21-ديسمبر-2017

استراتيجية ترامب للأمن القومي، تعود بالولايات المتحدة لأجواء 11 أيلول/سبتمبر (درو أنجيرر/Getty)

نشر موقع "The American Conservative" مقالًا يستعرض ويحلل إستراتيجية الأمن القومي لإدارة ترامب، والتي أُعلن عنها قبل أيّام قليلة، مُستخلصًا في النهاية كيف أنّها تجرّ على البلاد تبعات سياسة الغطرسة الأمريكية الممتدة منذ عقود. إنها "الإستراتيجية القديمة لإشعال الحروب"، بتعبير المقال الذي ننقله لكم مترجمًا بتصرف في السطور التالية.


تُعَد إستراتيجية الأمن القومي لدونالد ترامب لعام 2017، أو كما يتم اختصارها "NSS"، وثيقةً خطيرة. وإذا ما اتبعتها الإدارة الأمريكية خلال السنوات الثلاث المقبلة، فمن المؤكد أنها ستستمر في إرساء الطريقة المتغطرسة للولايات المتحدة خلال السنوات الثلاثين الماضية، ناهيك عن زعزعة استقرار المناطق الرئيسية في العالم، وإيجاد المزيد من الأعمال العدائية، التي لا حاجةَ لها، كما أنها ستزيد من فرص اندلاع الحروب الأمريكية غير الضرورية، ولا سيما ضد إيران.

تنذر إستراتيجية الأمن القومي الجديدة لترامب، باستمرار سياسة الغطرسة الأمريكية، التي تقتات على زعزعة الاستقرار في العالم

وتعتبر أبرز سمات الوثيقة، اقتصارها على حواف السياسات الخارجية للرئيسين جورج دبليو بوش وباراك أوباما، في حين امتلأت بالكثير من سياسات ترامب التي تُنذر بعهدٍ جديد في السياسة الخارجية الأمريكية.

اقرأ/ي أيضًا: أمريكا أولًا.. ما أهم ملامح إستراتيجية الأمن القومي الجديدة لإدارة ترامب؟

في الواقع، هناك أصداء في اللغة تعود إلى أحد أسوأ المذاهب في ربع القرن الماضي: وهي فكرة أن أمريكا يجب أن تمنع أي دولة أخرى من أن تصبح قوةً مهيمنة في أي منطقة، ما يعزز هدفها من الهيمنة العالمية. وقد ساعد هذا الباعث على اندلاع حرب العراق وانهيار العلاقات الأمريكية الروسية، وخلق التوترات مع إيران تحت إدارة بوش الثانية.

ويعود هذا المفهوم إلى تقرير عن التخطيط الدفاعي، وضعته إدارة بوش الأب عام 1992، من قبل الرجال الذين أصبحوا فيما بعد مهندسي الغزو الأمريكي للعراق، خلال سنوات جورج بوش الابن، والذين قد يستحقون لقب "رجال غير حكماء". 

وكانت الوثيقة واضحة بشأن ضرورة أن تحافظ الولايات المتحدة على "الآليات (في إشارة للقوة العسكرية) لردع المنافسين المحتملين، بما في ذلك أولئك الطموحين لأن يتبوأوا دورًا إقليميًا أو عالميًا أكبر". قاد هذا الولايات المتحدة لانتهاج مسلك حجة نشر الحرية في العالم، لتكون غطاءً لأعمالها العدائية، وقد اتضح أنّه مسلك مكلف جدًا وفوضوي.

الغطرسة الأمريكية الممتدة.. على هيئة ترامب

ومع الأخذ في الاعتبار اللغة التي استخدمها ترامب في إستراتيجية الأمن القومي الجديدة، مثل أن يقول: "سوف نستخدم جميع أدوات السلطة الوطنية بدون تردد لضمان ألا تهيمن قوة واحدة على أي منطقة في العالم"، يتضح أن هذه الطريقة في التفكير، تنبع من رجل غير حكيم، لا يختلف كثيرًا عن مجموعة غير الحكماء الذين وضعوا تقرير التخطيط الدفاعي في عهد بوش الأب. إذن، يبدو أن مشروع ترامب لـ"الأمن القومي" الأمريكي هو امتداد للمشروع العالمي الأمريكي منذ عقود خلت.

وبالنظر لموقف الإستراتيجية الأمنية من روسيا، يتبين استمرار المزاج المناهض لروسيا، الذي استولى على المؤسسة الأمريكية في السنوات الأخيرة. فبحسب ما جاء في الوثيقة "تسعى روسيا لاستعادة وضعها كقوةٍ عُظمى، وإنشاء مناطق نفوذ بالقرب من حدودها". وبعبارةٍ أخرى، يمكننا القول إن روسيا تتصرف مثل كل أمةٍ أخرى في العالم قديمًا وحديثًا، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها، التي سعت إلى إنشاء مجالات نفوذ بالقرب من حدودها من خلال مبدأ مونرو، والتي خرقت من خلاله الأراضي الإستراتيجية في المكسيك عن طريق قوة السلاح، وأخرجت به إسبانيا من منطقة البحر الكاريبي من خلال وسائل مماثلة، وهددت بشن حرب نووية مع الاتحاد السوفياتي حتى لا يقوم الأخير بتثبيت صواريخ نووية في كوبا.

المثير للاهتمام أن الوثيقة تنظر إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) على أنّه يُمثّل تهديدًا للولايات المتحدة، وهذا ما يبرز أوجه التناقض في الوثيقة. إذ ربما يكون التهديد الذي مثله الناتو هو وصوله للحدود الروسية وتدخله في الشؤون الداخلية لدول المحيط الروسي والتي كانت جزءًا من مجال نفوذ روسيا. إنّه يُهدد بزيادة التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا، وهو ما لا يمثل سياسة ترامب التي جاء بها منذ حملته الانتخابية، رغم أن الوثيقة نفسها تحمل التهديد والوعيد والانتقاد لروسيا!

من جهة أخرى، لا يوجد أي تغيير في وجهات نظر ترامب حول إيران، التي تحددها الوثيقة باعتبارها "آفة العالم" و"مجموعة صغيرة من الأنظمة المارقة التي تنتهك جميع مبادئ الدول الحرة والمتحضرة". هذا هو نوع اللغة التي تحول بين أي نوع من التقارب قد يحدث مع إيران، ولو استمرارًا لتقارب الاتفاق النووي الإيراني.

الأوصاف التي ينعت بها ترامب إيران، تُذكّرنا بخطابات بوش الإبن التي وصف فيها العراق بـ"محور الشر" قبيل غزوه له.

وفي هذا السياق، تُسلِط وثيقة إستراتيجية الأمن القومي، الضوء على تفكير ترامب الأساسي حول الشرق الأوسط بفقرةٍ مثيرةٍ للاهتمام، جاء فيها: "يعمل بعض شركائنا معنا لرفض الأيديولوجيات الراديكالية، ويدعو القادة الرئيسيون في المنطقة إلى رفض التطرف والعنف الإسلامي".

ويبدو أن ترامب يشير إلى التحالف الناشئ بين السعودية وإسرائيل، وكلاهما يتحركان من دافع تقويض أي نفوذ أو تأثير لإيران في المنطقة. والآن يقول ترامب، إن التهديدين المتلازمين والمتمثلين في التنظيمات الجهادية وفي إيران، وفقًا له، "يثبتان أن إسرائيل ليست سببًا لمشاكل المنطقة". بالتأكيد سيقول ذلك وهو يرى دولًا في المنطقة وجدت المزيد من المصالح المشتركة بينها وبين إسرائيل.

تعرف المنطقة تحالفًا جديدًا دفع إليه ترامب، أعضاؤه إسرائيل، والسعودية وحلفائها، ومنطلقه الأساسي هو عداء إيران

من الواضح الآن، وفق إستراتيجية الأمن القومي الجديدة، أن الولايات المتحدة مع إسرائيل والسعودية، يقفون جميعًا في خندقٍ واحدٍ معادٍ لإيران. وهذا يُعد خروجًا واضحًا عن سياسة أوباما، التي تصدت لكلٍ من إسرائيل والسعودية أثناء متابعته الاتفاق النووي الإيراني التاريخي. وقد سحب ترامب أمريكا بشكلٍ أساسي من تلك الصفقة، حيث أنه زاد من خطابه المعادي لإيران بصورةٍ كبيرة. وهذه بالتأكيد لعبةٌ خطيرة.

اقرأ/ي أيضًا: "الحل الصيني" يُزاحم أمريكا ببطء على قيادة العالم

فيما يخص الصين، قال عنها ترامب، إنها "تسعى لإزاحة الولايات المتحدة من منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتوسعة نطاق نموذجها الاقتصادي الذي تحركه الدولة، وإعادة تنظيم المنطقة لصالحها". إنها حقيقة، وسوف يكون على الولايات المتحدة أن تقرر ما إذا كانت ستسمح لنفسها بأن تُزاح من منطقة المحيط الهادئ، التي هيمنت عليها منذ الحرب العالمية الثانية.

ويبدو هذا تساؤلًا عميقًا للعواقب الجيوسياسية، وربما أكثر القضايا التي تُنذر بالسوء، والتي تزعزع استقرار العالم في الوقت الحالي. عندما تُنازِع القُوى الصاعدة القوى التقليدية في المناطق الإستراتيجية الهامة، مثلما فعلت إسبارطة مع أثينا، وألمانيا مع إنجلترا، يحدث شيء من ثلاثة أشياء: تتراجع القوى الصاعدة، أو ترضخ القوى التقليدية، أو يكون ثمة حرب.

تُعَد هذه مسألة سوف تواجهها أمريكا في وقتٍ قريب نسبيًا، كما أن ترامب على حق في تعريفها بكل مضامينها الصارخة. لكن ذلك هو السبب الآخر لأن تتوصل الولايات المتحدة إلى تفاهماتٍ مع روسيا، وهي خصمٌ تقليدي للصين، ويحتل موقعًا استراتيجيًا على حدود الصين، ويتخذ وضعًا يسمح له بأن يكون حليفًا هامًا للولايات المتحدة في أية عداوات مستقبلية مع الصين.

والحسرة، أن وثيقة ترامب لا تبرهن على أي تقدير لهذه الحقيقة الجيوسياسية الجوهرية. لا شك أنها تُبقي على التسوية المتهورة للإدارتين السابقتين للتحديق إلى القوى الإقليمية التي تتسبب في العواقب الموجودة في كل مكانٍ حول العالم. إذا وجدت أمريكا نفسها في مواجهةٍ عدائيةٍ مع الصين في شرق آسيا، وهو ما يبدو مرجحًا إذا لم يكن محتومًا، فلن تكون قادرة على تحمُل هذا المبدأ المختل والمُضعف.

تراجع ترامب، فيما يتعلق بأوروبا، عن تصريحه الذي أطلقه خلال الحملة الانتخابية بأن الناتو قد أصبح "باليًا" بتعبيره، يحمل ذلك ضمنيًا، سياسةً جديدةً في الأساس تجاه الحلف الأطلسي، فهو الآن يرغب ببساطةٍ في مزيد من الأعضاء لينفقوا مزيدًا من المال على الدفاع، ويلتمس تأييد الدور التقليدي للناتو في مواجهة التهديد المتصور القادم من روسيا. إذ إن الكثير من التغيير الملحوظ في الآفاق مفاده أن يعكس الحقائق الجديدة المتعلقة بعصر ما بعد الحرب الباردة.

فضلًا عن أن المبدأ الآخر الذي يبدو أنه يشكل الأساس للآفاق الجيوسياسية لترامب، هو الكذبة الشائعة التي تشير إلى منع بلدان الشرق الأوسط من أن تكون "ملاذًا آمنًا" للإرهابيين. وهذا ما يُبقِي الولايات المتحدة في أفغانستان في ظل الإضافة الجديدة التي أقرها ترامب لزيادة عدد الجيش هناك بأربعة آلاف مقاتل من القوات، بعد أن قال خلال حملته إنه سوف يُخرج أمريكا من الصراع المستمر.

تحتوي الوثيقة أيضًا على إشارات حول الفكرة القديمة التي تشير إلى أن إعادة تشكيل الأمم الأخرى على نفس الصورة الأمريكية، سوف يعزز الاستقرار العالمي، والأمن الأمريكي. وتعهد ترامب بأنه :"سيعزز التأثير الأمريكي لأن عالمًا يدعم المصالح الأمريكية ويعكس مبادئنا يجعل أمريكا أكثر أمنًا وازدهارًا". وهذه ثرثرة، فالعالم لن يدعم المصالح الأمريكية لأن العالم يتشكل من دولٍ قومية لديها مصالحها الخاصة. كما أن العالم لن يعكس المبادئ الأمريكية لأن هذه الدول القومية هي نتاجٌ لحضاراتٍ أخرى لها مبادئها المقدسة الخاصة. وهذا هو الطيش الذي أسهم في كوارث السياسة الخارجية خلال إدارة جورج بوش.

ما تنص عليه وثيقة ترامب من تشكيل العالم على الصورة الأمريكية، محض ثرثرة فارغة لأن العالم ببساطة يتكون من أمم لها مصالحها الخاصة

بيد أنه في العموم لا تُفعَّل إستراتيجية الأمن القومي هذه سوى القليل لسحب الولايات المتحدة بعيدًا عن النزعات والمفاهيم التي استرشدت بها السياسة الخارجية الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة. إذ إن طموح الهيمنة العالمية، والتداخل مع روسيا عبر جيرانها من الدول، ودفع حلف الناتو شرقًا، والنزعة الحربية تجاه إيران، والطموح بإعادة تشكيل الشرق الأوسط، والتواجد العسكري المستمر في المنطقة، والمغامرة الأفغانية المستمرة، وتبني الطموح الإسرائيلي والسعودي في المنطقة، والالتزام بأهداف الناتو التي عفا عليها الزمن؛ تبرز جميعها باعتبارها أعمدة تتأسس عليها السياسة الخارجية لترامب، مثلما كانت أسسًا للسياسة الأمريكية منذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر. لقد كان ترامب منتدبًا، إذا كان يمتلك حقًا في أي وقت من قبل أي نية جادة لتغيير اتجاه الولايات المتحدة في العالم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 ترامب يعود بأمريكا إلى أجواء 11 سبتمبر

ترامب لن يجعل أمريكا "عظيمة" مرة أُخرى!