05-سبتمبر-2016

أنور رحماني

تؤكد المعطياتُ عمقَ انخراط الفضاء الجزائري في التكنولوجيات الحديثة، خاصة لدى شريحة الشباب، منها أن الجزائريين يحتلون المرتبة الثالثة عربيًا، بعد المصريين والمغاربة، في الإقبال على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، بما يُشكّل ربعَ عدد السكان البالغ أربعين مليونًا.

 الجزائريون يحتلون المرتبة الثالثة عربيًا، بعد المصريين والمغاربة، في الإقبال على فيسبوك 

رغم هذا التحول غير البسيط والخالق لانزياحات مختلفة على مستوى السلوك والتفكير، إلا أن سلطة النشر الورقي، في أوساط الكتاب والقرّاء الجزائريين، ظلت أكثرَ تأثيرًا من سلطة النشر الإلكتروني، الذي لم تلجأ إليه إلا أقلام قليلة، ليس شغفًا بطبيعة هذا النشر البديل فقط، بل هروبًا من إكراهات النشر الورقي أيضًا، في ظلّ منظومة نشر تقتات على الدعم الحكومي، ويحكمها قانون متعسف ومفروض فوقيًا في مجال الكتاب.

اقرأ/ي أيضًا: الخيّر شوّار.. يبدع "خارج مجال التغطية"

في ظل هذا الواقع الموصوف بالغلق والاحتكار، بادر، قبل أيام، المدون والناشط الحقوقي أنور رحماني (1992) إلى إطلاق نسخة إلكترونية من روايته "مدينة الظلال البيضاء"، مبررًا خطوته هذه برفض دور النشر، التي قصدها أن تنشر له ورقيًا، لأسباب يتعلّق بعضها بطبيعته، بصفته واحدًا من المدافعين عن حقوق الأقليات العرقية واللغوية والدينية والجنسية في الشارع الجزائري، الذي يعدّ من أكثر الشوارع العربية والإسلامية تحفظًا في هذا الباب، فيما تعلقت أخرى بطبيعة متونه الشغوفة باقتحام أقاليمَ ظلت محرمة اجتماعيًا وسياسيًا، رغم الرصيد الكبير للرواية الجزائرية، معرّبة ومفرنسة، في انتهاك المحظورات، وطرح الأسئلة الصادمة بخصوصها.

تقوم أحداث الرواية على عودة فرنسي شارك في ثورة التحرير الجزائرية، خلال خمسينيات القرن العشرين، إلى الجزائر، بعد نصف قرن من الغياب عنها، يُسمّى جان بيار، تيمّنًا بالشاعر الفرنسي وصديق الثورة أيضًا جان سيناك المغتال عام 1973، وفتحه ألبومَ ذاكرةٍ وعلاقةٍ عاطفيةٍ جمعتاه بثوري جزائري يسمّى خالد، منذ أن التقاه في "حي العرب"، إلى أن استشهد على صدره.

يذكر جان بيار أشدَّ اللحظات حميمية في هذه العلاقة، ويسترجعها بعمق كما لو كان يؤدي صلاة في كنيسة، في مقابل عمق آخر في حديثه عن مدينة الجزائر العاصمة، التي يشير إليها عنوان الرواية صراحة، فهي معروفة شعبيًا بـ"الجزائر البيضاء"، ولئن حضرت في متون سردية كثيرة مقترنة بالامتعاض منها أو الأسف عليها، في ظل التراجعات المختلفة التي عرفتها، فقد حضرت في "مدينة الظلال البيضاء" مقرونة بالعشق والأحلام والتحليق إلى السماوات الوردية.

هذه الصورة المثالية للمدينة، في الزمن الفرنسي، وازتها صورة مختلفة للثوار، هدفت إلى أنهم ليسوا متشابهين في أفكارهم وسلوكاتهم وميولاتهم، كما لو كانوا ينتمون إلى عالم الملائكة، مثلما تحاول المنظومة الرسمية تصويرهم دائمًا، لكنهم اشتركوا في نزعتهم الإنسانية الرافضة للظلم والهيمنة ومحاولة طمس ملامح الإنسان والمكان.

وتفاوتت قدرة الكاتب، من فصل إلى آخر، في الوصول إلى أعماق النفس البشرية، في صراعها الوجودي مع ذاتها ومع محيطها، إذ حدث أن قفز أكثر من مرة، على لحظاتٍ حسّاسةٍ إنسانيًا، ما كان له أن يقفز عليها، وركز على أخرى لم تكن بحاجة إلى تركيز، على الأقل في ذاك السياق بالذات، بما جعل الوعيَ بما يمكن أن نسمّيه "لحظة الزووم"، يبدو بحاجة إلى مراجعة وتطوير لديه. فهامش كبير من روائية الرواية، يتحقّق بمعرفة الذات الكاتبة متى تضيء ومتى تعتّم، وما يحتاج إلى إضاءة في مفصل ما، قد يستدعي التعتيمَ عليه في مفصل لاحق، لدواعٍ فنية وجمالية صرف.

هامش كبير من روائية الرواية يتحقّق بمعرفة الذات الكاتبة متى تضيء ومتى تعتّم

اقرأ/ي أيضًا: فتح النور بن إبراهيم.. حين يمرض العرّاب

غير أنّ ما يشفع للمتن، أمام هذه الاهتزازات القابلة للانتباه مستقبلًا، أنه لم يفقد الاحتفاظ بقدرته على إغراء القارئ بالبقاء على قيد القراءة إلى النهاية، رغم أنه توزّع على ثلاثمائة وسبع صفحات، من خلال بنية سردية استثمرت في تعدد الأزمنة والمشاهد والرسائل والمناخات العارية، بلغة لم تتعدّد مستوياتها، فقد كانت نفسها في المشاهد كلّها تقريبًا، ربما لهيمنة الراوي العليم، لكنها اجتهدت في أن تكون جامعة بين الإخبار والإمتاع، من غير أن تخون كونَها لغةَ جيل ما بعد الإرهاب في الجزائر، ومن التعسّف أن نحكم على بلاغتها، انطلاقًا من شروط البلاغات السابقة.

ولئن كان من حق وجوه هذه الحساسية الجديدة، التي أفرزتها جملة من التحولات الموضوعية المسكوت عنها، أن تكتب وتنشر وتُنقد كتابتها من المنظور الفني لا الأخلاقي، انطلاقًا ممّا يمكن أن نسمّيه "عدالة الحضور"، فمن واجبها، في المقابل، أن تدرك أن كون المواضيع، التي تشتغل عليها صادمةً ومستفزة للقناعات السائدة، لا يمنحها المصداقية الأدبية، ما لم تكن ذاتَ لغة متينة وأسلوب مبتكر ومعمار متماسك وإلمام بملامح اللحظة المكتوب عنها، فكلّ إهمالٍ لباب من هذه الأبواب، اعتمادًا على جرأة الموضوع والمشاهد، في تسويق النص، هو وجه آخر من أوجه التعسف، الذي تقع فيه الأطراف الرافضة لوجودها أصلًا.

من هنا، يُلاحُظُ تسرّع صاحب رواية "هلوسة جبريل"، في نشر روايته هذه، قبل تنقيتها من كمٍّ مرفوض من الأخطاء النحوية والصرفية والأسلوبية والمطبعية، بما أربك أفق القراءة، وجعل هذه الأخطاء شبيهةً بالحُفر في طريق جميل، تشوّش بالضرورة على متعة السير فيه.

اقرأ/ي أيضًا:

حمزة جاب الله.. حين تنقذ السينوغرافيا المسرح

ملتقى الأنوار.. فضاء للسؤال الحر في الجزائر