26-يناير-2023
لقطة من فيلم متحضرات

لقطة من الفيلم

هذه المساحة مخصصة لأرشيف الثقافة والفن، لكل ما جرى في أزمنة سابقة من معارك أدبية وفنية وفكرية، ولكل ما دار من سجالات وأسئلة في مختلف المجالات، ولكل ما مثّل صدوره حدثًا سواء في الكتب أو المجلات أو الصحف، لكل ذلك كي نقول إن زمن الفن والفكر والأدب زمن واحد، مستمر دون انقطاع.


"متحضرات" هو عنوان أشهر أفلام المخرجة اللبنانية الراحلة رندة الشهال (1953 – 2008) وأكثرها إثارةً للجدل أيضًا. أُنتج الفيلم عام 1999، أي بعد نحو 9 سنوات من نهاية الحرب الأهلية اللبنانية التي تناولها بطريقة رأى البعض أنها صادمة ومستفزة، لا لأنها تُعيد فتح ذاكرتها في مرحلة سعى فيها بعض من في السلطة إلى تغييبها وطمسها فقط، بل لأنها تحمّل اللبنانيين مسؤوليتها بوصفها حربهم لا حرب الآخرين على أرضهم كما يعتقد بعضهم.

يحمّل الفيلم اللبنانيين مسؤولية الحرب الأهلية التي أضاء على القسوة والوحشية التي طغت على علاقتهم ببعضهم خلالها

تقع أحداث الفيلم في مدينة بيروت خلال الحرب الأهلية، وتدور حول شخصيات غريبة تقدّم الشهال عبرها صورة بانورامية لأحوال المدينة الخاضعة لسيطرة الميليشيات الطائفية: مقاتل مسلم يقع في حب خادمة مسيحية، امرأة برجوازية تعود من باريس للقاء عشيقها، امرأتان مصريتان فقيرتان علقتا في بيروت ووقعتا في غرام بعضهما، رجل دفعه اختطاف ابنه إلى حافة الجنون، خادمات آسيويات متروكات لمصير مجهول بعد تخلي أرباب عملهن عنهن.

ومن خلال هذه الشخصيات، يسلط الفيلم الضوء على القسوة والوحشية التي طغت على العلاقة بين اللبنانيين خلال الحرب، سواءً العلاقة بين مقاتلي الميليشيات الطائفية المتصارعة، أو علاقتهم مع المدنيين، وعلاقة المدنيين ببعضهم. واستنادًا إلى هذه القسوة وما ترتب عليها من فظائع، حمّل الفيلم اللبنانيين مسؤولية اندلاع الحرب وتمزق المجتمع اللبناني.

كيف رأى اللبنانيون الفيلم؟

يرى بعض النقاد أن رندة الشهال اعتمدت على معايشتها للحرب في تناولها لها وتصويرها لواقع الحياة وطبيعة علاقة اللبنانيين ببعضهم خلالها. بينما يرى آخرون أنها لم تسع إلى سرد وقائعها، وإنما إلى تناول ما يحدث خلفها من عنف وطائفية وممارسات عنصرية طالت الأجانب عمومًا، والعاملات المنزليات خصوصًا. وقد أعاد البعض سبب التركيز على الطائفية والعنصرية إلى قناعة الراحلة بأنهما السبب الرئيسي وراء اندلاع الحرب الأهلية.

في المقابل، رأى نقاد آخرون أن الفيلم بالغ في تصوير الحرب الأهلية وأحوال البشر خلالها، وكذلك في التركيز على عنصرية اللبنانيين سواءً ضد بعضهم أو ضد الأجانب والعاملات المنزليات، إضافةً إلى اعتبار أن اللبنانيين شركاء في الحرب وليسوا ضحايا. ولذلك، اعتبر هؤلاء أن الفيلم لا يقدّم شيئًا ذا قيمة، وأنه لا ينطوي في الأساس على حبكة وسياق وقصة متماسكة، وأن شخصياته نمطية ومصطنعة، وكذلك أحداثه.

رندة الشهال وملصق فيلمها متحضرات
رندة الشهال وملصق فيلمها "متحضرات"

لماذا مُنع "متحضرات" من العرض؟

في ضوء السجال بين مؤيدي الفيلم ومهاجميه حول مضمونه ورسائله، أصدرت مديرية الأمن العام في لبنان قرارًا بمنعه من العرض في الصالات اللبنانية إن لم تقم مخرجته بحذف 47 دقيقة منه تتضمن شتائم وألفاظ نابية، وتصدّر صورة سيئة عن لبنان وشعبه إلى الخارج بحسب وصفهم، الأمر الذي دفع الشهال إلى إصدار بيان قالت فيه: "اتخذت مديرية الأمن العام موقفًا غريبًا من فيلمي "متحضرات"، فهي تطالب بحذف ما يعادل 47 دقيقة من فيلم تبلغ مدته 90 دقيقة، أي أنها تريد حذف نصف الفيلم أو أكثر بقليل". وأضافت: "تتوزع المادة المنوي حذفها على أجزاء الفيلم كافة: كلمات داخل الجملة الواحدة، جمل بكاملها في مشهد، أجزاء من مشهد، شخصيات برمتها".

لا يسرد الفيلم وقائع الحرب الأهلية وإنما يركز على ما يحدث خلفها من عنف وطائفية وممارسات عنصرية

وأعادت صاحبة "طيارة من ورق" أسباب المنع إلى تناول الفيلم لمواضيع تُعتبر من المحرمات، وتطرقه لما لا يريد اللبنانيين مشاهدته وتذكره، مثل تبادل أفراد الميليشيات الطائفية للقذائف والشتائم، وقنص رجل دين، وخطف الأجانب والعمال السوريين، وإظهار الجنس أو التلميح له.

وقالت المخرجة الراحلة في بيانها ساخرةً: "باختصار، في لبنان، لم يكن من عنف ولا قنص ولا خطف ولا شتائم ولا تصورات سلبية متبادلة بين الجماعات. أليس لبنان هو الجنة على الأرض؟ أوليس النسيان كبرى الفضائل؟".