28-نوفمبر-2015

لم يحظ الجميع بفرصة (محمد تلاتين/الأناضول/Getty)

أعود بذاكرتي إلى اليوم الذي وصلني بريد قبولي لدراسة الإعلام بموجب منحة من الحكومة التركية، وأذكر تمامًا الفرح الذي أقيم في منزلنا، لحصولي على منحة تغطي نفقات الدراسة والإقامة، خاصة أنه تم قبولي في الاختصاص الذي طالما تمنيته.

شاركني هذا الشعور مئات الطلاب السوريين الذين قبلوا كذلك بالمنحة ذاتها، جلهم نزحوا من قراهم ومناطقهم، نتيجة ارتفاع وتيرة القصف والاشتباكات، معتبرين أن هذه المنحة "بارقة أمل" للمساهمة في بناء سوريا الجديدة في المستقبل القريب، أو البعيد جدًا، كما يقولون!

تلك المنحة التركية وغيرها من المنح المشابهة، كانت حبل نجاة للشباب السوري الغارق في مستنقع المشاكل التي سببها النظام السوري في حربه ضد المدنيين. دفعت الشباب والشابات السوريين، لتطوير خبراتهم وإمكانيتهم من أجل تحقيق شروط المنحة كاملة، بل ودفعتهم للتعاون والتشارك فيما بينهم بتجارب تقديم الطلبات، وتحقيق شروطها، من خلال موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك".

في مقابل نجاحات الطلاب السوريين في المهجر هناك آلاف الطلاب الذين تركوا دراستهم لخدمة شعبهم وثورتهم

ويدعم فئة الشباب هذه، أكاديميون ممن حصلوا على منح دراسية في السنوات السابقة، ويقدمون لهم المشورة اللازمة حول الدراسة وطريقة تعبئة ملف التقدم إلى المنحة، ومقابلة السفارة، وتجدر الإشارة هنا إلى الدكتورة شذى خليل، التي أنشأت مجموعة "منحة للطلاب السوريين"، كما تساعد من خلال منشورات على صفحتها، الطلاب الراغبين بالدراسة في الخارج.

أذكر أيضًا، أن من الطلاب السوريين الذين هاجروا إلى الدول الأوروبية والولايات المتحدة، من أثبتوا أنفسهم وجعلوا مجتمعات تلك الدول تلتفت لمواهب وقدرات أولئك الطلاب الخارجين حديثًا من بيئة حرب دامية، دمّرت وحصدت أرواح الكثيرين. فالطالبة نور قصاب، إبنة الـ19 عامًا، قدمت من مدينة اللاذقية، قبل ثلاث سنوات إلى ألمانيا، لكنها أبهرت الألمان بعد حصولها على العلامة التامة في شهادة الثانوية الألمانية "الابيتور"، وذلك بعد إتقانها للغة الألمانية بغضون عام واحد، والتي تشتهر بصعوبة تعلمها.

كذلك، احتفت وسائل الإعلام الفرنسي بالطالب السوري هيثم الأسود من محافظة درعا، الذي حصل على امتياز في اختبارات الثانوية العامة بفرنسا، ما أهله لدخول إحدى المدارس العليا لدراسة هندسة العلوم، حيث يدخل مثل هذه المدارس عدد محدود من الطلاب المتفوقين والعباقرة.

في بعض الأحيان، وفرت بعض الدول الأوروبية، لبعض الطلاب اللاجئين في بلدانها مناخًا مناسبًا جدًا للدراسة، إذ أن حكومات الدول الأوروبية تتكفل بتأمين إقامة اللاجئ الذي ينوي إكمال دراسته أحيانًا، وتؤمن مصاريف معيشته ويدخل جامعاتها مجانًا بعد دراسة لغتها، أو يمكنه الحصول على قرض يسدده بشكل مريح بعد التخرج والدخول لسوق العمل. كل هذه الظروف تساعد الطالب نفسيًا وتدفعه للدراسة والتفوق، لكن هناك طلاب في الدول المجاورة لسوريا يفتقدون هذه الميزات بل وكثير منهم يتحمل أعباء معيشة عائلته، ومع ذلك يدرس ويتفوق.

وفرت بعض الدول الأوروبية لبعض الطلاب اللاجئين في بلدانها مناخًا مناسبًا جدًا للدراسة

في تركيا مثلًا، يدرس محمد عبد الجليل وهو شاب عشريني من دمشق، في قسم الهندسة بجامعة بمدينة اسطنبول، وفي الوقت ذاته يعمل في منظمة مجتمع مدني لإعالة نفسه وأسرته. يؤكد عبد الجليل أن لكل إنسان طاقة معينة إما أن يركزها في مجال واحد، أو يوزعها على عدة مجالات حسب الأولوية، واصفًا أن العمل والدراسة في الوقت ذاته عمل صعب، وأن الضغوط منعته من عدة أمور على الصعيد الشخصي.

في مقابل نجاحات الطلاب السوريين في المهجر، هناك آلاف الطلاب الذين تركوا دراستهم، ووظفوا أنفسهم وتطوعوا لخدمة شعبهم وثورتهم التي حولتها قوى عالمية لحرب مدمرة أهلكت الحرث والنسل، أولئك الطلاب يقبعون في مناطق يحاصرها النظام، ومنع الأخير فيها أبسط مظاهر الحياة، وجوع أهلها في محاولة منه لإجبارهم على الرضوخ له.

كذلك، فإن آلاف الشهداء والمعتقلين هم من طلاب الجامعات، لكن كانوا على جبهات القتال مع قوات النظام كمقاتلين مع الجيش الحر أو إعلاميين يغطون المعارك ويوثقون جرائم الحرب والانتهاكات التي يرتكبها النظام والميليشيات التي تسانده.

إقرأ/ي أيضًا: رحلة موت في جامعة الفرات

وقال "أبو محمد" وهو ناشط إعلامي في الغوطة الشرقية بريف دمشق، إن دراسته الجامعية، توقفت بعد تصعيد قوات النظام حملتها العسكرية على مدن وبلدات الغوطة الشرقية قبل ثلاث سنوات، وإنه انخرط في الحراك السلمي المطالب بالتغيير. عمل مصورًا للقصف والدمار الذي أحدثه قصف قوات النظام على الغوطة منذ ذلك الوقت إلى الآن، مشدّدًا أن تضحيته بدراسته في سبيل قضية السوريين، تعتبر رخيصة أمام تضحيات رفاقه الشهداء والمعتقلين.

وباسل شحادة له قصته. النجم الدمشقي الذي لمع بين قافلة نجوم شهداء سوريا، درس المعلوماتية في جامعة دمشق، ثم حصل على منحة تبادل الطلاب في الولايات المتحدة الأميركية، غير أنه تخلى عنها وعاد إلى حمص، وبرز كمصور في حي باب سباع، ووثق من خلال عدسته الجرائم التي مارستها قوات النظام ضد المدنيين في الحي، قبل أن يستشهد ا في شهر أيار/مايو من عام 2012.

يوجد الآلاف من أمثال باسل فقدوا حياتهم من أجل قضية اعتبروا حياتهم رخيصة أمامها. كما تحتضن أقبية سجون النظام، آلاف الجامعيين والمثقفين، ولا يعرف إن كانوا ما زالوا على قيد الحياة، أو قضوا تعذيبًا. إلى أرواح أولئك المجهولين سلام مثقل بالخجل من تضحياتهم التي لم يكترث لها المجتمع الدولي الصامت على جرائم النظام، والساكت عن أحلامهم التي لم تتكسر بعد رغم كل شيء.

إقرأ/ي أيضًا: أي مصير للغة "موليير" في سوريا؟