28-سبتمبر-2022
لأمية رواية أغوتا

رواية الأمية

قرأت أغوتا كريستوف في الصحف عن طفل تركي توفي أثناء محاولة ذويه عبور الحدود السويسرية بطريقة غير شرعية. كالعادة ترك الدليل المأجور مجموعة المهاجرين في مكان ما من الغابة، وأخبرهم أنهم باتوا قريبين جدًا من غايتهم، وما عليهم إلا أن يمشوا بضع مئات من الأمتار حتى يصلوا أول قرية في أراضي سويسرا، ولكن المهاجرين مشوا كيلومترات كثيرة دون أن يلوح في أفقهم أي أثر لقرية. حمل الأب ابنه المنهك على ظهره طيلة هذه المسافة، وما أن عثرت أبصارهم على أولى ملامح القرية حتى اكتشفوا أن الطفل كان قد فارق الحياة.

في  "الأمية"، تروي أغوتا كريستوف حكاية هجرتها، وحكايات أخرى من حياتها، وخاصة مجابهتها لـ "أميتها" الثانية، عندما وجدت نفسها غريبة وسط أناس يتحدثون الفرنسية التي لا تعرف منها حرفًا

كانت ردة فعل كريستوف مماثلة لتلك التي أبداها جميع مواطنيها السويسريين: "كيف يجرؤ هؤلاء الناس على الإلقاء بأنفسهم في مغامرات مثل هذه برفقة أطفال؟ لا يمكن التساهل مع هذه اللا مسؤولية". ولكن ما هي إلا لحظات حتى استدركت مذكرة نفسها: "كيف؟ أنسيت كل شيء؟"، ذلك أن كريستوف كانت، قبل بضعة عقود، مهاجرة غير شرعية أيضًا، هربت من بلدها المجر في العام 1956 وعبرت غابات وحقولًا ومسالك باردة وموحشة، حاملة طفلتها الصغيرة بين يديها، حتى وصلت إلى بر أمانها هنا، في سويسرا.

وجدت مسكنًا لائقًا وثيابًا نظيفة وعملًا بأجر معقول (عاملة في مصنع ساعات)، ولكنها افتقدت نكهة مسقط الرأس وتسرية الجيرة والأصحاب وحميمية الأهل، والأهم أنها افتقدت اللغة الوحيدة التي تتقنها، وها هي، وقد تجاوزت العشرين، تعود أمية كما كانت في الرابعة من عمرها.

في كتابها "الأمية"، (ترجمة محمد آيت حنا، منشورات الجمل)، تروي أغوتا كريستوف حكاية هجرتها، وحكايات أخرى من حياتها، وخاصة مجابهتها لـ "أميتها" الثانية، عندما وجدت نفسها غريبة وسط أناس يتحدثون الفرنسية التي لا تعرف منها حرفًا، وكيف أنها دخلت المدرسة لتمحو هذه الأمية ولتعرف بضعة جمل تفيدها في المعمل والشارع والسوق، وإذا بهذه الخطوة تقودها لأن تصبح كاتبة مرموقة باللغة الفرنسية، تحقق رواياتها أرقام مبيع عالية وتترجم إلى معظم لغات العالم.

ولدت كريستوف العام 1935 في قرية مجرية صغيرة، لأم ربة منزل وأب هو المعلم الوحيد لمدرسة القرية. وقعت مبكرًا في شباك الكتب، فأدمنت القراءة.. قراءة كل شيء وأي شيء مكتوب يقع بين يديها. تكتب في سيرتها الموجزة "الأمية": "أقرأ. الأمر أشبه بالمرض. أقرأ كل ما تقع عليه يداي أو عيناي: جرائد، كتب مدرسية، ملصقات، قصاصات ورق مطروحة في الطريق، وصفات مطبخ، كتب أطفال. كل شيء مطبوع".

عاشت طفولة قاسية أثناء الحرب العالمية الثانية حيث رأت بلادها تنتقل من الاحتلال الألماني إلى ظلال المدافع السوفييتية إذ صارت هنغاريا دولة تابعة تدور بإذعان في فلك موسكو. ثم فقدت أباها عندما قادوه إلى السجن بتهمة غامضة، فحملتها أمها، وقد صارت معدمة، مع أخويها إلى مدينة قريبة ووزعتهم على مدارس داخلية مجانية. كانت مدرسة أغوتا أشبه بالملجأ. عنابر باردة ومزدحمة للإقامة ومدرسة يسودها نظام شبه عسكري. وكانت القراءة هي العزاء الوحيد في هذا العيش المعتم.

وفي يوم قامت الإدارة بإخطار التلاميذ أن يكفوا عن الغناء والأناشيد والضحك واللعب.. ذلك أن ستالين قد توفي. أرادت الفتيات أن يظهرن قدرًا كبيرًا من الحزن، لكن نكتة خرجت من فم إحداهن قلبت الموقف، فسرت عدوى الضحك بين المقاعد لتصل إلى المعلم، ولقد غرق الجميع في ضحك هستيري كشف المشاعر الحقيقية إزاء الزعيم السوفييتي الموقر!. ومع ذلك فقد كانت عملية التعبئة الشيوعية ناجعة وخاصة مع العقول الشابة. تنقل كريستوف عن الراقص الروسي المنشق رودلف نوريف قوله: "يوم وفاة ستالين ذهبت خارج المدينة، قصدت البرية، انتظرت أن يحدث شيء عظيم، أن تستجيب الطبيعة للفاجعة. لكن لا شيء حدث. لم تزلزل الأرض، لم تند عن الطبيعة أية إشارة"!

أغوتا كريستوف: "ليست لدي أدنى رغبة في الموت. أجد الحياة قصيرة جدًا. بعد الحياة سنكون ميتين طيلة الوقت. بإمكاننا إذًا أن ننتظر حتى يصل وقت الموت"

في شبابها كتبت كريستوف قصائد نشرت بعضها في مجلة أدبية مجرية، وهكذا صارت الكتابة عزاء آخر إلى جانب الكتابة، وهو ما أنقذها في حياة الغربة السويسرية وعجل في اندماجها، ففيما كانت تتعلم أبجدية الفرنسية راحت تتعلم كتابة الأدب بالفرنسية، وهي تعترف أنها لم تتقن اللغة الجديدة إتقانًا تامًا، لم تصبح مطلقًا كأحد من أبنائها الأصليين، ومع ذلك فقد امتلكت رواياتها المكتوبة بالفرنسية أسلوبًا خاصًا وهوية متفردة طريفة.

في الثمانينات انطلقت شهرة أغوتا كريستوف وذلك مع ثلاثيتها الروائية: "الدفتر الكبير"، "البرهان"، الكذبة الثالثة". كما نشرت رواية بعنوان "أمس"، ومجموعة نصوص متنوعة، إضافة إلى عدد من القصص والمسرحيات والنصوص الإذاعية..

عانت كريستوف من مشكلة في ساقها جعلتها حبيسة منزلها سنوات عديدة، وهي لم تكتب أي عمل في السنوات الست الأخيرة من حياتها، وهكذا رحلت بصمت في العام 2011 وبطريقة تشبه كثيرًا طريقة حياتها والتي يلخصها عنوان أحد كتبها: "سيان".

في حوار صحفي قالت كريستوف إنها تؤمن إلى حد ما بالفلسفة العدمية: "العدمية.. تلك هي الكلمة التي تبدو لي الأقرب إلى نمط وجودي"، ومع ذلك "ليست لدي أدنى رغبة في الموت. أجد الحياة قصيرة جدًا. بعد الحياة سنكون ميتين طيلة الوقت. بإمكاننا إذًا أن ننتظر حتى يصل وقت الموت".