13-يناير-2016

مقطع من خراب حلب (أ.ف.ب/Getty)

كثيرة هي المدن السورية التي تدمرت إما كليًا أو جزئيًا منذ انطلاق الثورة السورية وبدء الأعمال العسكرية في البلد ولكن القصة في حلب مختلفة تمامًا. ليس من باب التفضيل والتمييز عن بقية أجزاء سوريا، بل لأن دمار حلب كان دمارًا للتراث السوري والعالمي أيضًا. كان لتدمير الشهباء عمرانيًا معانٍ كثيرة تبدأ بخسارة واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم وصولًا لفقدان نموذج هندسي فريد يجمع بين التداخل العمراني الخلاب بين ماضي المدينة وتراثها متمثًلا بالقلعة والمسجد الكبير والأسواق والخانات وبين أبنيتها الحديثة التي لا تقل بحجارتها البيضاء وأناقة تفاصيلها جمالًا عن القسم القديم.

كان لتدمير الشهباء عمرانيًا معانٍ كثيرة تبدأ بخسارة واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم وصولًا لفقدان نموذج هندسي فريد

وغالبًا ما يعتبر الكثيرون أن التفكير بما بعد الحرب مرهون بانتهائها كالحديث عن إعادة الإعمار والبناء. ولكن ماذا لو انتهت الحرب فجأة؟ كيف نفكر نحن السوريين ومن أين نبدأ؟ وماهي الأولويات وماهي نقاط القوة والضعف؟ وماهي الصورة التي يراها الأكاديميون والمخططون لسوريا التي نحلم بها؟

انطلاقًا من أهمية وجود استراتيجية واضحة وشاملة للتعامل مع الدمار الناتج عن الحرب تمهيدًا للبدء بعملية إعادة البناء والترميم استضافت جامعة أوروبا الوسطى (Central EuropeanUniversity) في بودابست هنغاريا (مشروع حلب Aleppo project) وهو مشروع متعدد الاختصاصات الهدف منه كما يقول حكم الشعار أحد الباحثين المشاركين به أن يكون منصة تجمع الاختصاصيين وغير الاختصاصيين خصوصًا من أهل حلب وذلك من أجل دراسة عدة جوانب من ماضي وحاضر المدينة بهدف تقديم ما يساهم بإعادة بناء أفضل للمدينة في المستقبل. والنقطة الأهم هي منح منبر للتعبير لمن يتم عادةَ تهميش رأيهم في هكذا قضايا كاللاجئين.


يعتمد المشروع على إجراء استطلاعات سواء بشكل مباشر مع اللاجئين المتواجدين في تركيا والنازحين المتواجدين في الداخل أو من خلال استبيانات يمكن المشاركة بها من خلال موقع المشروع على شبكة الإنترنت. "أجرينا استطلاعًا لتجربة وآراء 1001 شخص من حلب في عدة أماكن وأتحنا جميع الإجابات للباحثين ولغير الاختصاصيين، مترجمةً إلى اللغة الإنجليزية على موقع المشروع TheAleppoProject.com كما يرحب المشروع بمساهمات أهل حلب من خلال سلسلة (مائة ملمح من حلب) وأيضًا أجرينا بعض دراسات السياسات كدراسة تجربة مدينتَي سراييفو وبيروت في إعادة الإعمار مع ربطهما ببعض الإشكاليات المتوقع ظهورها في حلب".

ويجمع اختصاصيون كثر على أن الدمار الذي تعرضت له حلب هو الأقوى والأعنف في تاريخها حتى الآن مع غياب إحصاءات دقيقة عن حجم الخراب بسبب استمرار الحرب. ففي البداية طال الدمار أكثر ما طال البنية الصناعية في حلب ثم امتد بعدها لبيوت المدنيين بسبب براميل النظام المتفجرة.

فروع الأمن والمعتقلات التي كانت شاهدة على تعذيب وموت الكثيرين هي من أكثر الأماكن التي ترفض الذاكرة الحلبية إعادة إنتاجها مستقبلًا

"لم يقتصر الدمار العمراني على سوق المْدينة والمعالم التاريخية كمئذنة الجامع الأموي وفندق الكارلتون (المشفى الوطني سابقًا). فالدمار الأكبر هو في بيوت حلب القديمة من قاضي عسكر شرقًا إلى الجديدة وباب أنطاكية غربًا. هذه البيوت كان يسكنها حوالي مائتي ألف شخص وهم سيحتاجون إلى العودة إلى مساكنهم بعد انتهاء الحرب، لذلك يجب توفير دعم استشاري وقانوني ومادّي كبير لهم من أجل ضمان عدم تشويه الوجه التاريخي للمدينة القديمة، بل وحماية ما تبقى من المباني المتضررة المعرضة للتداعي نتيجة الأمطار وعدم الترميم".


حلب قبل الحرب

ورغم افتقاد السوريين لثقافة التشاور وإبداء الرأي لعقود طويلة إلا أن المشروع لاقى استحسانًا من معظم الحلبيين الذين لم يبدوا أي تحفظ في المشاركة وطرح تصوراتهم عن حلب مستقبلًا. ويضيف الشعار قائلًا: "رغم تغييب الرأي في أمور الحكم والسياسة في سوريا، إلا أنّ ثقافة الاكتراث لمدينة حلب وتراثها منتشرة بين الحلبيين، فهي مصدر فخر وحنين عند الأغلبية العظمى. ولكن البعض بالطبع أظهر تخوفًا بل وحتى تشكيكًا بهدف الدراسة رغم سرية معلومات المشاركين والطبيعة العامة للأسئلة".

أماكن ترفض الذاكرة إعادة إحيائها

تكاد لا تخلو مخيلة أي حلبي من ذكريات ترتبط كل واحدة منها بزقاق شعبي أو سوق أثري أو ساحة تراثية. من يستطيع نسيان روعة التنزه في محيط القلعة؟ أو فنجان قهوة على مقعد خشبي في ساحة الحطب؟ أو متعة السير في خان الحرير؟ هذه الأماكن وغيرها الكثير من المعالم التي يتفق كل الحلبيين على الحنين إليها والرغبة برؤيتها. لكن شوق الذاكرة لأماكن معينة يقابله نفورها من أخرى يمثّل وجودها أو إعادة إحيائها وجعًا كبيرًا .ففروع الأمن والمعتقلات التي كانت شاهدة على تعذيب وموت الكثيرين هي من أكثر الأماكن التي ترفض الذاكرة الحلبية إعادة إنتاجها مستقبلًا.

ففي سؤال ضمن الاستبيان المطروح على المواطنين حول الأماكن التي لا يرغبون برؤيتها في حلب كانت معظم الإجابات هي الفروع الأمنية والقواعد العسكرية. علّق حكم الشعار على ذلك قائلًا: "الفروع الأمنية مثل مبنى المخابرات الجوية كانت مسرحًا لتعذيب وتصفية الكثير من المواطنين النزيهين. هذا المبنى الآن شبه مدمّر كلّيًا. لن يرغب أهل حلب بإعادة بنائه كما كان ويرجح تحويله إلى ساحات اجتماعية أو حدائق. أما بعض الأبنية الأخرى ذات الصيت السيئ فيرى البعض أهمية كبرى في تحويلها إلى متاحف توثق الانتهاكات التي كانت تتم على مدى العقود، وقد يكون لهكذا مشاريع دور في حفظ الذاكرة السورية والتصالح معها".

قبل عام 2011، كان 45٪ من سكان حلب يعيشون في أنواع مختلفة من العشوائيات غالبيتها في نصف المدينة الشرقي وتشكل هذه المناطق 35٪ من مساحة المدينة

أما النسبة الأقل كان جوابهم هو القضاء على العشوائيات. وهذه نقطة مهمة كثيرًا حيث أن العشوائيات كانت بمثابة جدار فاصل بين قسمي المدينة الشرقي والغربي. فالانقسام في حلب ليس وليد الحرب، بل هو موجود قبلها نتيجة عدم عدالة الاهتمام بالمرافق العامة بين شرق المدينة وغربها. فمنذ فترة تداول الحلبيين على مواقع التواصل الاجتماعي ألبوم من 444 صورة جميلة جدًا لحلب بعنوان (حلب قبل الحرب) ويستطيع أبناء المدينة ملاحظة أن كل الصور كانت في القسم الغربي لحلب! وبحسب دراسات مشتركة بين بلدية حلب ووكالة التعاون التقني الألمانية GTZ/GIZ قبل عام 2011، كان 45٪ من سكان حلب يعيشون في أنواع مختلفة من العشوائيات غالبيتها في نصف المدينة الشرقي وتشكل هذه المناطق 35% من مساحة المدينة.

لم تعاني هذه المناطق من سوء التخطيط والبناء وغياب المساحات العامة والخضراء فحسب، بل ومن ضعف الخدمات المقدمة لها كالأرصفة وتعبيد الطرقات. ولم يقتصر ضعف الخدمات على العشوائيات بل شمل أجزاء كبيرة من المدينة القديمة أيضًا. يضيف الشعار: "برأيي لا بد لحلب أن تشهد علاقة صحية أكثر بين شطريها، تكون المساواة في الخدمات والفرص أساسها ولكن ربما مع قبول بقاء جزء كبير من هذه العشوائيات والتي أصبحت أمرًا واقعًا بل وجزءًا من هوية المدينة بالنسبة للكثير من سكانها. ولكن على أي مشاريع لإعادة الإعمار تجنّب إحياء نفس الواقع الذي ولّد الشرخ بين أجزاء المدينة".

إعادة إعمار من تحت الأنقاض!

السيد ع.أ. وهو مواطن حلبي ومهتم بجمع وأرشفة كل ما يخص تراث حلب وثقافتها يرى أن الحديث عن إعادة الإعمار في حلب حاليًا هو أمر غير منطقي في ظل التحوﻻت العميقة والمنهجية اليومية في بنيتها اﻻجتماعية واﻻقتصادية والديموغرافية، نافيًا أيضًا أن يكون هناك اهتمام حقيقي من قبل اللاجئين والمغتربين منذ سنوات في الخارج تحديدًا بالعودة لمدينتهم بعد انتهاء الحرب: "لنكن واقعيين، المغتربون لم يكونوا ليعودوا للعيش في هذه المدينة في الأحوال العادية إﻻ لظروف خاصة محددة وكانت زياراتهم للمدينة موسمية فقط. أما اللاجئون الذين تحولوا تدريجيًا خلال الفترة السابقة لمهاجرين فلا أعتقد أنهم بعد كل ما عانوه لتأمين هجرتهم سيرجعون بسهولة. طبعًا ﻻ أشكك بوطنية أحد وبمحبته لبلده. لكن النازحين الذين بقوا بوضع النزوح ولم يتأمن لهم مكان بديل فلا شك أنه ﻻ بديل أمامهم وﻻ حلم لهم إﻻ الرجوع لبيوتهم".

لكن للسيد حكم وجهة نظر مغايرة فهو يعتقد بأن رغم صعوبة الحديث عن إعادة الإعمار في ظل الجروح العميقة التي ما زالت تشهدها المدينة لكن ذلك لا يمنع من خلق بيئة للحوار والتشاور حول آلية وظروف إعمار المدينة مستقبلًا.. "إعادة الإعمار في مناطق النزاع غالبًا ما يكون هدفها الربح السريع دون عمل اعتبار لحقوق السكان الأصليين أو لخصوصية المدينة. لذلك إذا لم يتم تشكيل وعي حول الموضوع، قد نشهد نفس نوع المشاكل التي كانت من مسببات الثورة بسوريا، مثل عدم المساواة في مستوى الخدمات وانتشار العشوائيات في ظل قصور الخطط العمرانية وآليات تنفيذها".


إعادة الإعمار على طريقة الأسد

ما ينتج عن الحرب من تغييرات ديموغرافية وعمرانية في المدن التي يُعاد إعمارها مجددًا بدأ يتجلى بصورة واضحة في سوريا رغم أن الحرب ما زالت مستمرة. فقد نشرت وسائل إعلام تابعة للنظام مؤخرًا المخطط التنظيمي العام لإعاد إعمار حي بابا عمرو وجوبر والسلطانية في حمص. وجاء في تصريح على لسان محافظ حمص أن "المشروع يضمن حقوق المالكين سواء بالسكن البديل أو التعويض".

ونلاحظ أن النظام لم يكتفِ باستبعاد السكان من المشاركة في التخطيط لإعادة إعمار الحي فقط، بل استبعدهم من الحي بأكمله. وهذه ليست المرة الأولى التي يُخلي فيها النظام أحياء في مدن سورية بذريعة إعادة الإعمار. ففي آب/أغسطس الماضي أصدر النظام أمرًا بإخلاء حي المزة الجنوبي في دمشق. وهو الأمر الذي ألحق الضرر بآلاف العائلات القاطنة فيه. ففكرة نزع الملكية من أصحابها الأصليين مقابل تعويض مادي لا يعادل 1% من قيمة العقار هو انتزاع لحقوق الناس واضطهادهم تحقيقًا لأهداف النظام في التغيير الديموغرافي للأحياء. فمعركة النظام ضد شعبه ليست على الجبهات فقط، وإذا بقينا نعتبر أن الحرب هي انتصار عسكري دون أن نفكر بما بعدها، سنفقد حتى أطلال بيوتنا المهدمة التي نحلم بالعودة إليها.

اقرأ/ي أيضًا:
الاقتصاد في حلب.. مهن الحرب أم مهن القسوة؟
"الحلبيات".. أنوثة رغم أنف الحرب