07-مايو-2020

جبر علوان/ العراق

كَسرتُ العَرق بملء الكأس ثُلثيه ماء، وثلجةٌ طَفت على سطحهِ، كأنها قاربُ نجاة فزَّ من رحلة بحرية حولَ الكاريبي، اجتمعت كل لُغاتُ العالم في أُذني، هي أيضًا طفت على سطحِ ذاكرتي ولم أخزّن منها شيئًا. رُبما هي قُبعة القَش ماركة "Stetson" التي قررت فجأة أن تغادر رأسي نحو المُحيط. لم أغضب، واستني عجوزٌ إسبانية كانت قُربي "It’s the ocean’s share of your trip".

رأسي الذي لم تسعه تلك القبعة، كانَ خليطًا من نارٍ وماء.

سأعيدُ ما حدث، هبَّ هواءٌ قوي، رأيتُ – فيما يرى السائح – موجٌ تحركَ باتجاهنا، فتاةٌ حاولت ضبطَ فستانها وحقيبةُ يدها في ذاتِ الوقت، طفلٌ حملهُ الهواء بضعَ خطواتِ فهرعَ إليه والده ليمسكه، زوجانِ في الثمانين تمسّكا ببعضهما البعض كيلا تهزهما الريح، وأنا، مددتُ يدي للفرح ونسيتُ رأسي.

*

 

في الجزء الآخر من العالم كانَ "شَميم" يحمل زجاجةَ نبيذٍ مستوردة آمِلًا في بقشيشٍ جيدٍ مرّة أخرى من زوجينِ وصلو أمس لهذه الجزيرة التي ستختفي بعدَ ثلاثينَ عامًا.

"هذه طاولتكم طيلة مدّة إقامتكم، هذه توصياتٌ من فوق"، قالها وغادر.

أن تجلس على طاولة خشبية بسيطة، وأمامك أزرقٌ لا ينتهي، وفي يدكَ يدٌ تُحبّك، ذلك، حتمًا، لا يُعوضُ بأي ثمن.

لو أنني علمت في تلك اللحظة أنه وبعدَ أربعةِ أعوامٍ سأفقدُ قبعتي التي أحب على الجانب الآخر من العالم، لكنتُ رشوت هذا المحيط ليرأف بي أخاه في الجهة المقابلة، لكني، ولأسفي مني ومنها، كنتُ أجبنَ من أن أقترب منه.

عادَ "شميم" وفي يدهِ سواران، منقوشٌ عليهما أسماؤنا، مكتوبة بالـ "دهيفي"، كعربون صداقة، وذكرى منه لنا.

*

 

كانت الساعة تُشير إلى ما بعد منتصف الليل بقليل بتوقيت طهران حينَ صرختُ بسائق سيارة الأجرة الذي يأخذني إلى إصفهان أن يتوقف، كانَ منظرُ السماء لا يشبه أيَّ شيءٍ رأيته، فتحت باب السيارة وخرجت، نظرتُ إلى السماء ولم أصدّق، كانت كل المجموعات النَجمية التي حفظتها في صغري أمامي، غادر السائق السيارة وبدأ يحدثني بالفارسية، عن النجوم، وعمر الخيام، وحافظ، وشيراز، وقُم، والمعصومة، لم أفهم شيئًا من حديثه، عاودنا السير نحو أصفهان بعدّ عشرِ دقائق تقريبًا، واستمر في شرحه لما يحفظ من تاريخ هذا المكان، وبقيتُ أنا هُناك، مُتأملًا النجوم.

*

 

"شقيقتي وصلت إثيويبا، وستصل إلى هُنا قريبًا، تحدثت معها البارحة، هي بصحة جيدة".

بصحتك، قُلت له، أرجو لها رحلة آمنة، إبتسمت وغادرت بعدَ حديثٍ طويل. ولا زال يُشعل السيجارة من أختها، بانتظار شقيقته.

*

 

اليدُ التي احتضنت يدي في الثلاثين من أيار من ذاك العام، أحفظ شكل الخطوطِ على كفّها، هي نصفُ ذاكرتي، ونِصفُ كياني.

*

 

سنعبرُ هذا المضيق، وسنتذكره، تمامًا كما أتذكر العجوزُ الإسبانية، وشميم، وسائق سيارة في إيران، وصديقي الذي لا أعرف اسمه مقابل الكوفي شوب، وكما – دَعيني أكسرُ كأس العرقِ الجديدة أولًا.

 أتذكر تمامًا – ممانعتي الغبية لدعوةٍ على فنجان قهوة، كانت مدخلًا – كدتُ أتيهُ عنه – لكل هذا الفَرح، في أغانيي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار ليلي

رحلة إلى برج بابل