29-يونيو-2023
لوحة للفنان محمود سعيد

لوحة لـ محمود سعيد/ مصر

شاعران عربيان اجتمعا على صياغة موقف حزين من الأعياد هما المتنبي والمعتمد بن عبّاد. ومن المفارقات أن كلًّا منهما قام برسم السيناريو الحزين الخاص به على خلفية إخفاق سياسيّ، فأحدهما سعى إلى امتلاك السلطة بينما انتزعت عنوةً من الثاني.

فعلها المتنبي بعد أن خاب مسعاه عند كافور الإخشيدي في مصر، وبعد اكتمال دائرة هذه الخيبة افتتح قصيدته الشهيرة عن تلك التجربة بالصرخة التاريخية:

عيد بأية حالٍ عدت يا عيدُ؟     بما مضى، أم بأمر فيك تجديد؟

أيام كثيرة لكنها بشروق وغروب واحد. ولذلك هو جدير بانتزاع لقب "أطول يوم في السنة"، حتى وإن تحدثت التقاويم، بالدليل والبرهان، عن أيام أخرى تمتلك أطول ليلة أو أطول نهار

بينما تذّكرَ المعتمد بن عبّاد، الملك الأندلسي المخلوع والمأسور في أَغْمَات بجنوب المغرب، مجدَه القديم، فراح يبكي على حاله، خصوصًا وأنّ بناته، أميراتِ الأمس، صرنَ حافيات الأقدام، يعملن عند الناس ويتلقين الصدقة والشفقة:

فيما مَضى كُنتَ بِالأَعيادِ مَسرورا    فَساءَكَ العيدُ في أَغْماتَ مَأسورا

تحت تحريض هذا النَّفس الفجائعي المزدوج، الذي بثه هذان الشاعران في وعينا العام، بات التفجع سمةً ترافق موسم البهجة، فالناس حالما يعرفون أنّ أيام الفرح الجماعيّ مقبلة يسارعون إلى فتح خزائن الأحزان، ويستخرجون منها الأكثر إيلامًا، وكأنّ كل واحد منهم خائب المسعى ومخذول كالمتنبي، أو مطعونٌ في كبريائه ملقى إلى المذلّة كابن عبّاد.

ننتهي إلى مثل هذه التصورات دومًا، على الرغم من أن ذكرياتنا الشخصية عن الأعياد مملوءة بالفرح والضحك والمسرة، ففي أزمنة الطفولة يبدأ العيد قبل بدايته فعليًّا، إذ ينطلق فجرُه مع الجولات الواسعة في الأسواق، وحملات النظافة المنزلية، وطقوس صناعة الكعك، وصولًا إلى فجر اليوم الموعود وزيارة القبور والصلاة، ومن ثم التزاور، وبعدها الانطلاق للعب.

أيام كثيرة لكنها بشروق وغروب واحد. ولذلك هو جدير بانتزاع لقب "أطول يوم في السنة"، حتى وإن تحدثت التقاويم، بالدليل والبرهان، عن أيام أخرى تمتلك أطول ليلة أو أطول نهار. فالأمور واضحة في عرفنا؛ للتقاويم أيامها، ولنا أيامنا.

ندخل العيد أطفالًا لنظلّ كذلك. ثمة ما يُوقف الزمن عند اللهو وخلو البال والاستمتاع بأكل الحلوى. وكلما جاء العيد نعود إلى الطفولة، أو تتسلل هي منه إلينا.

بسبب هذه العلاقة الوطيدة مع الطفولة برؤيتها المشرقة للحياة، وبالبعد النفسي العميق لأجواء البهجة الجماعية، نغدو أشدّ قابلية للتأثر بنظرات ميّالة إلى الحزن، وللتشاؤم ربما، مع التقدم في العمر، والغرق في الحياة ومشقاتها، فما الذي نفعله بعودة البراءة المفقودة، أو باستعادتها، في عالم غدا سعيًا لاهثًا وراء تحقيق توازن معيشي غير قابل للتحقق، بما يجعل الحياة سلسلة من محاولات النجاة المستمرة مع كل ساعة، وخلال كل يوم؟

وهنا يقف كلٌّ أمام حقيقة تراجيدية، مختصرها المفيد أن تلك النظرة الطفولية هي ما يُعمّق إحساسنا بالخديعة الكبرى التي أوقعتنا بها الحياة.

ندخل العيد أطفالًا لنظلّ كذلك. ثمة ما يُوقف الزمن عند اللهو وخلو البال والاستمتاع بأكل الحلوى. وكلما جاء العيد نعود إلى الطفولة، أو تتسلل هي منه إلينا

هذا إلى أنّ لدى العيد مشكلة تشبه مشكلة الحياة نفسها، ففيه نتمنى امتلاك أشياء لا نستطيع امتلاكها كأطفال يعيشون عالةً على أهلهم، وبعد أن نكبر ونتمكن من الحصول على تلك الأشياء نتمنى العيد القديم فلا نجده، وهكذا نواجه حقيقتين معًا: الزمن يضيع والحياة تعبث؛ فما الجدوى من تحقيق أماني طفولتنا حينما نكون بلا طفولة؟

في المنفى، وكثيرون منا فيه الآن، يغدو العيد وقتًا قاسيًا للتذكير بالفقدان، لا لفقدانات الطفولة وأمانيها وحسب، فأمام ضياع المكان منا، أو ضياعنا منه، تصبح الاحتفالات محاولات يائسة لاستعادة فردوس مفقود.

ثمة أسباب كثيرة تتنازع في هذه الأيام، لكنّ الواقع يُثبت، يومًا وراء آخر، أن أسباب المتنبي وابن عبّاد هي الأسباب الأكثر جدارة بين كل ما يمكن أن يقال، فالأعياد، في آخر الأمر، ترمينا إلى مساحاتٍ شاسعة من الأسى.