13-يناير-2020

نذير إسماعيل/ سوريا

1

لقد شعرتُ اليوم بتراكم إحساس الهشاشة داخلي، وأردتُ البكاء للتعبير عن حالتي، لكنني فكّرتٌ في أنّ البكاء بحدّ ذاته وسيلة هشّة جدًّا للتعبير عن حالة الهشاشة تلك، وحدّثتُ نفسي بأنّ استخدام وسيلة تعبير تحمل ذات صفة الحالة سيعمّق إحساسي بالحالة، ولأنني لا أريد لإحساسي بهشاشتي أن يتعمّق بحثتُ لنفسي عن وسيلة أكثر صلابة للتعبير، وبدل أن أبكي صرخت.

 

2

لو افترضنا أنّ أكثر الناس هشاشة هم أولئك الذين يخافون انكشاف هشاشتهم لصحّ أن نقول إنّ الرجال أعداء الرومانسية هم أكثر الرجال هشاشة، لأنّ هشاشتهم هيَ من نوع "الهشاشة الزئبقية"، تلكَ التي يخافون عليها أن تنكشف أو تتسرّب منهم، وذلك في كلّ مرة ينطقون فيها أجمل اللفظات وأقربها حميمية كـ"اشتقتكِ" و"أحبّكِ" مثلًا.

 

3

لا آتي بالجديد عندما أعترف بأنّ كلّ شيءٍ فيّ قابلٌ للكسر، لكنّ يأتي غيري بالجديد عندما يخرجون اعترافي السابق من أفواههم كاشفين لي عن قابليتي للكسر، وعن نزعاتهم السرية في اختبار هشاشتي، تلك التي لم يكن بإمكانهم أن يكتشفوها لو لم يَجعلوا مني فأر تجاربهم الخاص ويدخلوني خفية في فحصِ قياس درجة الهشاشة والقابلية للتهشيم.

 

4

مذ راهنتني أنّك لن تسقطَ في فخاخ غوايتي وأنا أبحثُ مواضيع مُبتكرة للغواية، مواضيع تتجاوز الجسد وتقاسيمه ومتعلقاته، تقفزُ عليها لتكتشفَ غيرها، قلة هنّ النساء اللواتي يُدركنَ أن كلّ ما فيهنّ يصلح للغواية، من أعلى نقطة قوة في عقولهنّ إلى أدنى نقطة ضعف في أجسادهنّ، أجل.. فالغوايةُ يُمكنها في المرأة أن تأخذ صبغة شمولية، بحيث تُمارس سطوتها في كلّ تفصيلة منها، في كلّ حركة أو سكنة، وفي كلّ كلام أو سكوت. وأنا كنتُ أنتمي إلى تلكَ الثلة القليلة التي تعرفُ أنّ كلّ ما فيها يصلحُ للغواية، ومذ راهنتني على أنّك لن تسقطَ في فخاخ غوايتي قمتُ بابتكار الهشاشة واتخاذها كوسيلة وموضوع للغواية، كنتُ أحدثّكَ عنها وأستفيض في شرحها وعرض تفاصيلها، ولم تعرف أنّني بهذا كنتُ كمن يكشف عن ساقها ليحفّز فيكَ حسّ الاحتواء. في حوارنا الأخير وأنا أشرحُ لكَ معاناتي مع الشتاء ارتفع شبقُ الاحتواء فيكَ، وازداد حتى بلغ الأقاصي فقدمتَ لي ألفاظ الدعم والاحتواء، ابتسمتُ وأنتَ تهمّ في نطقها ابتسامة المنتصرين، لقد أسقطتكَ هشاشتي في فخّ غوايتها يا صاحبي وكسبتُ الرهان.

 

5

تسجّل في اعترافاتها وتقول: ظلّ يُقشّر قوتي عني ويأكلها، حتى بدوتُ أمامه في حلة طراوتي وهشاشتي الكاملة، عندها فقط صرتُ لقمة سائغة له، وصرتُ أردّد كلّ حين: أُكِلْت يوم أُكِلَت قوتي.

 

6

أنا أعتبرُ الجرأة في كتابة الهشاشة ضربًا من ضروب القوة المضاعفة، وأغبطُ أولئك الذين يمكنهم كتابة هشاشتهم بتلك الجرأة والقدرة على الإظهار. أعترف، لستُ بتلك الجرأة، فأنا لا أتمتع بالجرأة اللازمة لكتابة هشاشتي وللتعبير عنها كما يجب، إنّني هشة تمامًا، وهشاشتي في الكتابة تأتي ذات طابع مضاعف؛ كأنّها هشاشتين متلاصقتين معًا؛ هشاشة أصلية ملازمة، وهشاشة أُخرى تأتي عندما لا أمتلكُ الجرأة اللازمة لكتابة هشاشتي الأولى، فأحوّرها في النصّ وأكتبها كما لو كانت قوة أصيلة.

 

7

أكثرُ هشاشة من عصفورةٍ فقدت فرخها، من فرخٍ واقعٍ بين أنياب قطة، من قطةٍ أنساها ضعفها وليدها فأكلته، من وليدٍ تَلقفته يدُ أمّه للتو، من أمٍّ تبكي على قبرِ ابنها، من ابنٍ يُحاولُ أن يواري سوأة دموعه أمام صراخ أبيه، من أبٍ استقبل نبأً حرّك الدموع في عينيه والأمثال البالية في عقله فأحاط نفسه ببيتٍ من قوة زائفة وحدّثها قائلًا: "الرجال لا يبكون"، من بيتِ حبٍّ من زجاج شيّده لي رجلٌ أحببته ثمّ كسره ورحل تاركًا إيايَ أكثر هشاشة من أيّ وقتٍ مضى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نؤنّث بيوتنا بالفراغ

ليوم آخر.. لمرة قادمة