13-سبتمبر-2022
queen elizabeth

إليزابيث الثانية وخلفُها تشارلز الثالث (Getty)

مع رحيل ملكة بريطانيا، إليزابيث الثانية، عن عمرها الذي بات معروفًا للقاصي والداني بفضل التغطية الإعلامية الواسعة لوفاتها وتفاصيل حياتها وسمات شخصيتها، وبعد فترة سبعة عقود من جلوسها على عرش إمبراطورية كانت يومًا تعرف بأنها "لا تغيب عنها الشمس" نظرًا لامتدادها في الزمان والمكان الاستعماريين في العصر الحديث، خرجت إلى العلن ردود فعل كثيرة للتذكير بالتاريخ الكولونيالي الإنجليزي الذي لطالما اتسم بحسب ما يؤكد المختصون بالوحشية والعنصرية والاستغلال والنهب، وهي الأرضية المشتركة لمعظم المشاريع الاستعمارية الحديثة. 

الحزن على رحيل إليزابيث الثانية مسألة معقدة وغير مجمع عليها، رغم الحرص الإعلامي الغربي في عمومه على عولمة هذا الحزن والحداد وجعله كونيًا ومحل اتفاق مطلق

هذا التاريخ جعل مسألة الحزن العام على رحيل إليزابيث الثانية مسألة معقدة وغير مجمع عليها، رغم الحرص الإعلامي الغربي على عولمته وجعل الحداد على الملكة يبدو وكأنه كوني ومحل اتفاق مطلق بين البشر. فهذا المسكوت عنه اليوم في الإعلام السائد، بدا حاضرًا وبقوة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تكرر التأكيد على أن تاريخ الإمبراطورية البريطانية الاستعماري ليس مجرد تاريخ عابر وانقضى، بل إرث فترة ما تزال العديد من آثارها وتبعاتها ممتدة ولم تنقطع، كما أنها لم تعالج.

وعليه فإن الملكة لم تكن موضع محبة العالم كما يحب البعض أن يتصوّر، بل ربما يكون العكس هو الصحيح. إذ كثيرًا ما توصف إليزابيث الثانية بأنها طرف مشارك في إرث هذا التاريخ الاستعماري البريطاني وشاهد عليه، خاصة في إفريقيا وآسيا والكاريبي، وهو تاريخ يعج بالفظائع البشرية، ولم تعتذر عنه بريطانيا حتى اليوم، كما لم تبادر الملكة الراحلة لفعل أي شيء إزاءه، على سبيل تعويض الشعوب التي استعمرت والتكفير عن معاناتهم. 

إرث استعماري

"لا يمكنني أن أحزن"، غردت إحداهن على تويتر، وأرفقت تغريدتها بجواز سفر جدتها التي منعتها سلطات الانتداب البريطاني من السفر إلى خارج بلادها، مما يشير إلى تقييد وحظر لحرية التنقل فرضه البريطانيون في جمهورية كينيا في القارة الأفريقية. تغريدة أخرى نشرتها سيدة أشارت فيها بالقول "جدتي كانت تروي لنا كيف تعرضوا للضرب من القوات البريطانية وكيف تم اعتقال الرجال فيما تركت النساء لإعالة الأطفال"، وأضافت "لا يمكن أن ننسى هؤلاء الرجال، إنهم أبطالنا" مشيرة إلى كونها أن جدتها "نجت لتخبر قصتها".

وكثيرون طالبوا على وسائل التواصل الاجتماعي بفتح دفاتر مرحلة الاستعمار البريطاني في العالم، ومعرفة آراء الشعوب التي خضع آباؤهم وأجدادهم لنير الاستعمار، وتداولوا مقاطع وثائقية وصورًا تذكّر بجرائم الاستعمار وانتهاكاته بحق البشريّة. 

فجمهورية كينيا مثلًا كانت خاضعة للحكم البريطاني منذ عام 1895 وتمت تسميتها رسميًا مستعمرة بريطانية في عام 1920 وظلت تحت الاستعمار حتى نالت استقلالها عام 1963، بعد أن خضعت للحكم البريطاني طيلة 68 عامًا. وتوصف هذه الحقبة بكونها كارثية، سيما وأنها اتسمت بالحروب بين البريطانيين والقوات الكينية الحليفة لهم وبين ثوار الماو ماو ونتج عنها مقتل 11 ألف شخص فيما أعدمت القوات البريطانية حوالي 1100 شخص شنقًا وتمت هزيمة الثوار بعد اعتقال قائدهم. وقد نفذت الإدارة الاستعمارية البريطانية أعمال تعذيب وحشية، شملت الإخصاء والاعتداء الجنسي في معسكرات الاعتقال الكبيرة التي ضمت عشرات آلاف المعتقلين.

للمزيد اقرأ هنا عن دور بريطانيا الدموي في الحرب الأهلية النيجيرية

ذاكرة الشعوب

الناشط الحقوقي والكاتب النيجيري الأمريكي فاروق كبيروجي قال في حديث مع شبكة "سي أن أن" الأمريكية: "لا يكمن فصل ذاكرة الشعوب الأفريقية تجاه بريطانيا عن ماضيها الاستعماري"، وأضاف "اعتلت الملكة العرش في ظل الاستعمار واتسمت حقبتها بالاستعمار ولا زال صدى ذلك مستمرًا حتى اليوم"، وتابع البروفيسور في جامعة كينيساو في الولايات المتحدة الأمريكية بالقول "كان يقال إن الشمس لا تغرب عن الامبراطورية البريطانية في إشارة إلى امتداد استعمارها الجغرافي في أنحاء العالم، ولذلك فإن التعاطف والرحمة على رحيل الملكة إليزابيث لا يمكن أن يمحو هذا الماضي أبدًا".

أما الكاتبة البريطانية نظيفة محمد، فقالت في مقال لها في صحيفة لوس أنجلوس تايمز: من المحتمل أن تُدفن إليزابيث نفسها في قلعة وندسور، حيث المقبرة التي تضم رفات الأمير أليمايهو، الابن الشاب للإمبراطور الإثيوبي تيودروس الثاني، والتي رفضت الملكة استخراجها من أرضها وإعادتها إلى إثيوبيا.وعليه، فإن الحديث والجدل حول العدالة والتاريخ سيستمران اليوم، وربما يتصاعدان خلال الفترة المقبلة". 

صورة المرأة البيضاء 

زارت الملكة القارة الأفريقية لأول مرة عام 1947 في واحدة من زياراتها العديدة والمتكررة حول العالم، التي حرصت فيها على الاطمئنان على حال مستعمرات التاج السابقة. هذه الصورة أدناه، تعود إلى العام 1956، حيث تظهر فيها الملكة وهي في جولة تفقدية على ما سمي حينها "فوج الملكة الخاص" وهو فوج عسكري من الجنود ذوي البشرة السوداء من التابعين للقوات البريطانية وذلك في مطار كادونا النيجيري. لعبت بريطانيا دورًا في الحرب الأهلية النيجيرية حيث وفرت الأسلحة بالسر للحكومة النيجيرية لاستخدامها ضد الولايات المنشقة وأدت تلك الحرب إلى مقتل مليون إلى ثلاثة ملايين شخص.

queen africa

صورة أخرى تظهر الملكة في جمهورية غانا في العام 1961 ويمشي وراءها خدم من ذوي البشرة السوداء حاملين لها المظلة كي لا تصيبها الشمس. يضاف إلى ذلك صور لها وهي محمولة على بهوادج مفتوحة على الأكتاف، وصور أخرى جمعتها مع العديد من زعماء القارة الأفريقية والحكام العسكريين في تلك الدول مما يظهر حجم الدعم البريطاني للاستبداد العسكري والعبودية في تلك القارة وغيرها. 

queen elizabeth

تقديم الاعتذار

وفي جزيرة جامايكا في البحر الكاريبي خرجت احتجاجات في آذار/مارس من هذا العام، من قبل شبكة مناصري جامايكا أثناء زيارة الأمير ويليام وزوجنه كاثرين للجزيرة، استنكر الناشطون الزيارة وأصدروا بيانًا جاء فيه "خلال سنواتها السبعين على العرش، لم تفعل جدتك شيئًا للتعويض والتكفير عن معاناة أسلافنا التي حدثت خلال فترة حكمها ومنها الاستعباد والاتجار بالبشر والاستعمار والعقاب البدني في المدارس وسرقة القطع الأثرية وغيرها"، وذلك بحسب ما أفادت الأسوشيتيد برس حينها. 

طالب المحتجون بالاعتذار الرسمي من قبل الحكومة البريطانية لحكومتهم ودولتهم، والبعض الأخر طالب بتعويضات مالية وآخرون طالبوا بخطوات ملموسة من قبل بريطانيا. إحدى السيدات الناشطات وتدعى ستايسي شين أشارت بالقول للأسوشيتيد برس"يظن هذان الزوجان ومن معهم من البيض أننا سنستقبلهم باعتبارهما قادة بلادنا ويظنون أننا سننحني لهما ونخفض رؤوسنا لهم كأنهما آلهة"، وتابعت بالقول "هذه الأيام ولت والنظام الملكي بات وراءنا ويجب أن نتقدم إلى الأمام ونتحدث عن النظام الديمقراطي".

عضو المجلس الوطني للتعويضات في جامايكا، بيرث صامويل، صرح غير مرّة بالقول: "ثروات دول الكومنولث كانت ملكًا لبريطانيا لم تكن ثروات مشتركة أبدًا بل محتكرة من قبل البريطانيين". وتجدر الإشارة إلى أن الجزيرة خضعت للحكم البريطاني طيلة 300 عام اتسمت خلالها بالكثير من الانتهاكات الانسانية.

"نحن لا نحزن على وفاة إليزابيث لأن رحيلها بالنسبة لنا يذكرنا بفترة مأساوية للغاية في تاريخ بلدنا"، جاء في بيان للجبهة المعارضة في جنوب أفريقيا، وأضاف البيان الذي نشر على تويتر "إن علاقتنا مع بريطانيا كانت مليئة بالألم والخضوع وتشويه لإنسانيتنا".

وأما في الشرق الأوسط، فلا يزال الكثيرون يحملون بريطانيا مسؤولية الأعمال الاستعمارية التي رسمت شكل المنطقة كما نعرفها اليوم وأرست الأساس للعديد من صراعاتها الحديثة ضد إرادة الشعوب ومساعيها في التحرر، بالإضافة إلى المأساة التي أسهمت في خلقها في فلسطين المحتلّة. 

يذكر على سبيل المثال أن البريطانيين قد لجأوا إلى العديد من الأساليب الوحشية في قمع الفلسطينيين فترة الانتداب، وهي أساليب اتبعتها إسرائيل لاحقًا لنفس الأهداف القمعية، ومن ذلك أسلوب الغارات الليلية، والاعتقالات الجماعية، ونسف منازل المقاومين، والتي ما تزال تستخدم ضد الفلسطينيين حتى اليوم. 

زار تشارلز الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 2020، وأعرب عن حزنه الشديد إزاء معاناة الفلسطينيين هناك 

يذكر أيضًا في هذا السياق أن الأمير تشارلز، الذي بات اليوم ملكًا في بريطانيا، قد زار في في كانون الثاني/يناير 2020 الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحدث في تصريحات لوسائل الإعلام عن معاناة الفلسطينيين والمشقة التي يواجهونها يوميًا، وأعرب عن "حزن شديد" إزاء ذلك. إلا أن هذه المواقف النادرة والخجولة ينسفها موقف ثابت وارسخ ضدّ حركات المقاطعة المناهضة للاحتلال الإسرائيلي، ولاسيما في بربطانيا، وصداقته العميقة مع اليهود وقياداتهم فيها، وهو ما دفع وسائل إعلام إسرائيلية مؤخرًا إلى التفاؤل باحتمال أن يقدم تشارلز على زيارة رسمية إلى "إسرائيل"، ليكون بذلك أول ملك بريطاني يزورها.