26-يونيو-2016

من الفيلم

"في غرفة نومك، هُناك خِزانة عليها مصباح أزرق. افتحي الدرج الأول. تجدين فيه علبة أقراص، مكتوبٌ عليها: خذ كل الأقراص مع الماء.
هُناك الكثير من الأقراص في هذه العلبة، لكن من المهم للغاية أن تبتلعيها كلها. حسنًا؟
ثمّ تمدّدي، واخلدي إلى النوم. ولا تخبري أحدًا بما تفعلين"
"هذه هي الخطوة المنطقية التالية. أنا واثقة من هذا".
*

لم تكُن أليس هاولاند (جوليان مور) قد فقدت عقلها بعد، حين سجّلت هذه الرسالة المصوّرة لنفسها المستقبلية، في فيلم "ما زالت أليس Still Alice". من العسير تخيّل الأسباب التي قد تدفع أستاذة علم اللغة المرموقة والناجحة، والأم المحبوبة لثلاثة أولاد، إلى مثل هذا؛ الزوجة التي غازلها زوجها في عيد ميلادها، قائلًا إنّها المرأة الأجمل والأذكى التي عرفها، في حياته كلها.

اضطرابات العقل لا يفهمها الكثيرون؛ بشكلٍ ما، أنت عاجزٌ عن أن تكون أنت

لكن "أليس" كانت على وشك فقدان كلّ شيء؛ أو هكذا اعتقدت وقتها. في البداية كان الأمر بسيطًا، تنسى "أليس" كلمةً سهلة في محاضرةٍ أمام غرفة من الأساتذة والطلاب؛ يسقط اسم من الذاكرة، لكن الأمر تطوّر. تاهت بينما تركُض في الحرم الجامعي. عالمٌ غريب وجدت نفسها فيه. أليس في بلاد عجائبٍ لا تدري عنها شيئًا. لكن المُخيف هنا أنّها تعرف الحرم كثنايا كفّها. هكذا يُفترض على الأقل. هنا قرّرت الذهاب إلى الطبيب. وبعد الكثير من الفحوصات واختبارات الذاكرة، جاء التشخيص: مرض الزهايمر الوراثي المبّكر.

اقرأ/ي أيضًا: أفراح القبة.. الدراما المصرية تعود إلى الواجهة

هو تشخيصٌ سيئ بما يكفي لأي شخص. لكن لامرأة ذكّية يعتمِد عالمها وعملها الذي تحبّه على الذاكرة القويّة، ففقدان العقل يُضاهي حكمًا بالإعدام. ستقف موقف المتفرّج، بينما تفقد بالتدريج كل ما يجعلها هي: عقلها، اعتناءها بنفسها، ووصفات الطعام التي يحبّها أولادها. هي تقف الآن على طرف الجحيم، وتنزلق قدمها ببطء إلى الهاوية.

تتحاشى أليس عشاءً مع رئيسة القسم الذي يعمل به زوجها. تدّعي أنّها نسيت، لكنها لم تنس. الزهايمر مرضٌ عقلي، واضطرابات العقل لا يفهمها الكثيرون؛ بشكلٍ ما، أنت عاجزٌ عن أن تكون أنت. حتى أنت لا تقدر على التمييز بين ما فعلته أنت، وما فعلته عن علّة في عقلك. حينها تتحاشى أعين البشر وتركض منها خوفًا. كلّ من مرّ بذلك العجزِ يفهم جيدًا أمنية أليس التي صرّحت بها لزوجها، بصوتٍ متخاذل. "وددت لو كان السرطان دائي. حينها ما كنت لأشعر بكل هذا الخجل. حين يصاب الناس بالسرطان، يُعلّق المتعاطفون أشرطة زهرية اللون، ويمشون في مسيراتٍ طويلة، ويجمعون التبرعات. حين تُصاب بالسرطان، لا تشعر في المجتمع وكأنّك.. لا أستطيع تذكّر الكلمة".

تيقنّت أليس من أنّها ستصبح عبئًا على من تحبّ. زاد ذلك الإحساس حقيقة أنّ الفحوصات أثبتت أنّها ورّثت مرضها الجيني لابنتها الكُبرى آنا، وأنّها نست ذات مرة الطريق المؤدي إلى دورة المياه، لتبلل ثيابها في نهاية المطاف.

تزور أليس عدّة أماكن بهدف اختيار دار رعاية مناسبة لها حين يبلغ المرض منها مبلغه. تدخل الدار لترى مجموعة من العجزة. نظراتٍ خاوية. حركات هادئة وقليلة للغاية. صمتٌ أغلب الوقت. كنباتاتٍ خائفة. لا زوّار.. يأتون يوم الأحد في الغالب، هكذا فسرت الممرضة. تقوم عجوزٌ من كرسيها فيدوى إنذارٌ ينبّه ممرض ليعيدها إلى مقعدها، بينما تُجادله بخصوص شيءٍ ما. يسأل عقلها سؤالًا بسيطًا: هل تريدين هذا المستقبل؟ هُنا قررت أليس أن تحفر مخرجًا آمنًا يُريحها ومن حولها حين تسوء الأمور. صنعت لنفسها اختبارًا من عدّة أسئلة اعتبرت عدم الإجابة عليها علامةً على أن الوقت قد حان لتفتح المجلّد الموجود على حاسوبها، باسم "الفراشة Butterfly".

تحكي أليس لابنتها: "حينما كنت في الصف الثاني، أخبرنا المعلم أن الفراشات لا تعيش طويلًا؛ نحو شهر أو أقل. تضايقت كثيرًا، وعدت إلى المنزل لأخبر أمي. قالت لي: نعم.. لكن تعلمين؟ إنها تعيش حياة جميلة للغاية". مثل الفراشة، أرادت أليس أن تعيش حياةً قصيرةً جميلة، تنتهي بانتهاء جمالها؛ هكذا لن يتحمّل أحباؤها مشقّة الاعتناء بها حين لا تقدر على الاعتناء بنفسها ولا تعود الأجمل، والأذكى، والألطف.

تُدعى أليس لتلقي خطابًا في مؤتمر لإحدى الجمعيات. في المشهد، استطاعت (جوليان مور) استحضار صوتٍ مرتعِد يحاول أن يبدو واثقًا، وأن تجسّد الصراع الحقيقي لمريضٍ عقلي يواجه الأعين بثباتٍ مرتعش. تحدّثت عن محاولتها لإتقان فن الخسارة إذ تُنتزع منها ذكرياتها وهويتها قسرًا، يومًا بعد يوم. لكنها، في الوقت الراهن، لا تزال حيّة، عندها أناسٌ تحبّهم بإخلاص، وتحظى بلحظات من السعادة الحقيقية. "أرجوكم، لا تقولوا إنني أعاني. لست أعاني، بل أجاهد؛ أجاهد لأبقى جزءًا من الأشياء، وأن أبقى على صلة بمن كُنتها يومًا".

تدرك أليس أنّه يوجد جزء بداخلنا يعرّف هويّتنا لا يمكن أن ينال منه شيء إلا قرارنا نحنُ بالنيل منه وتمزيقه

مع الوقت، تدرك أليس أنّه يوجد جزء بداخلنا يعرّف هويّتنا لا يمكن أن ينال منه شيء إلا قرارنا نحنُ بالنيل منه وتمزيقه؛ جزءٌ يعرفنا المحبّين به ويهتدون إلينا عن طريقه. ستكون أليس عبئًا بالحسابات العقلية الفظة، لكنها لن تكون عبئًا على زوجها وأولادها، لأن البشر يحملون الأحبّاء نورًا في قلوبهم، لا حِملًا على ظهورهم. ربّما يحبّون أن يصير محبوبهم أفضل، لكنّ حبهم لا ينتقل إلى الأفضل. ضُعفاء في حاجة إلى أن يحتاجهم الآخرون ويصبحون مددًا وسندًا لهم؛ بغير هذا لا تقوم لهم قائمة، مهما بلغوا من قوّة.

اقرأ/ي أيضًا: طلال الناير.. إقامة دائمة في شرايين أفريقيا

مثل أليس، لطالما شعرت بأنني عبءٌ ثقيل. لطالما خشيت أن ينساني أحبائي، أو يكرهونني حين يرون مني ما لا يطيقون. لطالما خِفت من ألا يفهمُ أحد ذلك الصراع الذي يعتمِل دائمًا وأبدًا في داخلي. لطالما تمنّيت أن أستبدل السرطان بما أحلّ بي، أيًا كان اسمه. لطالما نازعتني الرغبة في الانتحار تخليصًا لنفسي من الألم (أم هو الخواء؟)، وللعالم من ذلك الكائن الرمادي، العاجز عن الإحساس، الذي يتلبّسني أكثر الوقت. أستغرب، في الوقت ذاته، فصاحة لساني حين أحدّث غيري عن الحزن والاكتئاب والانتحار، في حين أراه كوسادةٍ ناعمة على سرير من حرير بعد مسيرة ألف عام. لا يمنعني إلا أنني مُحاطٌ بقدرٍ من الحبّ لا أملك ردّه بهذه الإساءة الفجّة.

(إن لم تكُن شاهدت الفيلم، أنصح بالتوقّف هنا). تمرّ الأيام، ويصل المرض إلى مرحلةٍ متقدّمة. الآن أليس لا تستطيع ارتداء ملابسها بنفسها. أليس تُصارع من أجل حلّ لعبة كلماتٍ متقاطعة بسيطة. تُراودها ذكرياتٌ خاطفة عن أمّها وأختها. يطفو حنينها إليهم بسلاسة بعدما أزيحت مقاومة العقل. هي الآن، بشكلٍ ما ومع كل ما فقدت، أجمل وأرق وأكثر طهرًا ممّا كانت عليه قبلًا. لا تحمل ضغينة، ولا تُحسن مكرًا.

تعثر أليس صدفة على ملف الفراشة. تُشاهد نفسها -التي تثق فيها ببراءة- تأمرها بإنهاء المهزلة التي تعيشُها. تصعد الدرج لتُحضر الأقراص، ثم تنسى لِم صعدت، فترجع لتشاهد المقطع. تكرر الأمر عدة مراتٍ. نجحت في النهاية بعدما أخذت الحاسوب معها. تتجه إلى الحمام. تملأ كوبًا من الماء وتستعد لإتمام المهمة.

لكن يتدخّل القدر. تصل الممرضة إلى المنزل وتُربك أليس لتسقط الحبوب من يدها على أرضية الحمام، لتفشل خطّة "أليس العاقلة"، وتعيش.

في مشهد النهاية، تُلقي ليديا، ابنة أليس، على مسامعها مونولوجًا من مسرحية "ملائكة في أمريكا" لطوني كوشنر. "لا شيء يُفقد إلى الأبد. في هذا العالم، هُناك نوعٌ من الارتقاء المؤلم. نتوق إلى ما تركنا خلفنا، ونحلُم بما هو آت. على الأقل هذا ما أظنّه".

تسأل أمّها حين تنتهي: "أعجبك؟ ما قرأته توًا، هل أعجبك؟"
- "نعم".
-"عمّ كان يتحدّث؟".
- "عن الحبّ".
- ".. نعم يا أماه.. كان عن الحبّ".

اقرأ/ي أيضًا:

الدراما السورية منشغلة بالتطرف

تيناريوين.. موسيقى الكفاح