03-يوليو-2022
فلسطين المحتلة من نافذة الطائرة

فلسطين المحتلة من نافذة الطائرة

حكاية أن تُولد طفلًا لرجلٍ مولعٍ بالسفر، وتعتلي الطائرة لأول مرّة رضيعًا لم يمرّ على ولادته ثلاثة أشهر، لا يتوقّف عن الصراخ كالأخرق بلا سبب ثاقبًا طبلات آذان المسافرين الذين يحتَرُون الغَفوة، وأن تجد في ألبومات طفولتك صورًا إلى جانب ما تعرف وتجهل من أشهر المعالم السياحية في القارة الأوروبية، كلها أشياء توحي بأن احتواء قلبك عُقدًا نفسيّة متعلّقة بالسفر أمرٌ مُحال، كيف لا؟ أبواب الديار التي تمثّل الدنيا بثقلها في ميزان القوى، وفي أعين سكان الدول النامية، مُشرعةٌ على مصراعيها ترقبك.

أن تجد في ألبومات طفولتك صورًا إلى جانب ما تعرف وتجهل من أشهر المعالم السياحية في القارة الأوروبية، كلها أشياء توحي بأن احتواء قلبك عُقدًا نفسيّة متعلّقة بالسفر أمرٌ مُحال

هذا غالبًا هو أوّل ما يتبادر إلى الذهن فور ارتطامه بفلسطيني من الطبقة الوسطى فما فوق، وُلد في الأراضي المحتلة عام 1948 بعد أن شاءت الأقدار ونجا جدّاه أو أحدهما من الإبادة، ومكث حيث وُلد في بيته أو في بيتٍ فرّ واحتمى به بعد أن ابتلعت صاحبه أحشاء الأرض أو بؤر اللجوء، ليعيش تحت وطأة الحكم العسكري الوحشي منذ ذلك الحين وحتى عام 1964، أي لفترةٍ زمنيةٍ ارتأى المنتصر الذي اختطف لون الحياة من عيون الأحياء، أنها كافية لإخصاء تطلّعاته التحررية، القومية، أو دعنا نقول تطلّعاته من أي نوع يعدو الأكل الجيد والنوم الهانئ والتسليم الكامل للمصير، مع ترك هامشٍ -لا يخلو من مكافحة الطموح- للتقدّم مهنيًا وأكاديميًا، أو المنافسة تجاريًا "بحدود الضيعة وحواليها"، على بُعدٍ كافٍ لرأس المال اليهودي من شر مزاحمته.

أزجّ بهذه الكبسولة التاريخية لا لشيء سوى لأقول إن هذه الحكاية لا تشبه عنوانها أبدًا، وأن مكانها ليس على رفوف المُترفين مهما بَدت كذلك حتى في أعين المقرّبين من خارجها، والذين يكونون أحيانًا أقرب المُقرّبين، إلا أنك تخجل من سردها في حضرة مآسيهم لأنك هُزمت ذهنيًا أمام مقصلة الحكم عليك بالتَّرَف، الذي لا تخلو حياتك اليومية من بعض مظاهره يا من تشظّت هويّتك في جمجمتك، واكتفى الجميع -وأنت منهم - بوضع شريطٍ لاصقٍ عليها، قبل أن يخرطك المُمسك بأحبال مصيرك بُغتةً، في الحياة المدنية كمواطن من الدرجة السياسية العاشرة جنوب الصفر في بلادك، والأولى شماله في بلاد العالم الأول.

كي لا أُطيل عليكم في العموميّات، كنت في العاشرة من عمري حين حزم والداي أمتعتنا و"طوّاشاتنا" واصطحبانا إلى منتجعٍ في "طابا"، المدينة السّياحيّة الواقعة رأس خليج العقبة على السّاحل المصريّ من البحر الأحمر، أي بعد أم رشراش -المنعوتة بُهتانًا بإيلات- بقليل، وعلى الحاجز الإسرائيلي الذي يسبق المصري على الحدود، فتحنا النافذة لمجنّدة أثيوبية متوسّطة القامة ومتجهّمة المُحيّا، بعد سفرٍ بالسيارة دام ست ساعات من  قانا، قريتنا نحن وعُرس مُعجزة النبيذ، الواقعة بين طبريّة والنّاصرة، طلبت المجنّدة من والدي البطاقات التعريفيّة، ناولها إياها وعاينتنا واحدًا تلو الآخر ثم قدحتنا ابتسامةً صفراء قميئة أردفَتها بـ"تِهَنوو"، أي "تَهَنّوا" لكن بتحريفٍ بسيط كما هي العادة في العبريّة المعاصرة، بادلها والدي ابتسامةً من النوع ذاته، أردفها أحدُنا بعبارة تنمُّر فور إغلاق النّافذة.

تابعنا باتجاه الحاجز المصريّ الذي كان باستقبالنا فيه جنديّ أسمر ممشوق القامة وحَليق اللّحية، أغلب ظنّه أنه وبابتسامة تشقّ وجنتيه قافزةً إلى أذنيه، يستقبل سائحين يهودًا:"ويلكوم تو إيجيبت" بصوتٍ بَحيح ولهجة أرياف، عرّف والدي عن نفسه كعربي، فاستبدل الأول ابتسامته العريضة بأخرى صفراء، كالتي واجهتنا في الحاجز السابق بفارق أنها لا تنطوي على بغضاء، بل على خيبةٍ بكوننا لسنا خواجات، لكنني أعتقد الآن أنها ابتسامة المُحرج، المدرك لفداحة ما بَدَر منه أمام عربي يعلمُ جيّدًا معنى أن يحظى من تسربل أديم سيناء بالدم لاجتثاثه، بهذه الحفاوة التي تشعره مُجدّدًا وبالمجّان، أنّه سيّد المكان.

الجدير بالذكر أنه حصل على رشوة أمام أعيننا من السّيّارة التي عبرت قبلنا مقابل عدم تفتيشها، والتي لم يكن مُستقلّوها عربًا على الأرجح، الأمر الذي جعل والدي لا يبادل الابتسامة الأولى بمثلها، عبرنا وركنّا سيّارتنا في مكانٍ مخصص ونحن ننصت لحديثٍ يدور في فَلَك هذه الخيبة، ثم دخلنا إلى صالة لختم الجوازات وفحص الحقائب والحجوزات وأشياء من هذا القبيل، لا أذكر أننا تحدّثنا لأحد في تلك الرحلة لم يطلب منّا رشوةً، أو بخشيشًا بريئًا كما يحلو لهم تسويغه، مذ وصلنا وحتى رحلنا، حتى مُقدّمي خدمات الغرف.

لكن لترى أعجب ما في الأمر عليك أن تنتقد، أو أن تُبدي أبسط رد فعلٍ يُوحي باستياء، لتنهال عليك عبارات "عرب إسرائيل" ومرادفاتها التخوينيّة من كل حدب وصوب، أي أننا، لا لشيء سوى أنّنا وُلدنا هناك، لا حقّ لنا في الادّعاء بأننا على قدرٍ ولو بسيطٍ من الخُلُق، نحن "خائنون"، ماذا تساوي الرّشوة مقابل الخيانة؟ هذا ما تلقّته بنت العاشرة التي تحدّثكم، لأنها مانعت أن تدفع لمتملّقٍ غوغائي، لقاء وجبة "شنيتسل"، مبلغًا أكبر من ذاك المذكور في قائمة الطعام.

لم ينفّرني ما حدث من مصر، إذ لا أنسى أنني بمعزلٍ عن ذلك قضيت وقتًا ممتعًا، وتعرّفت على مجموعة أطفالٍ أهدوني إسوارةً تحمل ألوان العلم المصري لا زلت أحتفظ بها إلى اليوم، كما أن الطفلة كبرت، وأبصرت بأم عينيها ميدان التحرير والسفارة، ذاك هو شعب مصر، لا هذا الذي هشّم قلبي صغيرةً، أقول هذا رغم عدم يقيني صدقًا أن أولئك العظماء لن يوصموني بالعار ذاته، ولكن لاعتبارات وطنيّة يعتقدون لعدم فهمهم واقعنا أننا نخدشها أو نفرّط بها، على أيّة حال هذا الكره أسهل على قلوبنا من ذاك الحُب على الحاجز، نعلم أننا لم نخُن أحدًا حين بقينا، لكن إذا اعتقدتم أنكم في صدّكم عنّا تصدّون عن الخيانة، فالصدّ في جوهره جيّد.. أُسامحكم، وأرقب نضالاتكم وأحزانكم وانتصاراتكم وخيباتكم بقلبٍ حانٍ.

تُحيلني دوافع الكُره المتخيّلة هذه إلى حادثةٍ طريفة جرت حين كنت في المرحلة الإعداديّة، في رحلة صيفيّة إلى موسكو، كادت سيّارتنا ترتطم فيها سهوًا بسيّارة أمامنا لكن الفرامل حالت دون ذلك، إلا أن الحسناء الرّوسيّة أبت إلّا أن تترجّل من سيارتها وتستدعي الشّرطة بينما تعيقنا عن الحركة، وصلت الدوريّة واقتادتنا وإياها إلى المركز، حاولنا الاستعانة بالترجمة ولغة الإشارة لكننا لم نفلح في إفهامهم شيئًا البتّة، لا يفهم الرّوس شيئًا سوى الرّوسيّة، التي تصرخ فيها الفتاة مطالبةً على ما يبدو بتعويضٍ ماديّ عن ترويعنا النفسي لها، وهو مصدر دخلٍ متعارفٌ عليه في الدول التي تعير هذه الاعتبارات اهتمامًا.

ماذا تبقّى لنا من دمشق؟ ولو افترضنا أن شيئًا تبقّى من العروس التي تبعد عن منزلي لولا الحدود بضع ساعات، بأي جوازٍ سأذهب؟

 

عاين الشرطي السّيّارة باستهتار كمن اعتاد على هكذا حبكة، ولم يتفاعل معها كثيرًا، بدا أنه يحملنا على الرّحيل، فانهالت الفتاة عليه بعبارات التّوبيخ، ثم انهالت علينا بطلاسمٍ لم نفهم منها شيئًا سوى "فلسطين" و"إسرائيل"، يبدو أنها كانت توبّخنا واصفةً فعلتنا بأنها مشابهة "لسلوكنا" السياسي المضطهِد للفلسطينيين، وهنا لم نعرف أنضحك أم نبكي، نفرح لموقفها منهم أم نأسف لتوبيخنا على مظلوميّتنا نحن، على أيّة حال.

لم تتكرّر هذه المشاهد الدرامية كثيرًا في الشريط الأوروبي، لكن المشهد الراسخ الذي لا يمكن أن تخلو منه ذاكرة أحدٍ منّا هي صالات المطار، والغربة الوجودية التي تعترينا فور قراءة اللافتات التي تُحيلنا إلى ممرات عبورٍ سهلة مخصّصة للإسرائيليين والأمريكان فقط، حيث تمشي بمحاذاة بشرٍ فاقعي البياض، وكل ما فيك يصرخ بصمت، لولا قصاصة الورق هذه، بلوني الحنطي وشعري الغامق وأصلي ومشربي ومأكلي، كنت لأُحجز في غرفةٍ رُبّما لأُرحَّل على وجه السُّرعة، أو ليُحقّق معي وأُهان وأُفتَّش أيّما تفتيش، لا أنتمي إلى هنا، قَطعًا.

وبالحديث عن استحالة الانتماء، بعد أن ضقت ذرعًا بكل ما عايشته كطالبةٍ لثلاثة أشهر على مقاعد الدراسة في جامعة تل أبيب، التي هجرتها إلى رحلة طويلة وحدي، أُنقّي ذهني فيها من الهذيان الوجودي الذي ينجم عن تناول جرعات السم الممزوج بالعسل على طريقة اليسار الإسرائيلي، في صفوف المسرح بصورة مكثّفة أكثر بكثير من صفوف سائر الاختصاصات الجامدة التي يمكن احتمالها، ظننت أنّني وقد بتّ شابّةً لا طفلةً في سنّ العاشرة، يمكنني فرض قبولي الإنساني لو ذهبت وسجّلت في معهد الدراسات المسرحية في القاهرة، لمَ لا؟ سأجلس على الرصيف وأسرد للعميد تاريخ سبعين عامًا إن وُجب، شاورت والدي، ثم صديقة مصريّة أمريكيّة تجمعها صداقةٌ بروّاد الأوساط المسرحيّة في مصر، فتواصلت مع إداريّين من المعهد بعينه، وعادت إليّ بردّ قاطعٍ كالسيف، لا تحت أي مسمّى، ولا كُرمى لأيٍّ يكُن، ستُدرج في ملفاتنا أوراق إسرائيلية، حسنًا يا مصر، شكرًا.

إلى أين أهيم؟ المعهد العالي في دمشق؟ ماذا تبقّى لنا من دمشق؟ ولو افترضنا أن شيئًا تبقّى من العروس التي تبعد عن منزلي لولا الحدود بضع ساعات، بأي جوازٍ سأذهب؟ بجوازي هذا أواجه احتمالية أن أستحيل سبيّة لينفض جزّار الشام وزوجته الشمطاء الغبار عن شعارات التحرر، وإذا لم يحدث هناك، سيحدث هنا فور عودتي "كمواطنةٍ زارت بلد عدوّ"، بلاد العُرب مُستحيلة، يعزّ عليّ كثيرًا أن لا فرصة لدي للمشي حافية القدمين على شواطئ وَهران، ولا حضور أمسية في مسرح قرطاج، ولا التّسكّع مع من أحب في شارع الحمراء ببيروت، ولا زيارة قلعة موسى بن نُصير في العُلا، إلا عبر تطبيع تلك التّسلّطيات مع قاتل أجدادي وهو آخر ما يَطيب لي أن أراه.

عدت أدراج الخيال لخيارات غرب الكوكب، جامعة كونكورديا في مونتريال، ذي نيو سكول ونيويورك فيلم أكاديمي في نيويورك، جامعة يورك في بريطانيا، وغيرهم الكثير، قدّمت أوراقي وخضعت لتجارب أداء عن بُعد، نجحت وقُبلت في بعضهنّ، ومن بينهن اصطفيت واحدةً في نيويورك أشبعَت مناهجُها نفوري الشّديد والقديم من التّدريس التّقليدي، عدت للوالد الذي لم يكن يعنيه أكثر من أن تلتحق ابنته في جامعة أينما كانت، وتبدأ مشوارها الأكاديمي بعد "أضاعت ثلاث سنوات من الأهم في العمر، على النّشاط السّياسيّ المشاغب، والعمل في الصحافة، والتّرحال"، وكل ما يعتبره -مهما نجح في إخفاء ذلك- مضيعةً للوقت، مشينا في المشروع إلى آخره، لنرتطم بجدار أن ملفّي ليس نظيفًا بما يكفي لاستصدار تأشيرة، حسنًا هذا يكفي، أي بلد يحبّني؟ يحبّنا؟ لا يأبه بهذا الهُراء؟

إيطاليا، مُهجة فؤادي.

حزمت أمتعتي وانطلقت، إيطاليا لا تصدّني، لم تصدّ والدي وَلا جُموع الفلسطينيّين الذين وفدوا إليها في السّبعينات والتّسعينات، أشعر بالأُلفة هنا تجاه البشر والشجر، أنزلت الصّاري وأمسكت مجذاف البحث عن ضالّتي في الجامعات لأجد على نحوٍ غير متوقّعٍ أن الدّراسات المسرحية هنا يُرثى لها، تنهّدت، لم أعد أقوى على التجوال، سأمكث حتّى أُحبّ شيئًا، وماذا ستحبّ في إيطاليا أكثر من المعمار؟ الطعام فقط، والصخب الذي كنت أفتقده في ڤيرونا، مدينة "روميو وجولييتّا" التي لم يرُق لي هدوءها ولا طرقاتها التي تعجّ بالعجائز مُطلقًا، أنا منهكةٌ نعم، أحتاج للتركيز صحيح، لكن انتقالًا أخيرًا إلى ميلانو لن يقسم ظهر الجَمَل، تشعرون أنني أبحرت بكم بعيدًا عن الجواز الإسرائيلي؟ أخطأتم.

لم أجد سكنًا في عاصمة الموضة إلا في ضاحية تُدعى واشنطن، يتبيّن أن جُل سكّانها من "أبناء العمومة"، ويتبيّن لاحقًا أنني ومصريَّين آخرَين نشكّل قاطني الحيّ العرب الوحيدين، في المدينة التي تضمّ من الجالية المصريّة وحدها ما يزيد عن مئة ألف، استقبلتني صاحبة المنزل بابتسامة عاديّة، ما لبثت أن أصبحت سعادةً غامرة فور تلويحي بالجواز لتعبئة الأوراق، أهلًا بك بين أهلك، فصلٌ من الحوارات المسبّبة لارتجاع المريء قد ابتدأ، إذا أخبرتها أنني فلسطينية ستُحاصصني الأكسجين، وإذا أطبقت فمي سأعوم في بحر طحين، لو كانت أوراقي فلسطينية لحُسم الانطباع بالإيجاب أو السلب مباشرةً، تتعب يا صديقي، تحنّ إلى قهوة أمك، أو إلى مقلوبتها كما هو الحال لديّ، وتعود إلى البلاد في عُطلة وسُكونٍ مُطبقٍ على حرف الباء.

تظنّ فور تلويح سُحُب البلاد في الأُفُق، وأنت تحدّق في ساحل نعيمنا المُختال على البحر الأبيض المتوسّط، أنك تهبط إلى حيث ستشعر أخيرًا بالاتّساق مع نفسك، إلى وطنك، إلى ترابٍ يضمّ قبر جدّك ويحلو في سبيله حَتفك، لكن لا، يصيح فيك مصير الغربة الأبديّة "خسئت"، تُوقظك من حلم اليقظة هذا أول خطوة تخطوها بعد باب الطائرة في مطار اللد، الذي يدعى اليوم بن غوريون، هذا الاسم الذي لو عاقبنا انفسنا باستذكار صاحبه كلما ارتحلنا وعُدنا لمُتنا غَمًّا، تجد في انتظارك ممرًّا مُزخرفةٌ على جدرانه كل هزائمك بألوان الباستيل تارةً، وبالأبيض والأسود تارةً أخرى، صور فخرٍ واعتزاز أقدمها بعُمر النكبة وأحدثها بعُمر آخر مُصيبة، مع ترحيبٍ كثير وتسهيلٍ وفير وعبارات منمّقة لاستقبال العائدين "حديثًا" من غربة آلاف السنين إلى أرض الميعاد.

تظنّ فور تلويح سُحُب البلاد في الأُفُق، وأنت تحدّق في ساحل نعيمنا المُختال على البحر الأبيض المتوسّط، أنك تهبط إلى حيث ستشعر أخيرًا بالاتّساق مع نفسك، إلى وطنك، إلى ترابٍ يضمّ قبر جدّك ويحلو في سبيله حَتفك

تمشي بعينٍ مُفتحةٍ وأخرى مغمضة بين صورٍ لأطباقك التّراثيّة منسوبة لغيرك، تسلّم وجهك الذّابل إلى قُمرةٍ تُطابق بينه وبين جواز سفرك، ثم تخرج لتجد أحبّتك في انتظارك، تأخذهم بالأحضان والقُبَل ثم ترتَمي بالسَّيّارة: شغّلوا الرّاديو، أوه لا راديو عربيّ يصل تردّده إلى يافا، قَلِّبوا لنرى، إذاعة الجّيش، إقلب، إذاعة صوت إسرائيل، ويحك، غالغالاتس، ارحمني من فضلك، إوصل الـUSB القديم.

تسترخي وتَحنو على زجاج الشباك، أو يحنو عليك هو لست أدري، تحدّق في السّهول والجبال والحقول على مدار ساعةٍ ونصف بلا ملل، ثم تظهر "البلد"، مُفرد البلاد، وهي القرية التي تشعر مهما تعمّقت في جغرافيا ديارنا الصغيرة، أنك تائهٌ ولا تملك شيئًا من أمرك خارجها، تفتح النّافذة، تلثم النَّسيم البارد وتسلّم على فلان وتَومي بعينيك لعلّان، ثم تصل إلى البيت، وبعد قليلٍ إلى الغرفة، وبعد بُرهةٍ إلى سريرك في عناقٍ مَريَمي، وتغفو.