19-يناير-2023
غلاف كتاب من هنا نبدأ

كتاب من هنا نبدأ

هذه المساحة مخصصة لأرشيف الثقافة والفن، لكل ما جرى في أزمنة سابقة من معارك أدبية وفنية وفكرية، ولكل ما دار من سجالات وأسئلة في مختلف المجالات، ولكل ما مثّل صدوره حدثًا سواء في الكتب أو المجلات أو الصحف، لكل ذلك كي نقول إن زمن الفن والفكر والأدب زمن واحد، مستمر دون انقطاع.


في شباط/ فبراير عام 1950، أصدر الكاتب والمفكر الإسلامي المصري خالد محمد خالد (1920 – 1996) كتابه الشهير "من هنا نبدأ"، الذي ناقش فيه قضايا ومواضيع عديدة مرتبطة بعلاقة الدين بالدولة، والأوضاع الاجتماعية والفكرية والمعيشية في مصر، إلى جانب تأثير أداء المؤسسات الدينية التقليدية، ورجالها، عليهما.

أثار الكتاب جدلًا واسعًا بسبب أفكاره التي دفعت رئيس لجنة الفتوى بالمسجد الأزهر إلى تقديم شكوى ضده إلى النيابة العامة

تضمن الكتاب نقدًا حادًا لما أسماه المؤلف "الكهانة"، ويقصد بهم رجال الدين المصريين الذين وقفوا ضد رغبات المجتمع المصري وطموحاته، وعملوا على شرعنة سياسات الأنظمة الحاكمة التي أدت إلى إفقار المصريين من خلال توسّل الدين والمنابر لإقناعهم بقبول الفقر والظلم بوصفه قدرًا لا يمكن تغييره.

ويرى المؤلف أن هؤلاء أعاقوا تطور المجتمعات بعقلية التحريم، وجعلوا من الشريعة سدًا يعيق تقدّمها. كما حمّلهم وزر تأخر المصريين وجهلهم بوصفه نتيجة لما يبشّرون به من تعاليم فاسدة تزعم أنها من الدين بحسب وصفه. ويقول في هذا السياق إنها تحتكر: "عقول الناس، وتضرب حولها حصارًا قاسيًا، ونطاقًا من حديد"، وترى في العقل الحر: "أعظم خطر يهدد وجودها لأنها لا تحتمل هجومًا واحدًا منه، فهي لذلك تبذل أقصى جهدها ليظل العقل الخاضع لها مكبلًا بالأصفاد".

تناول الراحل أيضًا الأوضاع الاجتماعية في بلاده، ورأى أن الإسلام ينزع نحو الأهداف الاشتراكية لناحية العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات. كما قدّم نقدًا حادًا للرأسمالية التي يرى أنها توغلت في المجتمع المصري بغطاء شرعي وفّرته المؤسسات الدينية. أما حول علاقة الدين بالدولة، فقد رأى أن الحكومات الدينية تجربة فاشلة ومجازفة بالدين تعرّض نقاوته للتكدّر وسلامته للخطر، وأن الفصل بينهما يحفظ قدسية الدين وصورته الإيجابية لدى الناس.

جدل العلاقة بين الدين والدولة

أثار الكتاب جدلًا واسعًا في الأوساط الثقافية والدينية المصرية بسبب أفكاره الجريئة التي دفعت رئيس لجنة الفتوى بالمسجد الأزهر إلى تقديم شكوى للنيابة العامة جاء فيها أن الكتاب تعدى علنًا على الدين الإسلامي، وأنه: "حبذ وروج علنًا مذهبًا يرمي إلى تغيير النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية بالقوة والإرهاب ووسائل أخرى غير مشروعة (...) وحرض علنًا على بغض طائفة من الناس وهي طائفة الرأسماليين والازدراء بها تحريضًا من شأنه تكدير السلم العام".

ورغم حظره ومنعه من التداول في بداية ظهوره، إلا أن محكمة بداية القاهرة عادت وأتاحت الكتاب وبرّأت صاحبه بعد محاكمته. لكن الجدل حول الكتاب استمر في الأوساط الثقافية والدينية وداخل أروقة المسجد الأزهر، الذي رأى فيه بعض علمائه هجومًا على الإسلام ونقدًا للكثير من ثوابته. ويُعتبر الغزالي من أشهر العلماء الذين تصدوا للرد على خالد، حيث أصدر كتابًا بعنوان "من هنا نعلم" شدد فيه على أن الإسلام، وعلى عكس ما جاء به خالد، دين ودولة.

رأى المفكر المصري أن الحكومات الدينية تجربة فاشلة ومجازفة بالدين تعرّض نقاوته للتكدّر وسلامته للخطر

وفي المقابل، دافع عدد من الكتاب والمفكرين المصريين عن خالد وكتابه، واعتبروا أن مضمونه يقدّم تصورًا ضروريًا لتجديد الخطاب الديني، وفهمًا أكثر عمقًا لتعاليم الإسلام. لكن الملفت أن المفكر المصري الراحل عاد وانقلب على ما جاء في كتابه بعد 30 عامًا من صدوره، حيث أصدر في عام 1981 كتابًا بعنوان "الدولة في الإسلام" قدّم فيه قراءة جديدة تقف على النقيض مما طرحه في كتابه السابق.

اعتبر خالد في كتابه الجديد أن الإسلام دين ودولة حقًا، وأن ما طرحه في كتابه السابق مجرد أفكار حماسية لا تستند إلى فهم عميق لتصورات الإسلام حول شكل الدولة. لكن البعض رأى أن سبب تراجعه عن أفكاره هو الضغوط التي مارسها شيوخ المسجد الأزهر ضده.