04-نوفمبر-2015

معاناة الطبيب السوداني قبل التخرج وبعده(Getty)

منذ نعومة أظافرنا، تتشكل في أذهاننا لوحة المستقبل فنرسم خط سير حياتنا ونلون اللوحة بأعظم المهن، ومما لا شك فيه أن مهنة الطب من بين هذه المهن، ففي جزء كبير من طفولتنا، نتخيل أننا سنصير أطباء، بل يصل الأمر بنا إلى اختيار اختصاصنا في الطب، ولكن مع مرور الوقت والتعرف على باقي مهن الحياة تتلاشى أحيانًا صورة الطبيب وتنمو صورة الضابط أو المهندس أو الطيار أو غيرها، لكن هناك فئة لا تعرف الاستسلام، وتزداد إصرارًا على تحويل صورة الطبيب في اللاوعي إلى حقيقة وواقع لا يقبل الشك. يوجد بالسودان أكثر من 30 كلية طب، ويتخرج سنويًا حوالي 3300 طبيب امتياز سنويًا، وهنا تبدأ قصة الصراع منذ مرحلة دخول كلية الطب وحتى مرحلة التخصص.

يتخرج سنويًا حوالي 3300 طبيب امتياز من أكثر من 30 كلية طب في السودان

تتفاوت رسوم دراسة الطب وعلوم الصحة في الكليات والجامعات الخاصة بالسودان، وقد وصلت هذه الرسوم في بعض الكليات إلى ما يفوق المئة ألف جنيه. مثلًا، في جامعة العلوم الطبية، يدرس الطالب السنوات الستّ بمبلغ 840 ألف جنيه بمقابل 140 ألف للسنة الواحدة، فيما يتخرج طالب الطب في جامعة التقانة بعد ست سنوات ويكون قد سدد مبلغ 720 ألف جنيه سوداني، أي حوالي 120 ألف جنيه للسنة الواحدة.

وتطرح عديد الأسئلة حول ارتفاع رسوم كلية الطب: من المسؤول عن تحديد الرسوم في الكليات والجامعات الخاصة؟ وما هي المعايير التي بموجبها يتم تحديد الرسوم؟ ألا يعتبر هذا الارتفاع نوعًا من المغالاة؟ ومن الرقيب على هذه الكليات؟ وأي دور لوزارة التعليم العالي؟ هل لسياسة التحرير الاقتصادي التي تتبعها الدولة دور في ذلك؟ هل حررت الدولة رسوم الجامعات الخاصة أم أن هناك فوضى توجب الحزم من الجهات ذات الصلة؟

تشير مرام عثمان، طالبة كلية طب الأسنان، لـ"ألترا صوت"، أنها "تعاني من ارتفاع رسوم دراستها سنويًا وأن أولياء أمرها قد أجبروا على بيع أرضهم الزراعية، لكي تكمل دراستها الطبية". ومن جانبها أعربت السيدة ماجدة عوض، والدة محمد وهو طالب في كلية الطب، عن تعجبها من "صمت الإعلام وعدم طرح موضوع ارتفاع الرسوم الدراسية بدلًا من الانشغال بمواضيع لا تهم المواطن السوداني إرضاء للجهات الحكومية في حربها الباردة على المواطن السوداني البسيط، وإيهامه بأمور لا علاقة لها بالواقع خوفاً من تمرده"، حسب تعبيرها.

في ذات السياق، يقول أيمن يونس، طبيب سوداني، لـ"ألترا صوت": "يقوم أصحاب جامعات الطب الخاصة بتحديد رسوم الدراسة باعتبارهم المستثمرين. تترك وزارة الصحة لهم الأمر وهكذا تتحول العملية التعليمية إلى استثمار اقتصادي بحت ولا علاقة له بالإنسانيات".

من جانبه، أشار موظف التسجيل والمشرف على طلاب كليات الطب وعلوم الصحة، بإحدى الجامعات السودانية، والذي رفض ذكر اسمه، أن "طالب كلية الطب يدفع حوالي 50 ألف جنيه وأن التفاوت في قيمة الرسوم يعود إلى تصنيف قبول الطالب للكلية، لأن هناك قبول على النفقة الخاصة وقبول أبناء العاملين بالإضافة إلى القبول العام، ورسوم قبول الطالب بكلية الطب في الجامعات الحكومية تعد أقل تكلفًة، مقارنة بكليات الطب في الجامعات الخاصة". ويضيف: "سبب ارتفاع الرسوم الدراسية هو إقبال الطلاب على كليات الطب بسبب نظرة المجتمع للطبيب ومكانة هذه المهنة لدى الشعب السوداني".

ونفى مسؤول الإعلام بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي أسامة محمد العوض، في بيان رسمي عبر وسائل الإعلام شهر أغسطس/آب الماضي، أن "يكون لوزارته أي دخل في قيمة الرسوم الدراسية لطلاب كليات الطب بالجامعات الخاصة". ووضح: أن "الجامعات الخاصة تضع الرسوم الدراسية وفقًا للبرامج والتخصصات المعتمدة لديها، والتي تقوم بتحديدها تماشيًا مع تكلفة الطالب في التخصص المعين".

يقول سعيد عباس، طبيب عام، لـ"ألترا صوت": "ينتظر الأطباء في السودان حوالي العام حتى يتم استيعابهم في وظيفة طبيب امتياز براتب حوالي 500 جنيه شهريًا أي أقل من 100 دولار، ثم يخضعون لامتحان التسجيل الدائم بالمجلس الطبي ومن ثم يتم البحث عن مكان لقضاء الخدمة الوطنية وبراتب لا يتعدى 50 جنيه شهريًا أي أقل من 10 دولارات، ومن ثم يكتفي الطالب بما درس ويشتغل كطبيب عمومي أو يلجأ للهجرة أو مواصلة الدراسة للتخصص، إنها رحلة معاناة طويلة".

الهجرة.. أهم حلول أطباء السودان 

يعود ارتفاع رسوم دراسة الطب إلى إقبال الطلاب على هذا الاختصاص بسبب نظرة المجتمع للطبيب ومكانة هذه المهنة لدى الشعب السوداني

بحسب تقرير حكومي صدر عن وزارة العمل سنة 2014، فإن عدد الأطباء المهاجرين بلغ 5082 خلال السنوات الخمس الماضية. وأرجعت الأستاذة آمنة ضرار، وزيرة الموارد البشرية، "هجرة الأطباء إلى ضعف الأجور وقلة فرص العمل وتزايد البطالة بجانب انفتاح ومغريات سوق العمل في الدول المستقبلة للمهاجرين".

في هذا الإطار، يوضح أسعد مبارك حبيب الله: "من بقي من الأطباء في السودان قلة، الأغلبية هاجرت، فكل بيت سوداني يعاني ظروفًأ اقتصادية طاحنة أجبرتهم على الهجرة". سافر أسعد، منذ سنوات، إلى السعودية وعمل كطبيب عمومي في إحدى المراكز الطبية الخاصة بالرغم من حصوله على درجة أخصائي، مبينًا أنه قد عانى الكثير بعد تخرجه.

يقول أسعد لـ"ألترا صوت": "تكلفة الحصول على الشهادة العليا في الطب خيالية في السودان ولا يمكن تخيلها. الحل الأمثل هو التقدم لمنحة دراسية خارج السودان وتسديد قرض الدراسة من خلال العمل في الدول ذات الاقتصاد المرتفع كدول الخليج وأوروبا، والتي تستقطب عددًا كبيرًا من الأطباء السودانيين".

أما شيماء حسن، أخصائية نساء وولادة، فترى أن "من أسباب هجرة الأطباء، ضعف الإطار التعليمي وقلة فرص التدريب والتعيين من قبل وزارة العمل والصحة، إذ أصبح من الاعتيادي في السودان أن يمتهن خريج كلية الطب وعلوم الصحة مهنًا لا علاقة لها بمجاله، مثل سياقة سيارات الأجرة والمواصلات الأخرى". ويضيف أحمد منصور، طبيب متخرج حديثًا، لـ"ألترا صوت": "أعيش حالة اكتئاب فظيعة، فبعد أن كنت أحلم بالتخرج من كلية الطب والعمل كطبيب وتعويض أسرتي عن تعبهم في إنفاق آلاف الجنيهات، تلاشت أحلامي وأنا الآن أتحصل على مصروفي من والدي مثل إخوتي الصغار طلاب المدرسة فحافز الخدمة الوطنية والامتياز لا يكفيان لضمان حياة كريمة".

وقد أبدت بعض الأحزاب السودانية تضامنها مع معاناة الأطباء المتخرجين الجدد وتحديدًا بعد حادثة إضراب أطباء محافظة "القضارف" عن العمل، في شهر أغسطس/آب من العام الجاري، بسبب غياب الخدمات الصحية والتردي الكبير الذي يعرفه المجال الصحي في السودان.

اقرأ/ي أيضًا:

السودان.. اغتراب طلبة المدارس الأجنبية

أي مستقبل لطلبة الدراما والموسيقى في السودان؟

جامعة الخرطوم..البريق المفقود