25-ديسمبر-2015

محمد عبلة/ مصر

أدوس على قدم أحدهم وأوقع حجاب أخرى في طريقي للمقعد الأخير من الحافلة التي اخترت ركوبها دون أن تتوقف، عائدًا من عملي في حي العجوزة بتوافق تام بين الاسم وحالة الشيب المبكر التي أعيشها، انتبه بعد برهة لوضعية جلوسي.. أكتافٌ مشدودة للأمام بشكل مقوس والرجلين مضمومتين في محاولة لتضييق المساحة الشخصية، والاعتذار الضمني أو للتعبير عن الدهشة الممزوجة بعدم الموافقة على ما يحدث في قلب زحمة انصراف الموظفين.

راكب مواطن شريف يريد أن ينزل آخر "الكوبري" وسائق لا يعير انتباهًا خلقا موقفًا اغتصب ألحان أغنية كنت سعيدًا بها غاضًا النظر عن اللحن والكلمات منفصلًا بها عن واقع الشارع المرير امتدادًا لمحطتي.. بات هذا حادثًا يوميًا مع اختلاف الأغنية أو السورة القرآنية.. أنا جزء منتمٍ لهذه المواقف وللحافلة وركابها الموظفين.. كلنا نريد النزول قبل الكوبري، كلنا نستمع لأغنية شيرين "خاينين"، نحن جائعون وننتظر عطلة آخر الأسبوع، نحن ننتقد المواصلات ونركبها، وكلنا بحاجة لحمام ساخن طويل.

في قطار الأنفاق –وأحب الكتابة لمحافظتها على ما تبقى من مصطلحاتي الفصيحة- أحصي عدد فئران سكة الحديد التي تظهر مساء بينما أتسلى بملامح الواقفين المتعبين إذ بالقطار المحدث المكيف يعطيني جرعة من الامتنان لوصوله مبكرًا ولكونه محدّثًا، حيث جعلوا له صوتًا يقول: "الباب يفتح جهة اليسار" بنبرة صوت غبية مضحكة جميلة مستغرِبة يعلنها كأنه يقول: لقد ربحتَ مليون دولار! أو: تم اختيارك كأفضل شخص بالعالم! 

عندما تكون قصيرًا يركب "المترو" لثلاث سنوات لابد للأديب أو المخرج داخلكَ أن ينتفض.. راكب طويل بجانبي يرفع يده متمسكًا بالحديدة كي لا يقع، منتصبة بزاوية قائمة بحركة لا إرادية تنفصل اليد عما حولها وتحدثني: اقترب، هيا لا تخجل!! شُم الإبط، شُمه، تعلم أنك تريد ذلك، هل تريد قضاء الليلة تفكر إن كنتُ أضعُ مزيل عرق أم لا؟ فأقترب وأشم.. والنتيجة اعتيادية.

كلنا نشم وكلنا فضوليون، كلنا نعود للمنزل وحيدينَ نعيشُ في بيت صغير به مرآة كبيرة نخلع أمامها ملابسنا ونصرِّحُ أن لياقتنا جيدة وبحاجة فقط لقليل من الرياضة.. كلنا نحس بأننا لسنا لاجئين سوريين بل مقيمين وأن مرتَّبنا القليل سيفضي بنا لنوع معين من الأمان ولمرتب أعلى ومنزل في حي الزمالك وسيارة قديمة معدلة برسوم هزلية نحبها كثيرًا.. جميعنا يحب هومر سيمبسون ويخاف أن يبلغ كِرشُه كِرشَه، كلٌّ منا لديه جارٌ ذا صوت يمكن أن يعبر عنه بـ" البلغمي" الذي تخرج حروفه جميعها خاءً كنتيجة طبيعية لتدخين الـ"كليوباترا" لعقدين أو ثلاثة و "صباح النور" المبتسمة التي يقابلنا بها صباحاً ولا يمكن الاستغناء عنها.. أنا منكم.

هناك أدبُ مهجر، وأدبٌ ثوري، وآخر للسجون، وللوجدان، ولليسار، أمَّا هذا فأدب الوسط.. أدب إسعاف- رمسيس، والموظفين والمرتَّب والفول والطعمية والكشري ومواقع وصفحات البحث عن فرص العمل، والمنح الدراسية وقُرع الهجرة وجمعيات السكن الشبابي وعروض التقسيط وفاتورة الإنترنت والإيجار والانتماء الحقيقي للوطن القديم والجديد، وللمجتمع المتفهم وفكرة المغترب خفيف الظل واللهجة السورية بجيمٍ مصرية حيث تضيع المعاني في الوسط.. أدبٌ أنتجه منزل بفئران في وسط المدينة، غسالة نصف "أوتوماتيك"، خوفٌ من عنصرية ترامب، أمل بإنسانية ترودو، عمل بمرتب قليل، أغنية لشيرين، شغف مقنن، مستقبل مشرق بفترة انتظار تستهلك الشباب، إقامة سياحية بانتظار إقامة العمل، مشاعر انتماء مختلطة، مخيلة قادرة على استحضار حضنٍ غائب، حبٌّ مع وقف التنفيذ.

اقرأ/ي أيضًا:

الحجارة وجوه معذبين

من أين تأتي الأخبار يوم الجمعة؟