04-نوفمبر-2018

عمل فني لـ جاك بو/ أمريكا

منذ أن وقعت عيناي على تلك الصورة ازداد يقيني بأنني كنت على حق.

كثيرًا ما كانت أمي تنهاني عن فعل ذلك الأمر، أحيانًا كانت تمضي ساعات وأنا داخل ذلك المكان الضيق، لم تتعد مساحته المترين على متر ونصف. لم أدخله يومًا دون أن أحمل بيدي كتابًا، عادة اكتسبتها منذ الصغر، لم أكن منتبهة إلى الروائح المنبعثة من هناك، كان اندماجي في القراءة غالبًا ما يعطل معظم حواسي إلا اثنتين؛ البصر حتى التهم تلك الكلمات واللمس كي أتحسس ملمس الورق وأنا أقلب الصفحات. 

كنت يومها أتصفح أحد المواقع على الإنترنت حتى رأيته جالسًا هناك، واضعًا كتابه على ركبتيه، بجانبه مجموعة من المجلات وبعض قوارير الشراب الفارغة وشبه المنتهية. علت وجهي ابتسامة عريضة وأنا انظر إلى الصورة ثم صرخت قائلة: "لست وحدي من يفعل ذلك، لست وحدي من يحب فعل ذلك". ناديت أمي بصوت عال حتى ترى أن ما كنت أقوم به لم يكن ضربًا من الجنون، أتت مسرعة بعد وابل من الصراخ.

-انظري هو أيضا يفعل ذلك. مشيرة بإصبعي إلى شاشة الحاسوب.

- من هذا؟

- بوكوفسكي، إنه من أعظم الكتاب في العالم، كاتب مجنون.

- طبعًا مجنون بما أنه يقرأ في المرحاض، لن يزيد من جنونك سوى هؤلاء.

غادرت الغرفة وهي تتمتم داعية لي بالهداية وبزوج يأتي قريبًا فيخلصني من هذا الجنون، كانت تعتقد دائمًا أن هذه الكتب سوف تأخذني إلى الهاوية. 

يوم قررت إنشاء مكتبة هناك أقامت أمي الدنيا ولم تقعدها، حاولت إقناعها بشتى الطرق لكنها رفضت الإصغاء قائلة إنه أصابني مس وأنني قد فقدت عقلي نهائيًا، وإنها غير مسؤولة عن تلك الكتب.

لمحتها تراقبني خلسة يوم قررت صنع رف من اللوح المستعمل وجدته في المرآب، استغرق مني صنعه قرابة ثلاث ساعات بين صقل للوح ودق المسامير لتثبيت الجوانب، ثم دهنه باللون الأزرق حتى يتلاءم ولون خزف المرحاض.

ثبتت الرف جيدًا على الحائط ثم وضعت عليه بعض المجلات الثقافية ومجموعة من الروايات التي شرعت في قراءتها، يصادف أن أقرأ أكثر من كتاب في الآن نفسه.

كانت القراءة في المرحاض طقسًا مقدسًا، عندما يصعب علي فهم نص ما اتجه به مباشرة إلى ذلك المكان الضيق، هناك تزيد قدرة التركيز وتنبسطُ شفرةُ المعاني والأفكار، فتصبح جلية أكثر. في صغري كنت أنجز معظم واجباتي المدرسية هناك، تعلمت قواعد اللغة وتصريف الأفعال واللغة الفرنسية والإنجليزية.

تطورت علاقتي بذلك المكان وتجاوز الأمر مجرد مكان للقراءة إلى مكان للكتابة، فلم أعد أحمل دفترًا وقلمًا، بل اخذ معي حاسوبي المحمول وأدخل به إلى هناك.

أحيانًا كثيرة كنت أفشل في الكتابة، في البداية استغربت الأمر لكنني في الأخير أدركت أنه لا يمكنني فعل ذلك ما دمت أمثل أنني أقضي حاجتي، فالإلهام لا يأتي إلا في حالة صدق مع الذات فما بالك بحالة صدق مع الجسم. فتعلمت ألا أدخله إلا عندما أكون جاهزة لإفراغ حمولاتي،  أولا الإفراغ بمعناه المادي، ثانيًا الإفراغ اللغوي والذي يتمثل عادة في سيل من الكلمات انطلق في كتابتها بسرعة، وكأنني أخاف أن تطير من رأسي أو من بين أصابعي، وثالثًا إفراغ معنوي ويتم بعد الانتهاء من كتابة النص أو الفكرة التي كانت تؤرقني طوال أيام، وأحيانًا أسابيع.

كثيرًا ما كنت أختفي لوقت طويل في المرحاض عند زياراتي لشقة حبيبي، لاحظ كل مرة غيابي الطويل هناك فكان يأتي للبحث عني، فأتعلل له بشتى الحجج حتى لا يكتشف ما أقوم به هناك.

أذكر يوم فاجأني وأنا أتخلص من تلك الزوائد العضوية، كنت أحمل كعادتي كتابًا بين يدي وكانت تعابير وجهي لا تفسر نظرًا لاندماجي في قراءة النص والجهد الذي أبذله حتى أفتح البوابة لتلك الفضلات. احتقن وجهي واحمرّ وانعقد حاجبي وانفتح منخاريَ على آخرهما، وصرت اعتصر حتى أتمكن من التخلص من ذلك الشيء اللولبي. كنت أصب جل تركيزي على تلك العملية فلم أتفطن له عندما التقط لي الصورة على غفلة وهو يبتسم بمكر قائلًا بأنه قد اكتشف سري الذي كنت أخفيه. خبأت وجهي داخل الكتاب راجية منه أن يكف عن تصويري وأن يمحي الصور السابقة.

سحب كرسيًا وجلس أمام باب المرحاض ثم سألني هل فعلًا تحبين القراءة هنا؟ أجبته بحركة من رأسي ووجهي يعلوه الارتياح بعد أن تخلصت من حملي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بقع الطفولة الحمراء

جئنا من ظلامٍ