: "تكلَّم، تكلَّم. كلب، دودة، لعين! لماذا لا تتكلَّم؟ لماذا لا تريد أن توقِّع؟".

لكي أفقد صبري، فهذا يتطلَّب شيئًا آخر معي. ولكنَّني أفهمتُه أنَّنا لم نكن أغبياء.

أفهمتُه أنَّنا فهمنا ما يريد، وأنَّ شقشقاتِ لسانه كلَّها لم تستطع أن تنزع من رؤوسنا اقتناعنا بأنَّ الأمر يتعلَّق بضريبةٍ جديدة. وقلت له بملل: "الخلاصة، أسرع واشرح لنا ما نوع الضَّريبة الجديدة".

فنظر إليَّ الرَّجل كأنَّني كنت أحدِّثه بالعبريَّة، ثمَّ قال بيأس: "نتحدَّث ولا يفهمُ بعضُنا بعضًا. نتكلَّم لغةً واحدةً، ولكنَّنا لا نتكلَّم اللُّغة نفسها!"

كان ذلك صحيحًا، ومن الذي لا يعرف هذا؟ ابنُ المدينة والفلَّاح لا يفهمُ أحدُهما الآخرَ إلَّا بصعوبةٍ كبيرة. وحينما كان هو يتكلَّم كان مدنيًّا، ولم يكن بوسعه ألَّا يكون مدنيًّا، أو ألَّا يتكلَّم كمدنيٍّ؛ أمَّا نحن فكنَّا فلَّاحين. كنَّا نفهم كلَّ شيءٍ كفلَّاحين، أعني على طريقتنا نحن. أُلوف المرَّات في حياتي لاحظت ذلك: المدنيُّون والفلَّاحون شيئان مختلفان. في شبابي عشت مدَّةً في الأرجنتين، وفي البامبا، وكنت أخاطب فلَّاحين من جميع الأجناس، من الإسبان إلى الهنود، وكان يفهمُ أحدُنا الآخر كما لو كنَّا في فونتَمارا، أمَّا مع الإيطاليِّ الذي كان يجيء من المدينة كلَّ يوم أحد، موفدًا من قبل القنصليَّة، فقد كنَّا نتخاطب ولا نتفاهم؛ أو بالأحرى غالبًا ما كنَّا نفهم عكس ما كانوا يقولونه لنا. هناك في مصنعنا كان بيننا حتَّى فلَّاحٌ برتغاليٌّ أصمُّ، وكنَّا نتفاهم معه دونما كلام، أمَّا مع الإيطاليِّ الموفد من قبل القنصليَّة فلم نكن نستطيع التَّفاهم.

لذلك لم أجد شيئًا من الغرابة حين عاد الغريب يتكلَّم من جديدٍ كلامًا مملًّا لا يكاد ينتهي، ليشرح لنا أنَّه لم يكن يحدِّثنا عن الضَّرائب، وأنَّ لا شأن له بالضَّرائب، وإنَّما جاء إلى فونتَمارا لغرضٍ آخر، وليس هناك ما يترتَّب علينا دفعه، لا شيء إطلاقًا.

ولمَّا كان الوقت قد أصبح متأخِّرًا، وانتشر الظَّلام، فقد راح الرَّجل يشعل عيدان الثِّقاب، وعلى ضوئها يرينا واحدًا واحدًا الأوراق التي يحملها. كانت الأوراق بيضاء حقيقةً، ولم تكن كأوراق الضَّريبة المألوفة التي كانت دائمًا تحمل السَّوادَ فوق بياضها. كانت بيضاء بأكملها، إلَّا في أعلى إحداها فقد كُتب شيءٌ ما. أشعل المدنيُّ عودَي ثقابٍ وقرأ لنا ما كان مكتوبًا عليها: "إنَّ الموقِّعين ههنا، بناءً على ما تقدَّم، يعطون تواقيعهم من تلقاء أنفسهم وبملء إرادتهم وبكلِّ حماسةٍ للفارس بيلينو".

وكان هو نفسُه الفارسَ بيلينو، كما أكَّد لنا.

"ألا تصدِّقني؟"، سألَني.

فأجبته: "هذا جائزٌ، فكلُّ إنسانٍ له اسم".

كانت الأوراق الموقَّعة ستقدَّم إلى الحكومة، وكان الفارس بيلينو قد تسلَّم تلك الأوراق من رؤسائه، وقد تسلَّم زملاؤه أوراقًا أخرى مثلها وحملوها إلى المناطق البلديَّة الأخرى. فلم يكن الأمر إذًا اختراعًا خاصًّا بفونتَمارا، بل كان لجميع القرى، وهو في الخلاصة عريضةٌ ستُرفَع إلى الحكومة، كما قال لنا، وكانت العريضة تحتاج إلى تواقيع كثيرة. أمَّا نصُّ العريضة الحقيقيُّ فلم يكن مكتوبًا؛ والفارس بيلينو لا يعرفه، ويقول إنَّ رؤساءه هم الذين سيكتبونه فيما بعد، أمَّا هو فليس عليه إلَّا أن يجمع التَّواقيع، وعلى الفلَّاحين واجب التَّوقيع، كلُّ واحدٍ منهم عليه هذا الواجب.

وأردف الرَّجل شارحًا: "أتفهمون؟ لقد انتهى الزَّمن الذي كان فيه الفلَّاحون مهمَلين ومحتقَرين، فهناك الآن سلطاتٌ جديدةٌ تحترم الفلَّاحين احترامًا كبيرًا وترغب في معرفة آرائهم. فلتوقِّعوا إذًا. قدِّروا الشَّرف الذي منحتكم إيَّاه الحكومة إذ أرسلت إليكم موظَّفًا يجمع آراءكم".

ترك كلامُه هذا أثرًا لدى مارييتَّا، أمَّا نحن فقد كنَّا ما نزال في شكٍّ وتردُّد. ولكن في تلك الأثناء كان الجنرال بالديسِّيرا قد تقدَّم بعد أن سمعَ الشَّرح الأخير - وأنتم تعرفون عقليَّة صانعي الأحذية - وقال دونما تردُّدٍ: "بما أنَّ شخصكم الكريم يؤكِّد لنا أنَّه ليس هنا ما ينبغي علينا دفعه، فأنا أوَّل الموقِّعين".

ووقَّع هو أوَّلًا. ثمَّ وقَّعت أنا، ولكنَّني -وأستطيع الآن أن أبوح بهذا- كنت حذرًا، فقد وقَّعت باسم والدي المتوفَّى، إذ قلت في نفسي: لا يدري أحدٌ ما الذي قد يحدث. ثمَّ وقَّع بيلاطس البنطيُّ الذي كان بقربي؛ ثمَّ زامبا، ثمَّ مارييتَّا، أمَّا الآخرون فكيف نسألهم أن يوقِّعوا؟ لقد أصبح الوقت متأخِّرًا، فلم يكن من الممكن أن نطوف عليهم بيتًا بيتًا. غير أنَّ الفارس بيلينو اهتدى إلى الحلِّ. ما علينا إلَّا أن نذكر له أسماء أهل فونتَمارا جميعهم فيدوِّنها لديه. وهكذا فعلنا، ولم نختلف إلَّا في حالةٍ واحدة، حول بيراردو فيولا. لقد حاولنا أن نقنع الفارس بيلينو بأنَّ بيراردو لم يكن ليوقِّع بأيِّ ثمَّن، ولكنَّه دوَّنَ اسمه كالآخرين، وقالت مارييتَّا: "الأفضل ألَّا نخبره بذلك، الحكمة تقتضي هذا".

 

اقرأ/ي أيضًا:

مقطع من "زمن القَتْل".. رواية الكاتب الإيطالي إينيو فلايانو

سفيتلانا أليكسييفيتش: ليس للحرب وجه أنثوي