02-يوليو-2018

شيرين نشأت/ إيران

1

الأمهاتُ لديهنّ نزعة غريبة في مجاملة التراجيديا، إنّهنّ يُفضلنها على ما عداها، ويصررنَ على استدعائها حتى في أقصى حالاتهنّ مناقضة لها، أقصد حالة الفرح، الأمهات ببساطة لا يفرحنَ ببساطة، دائمًا ما يُلبسنَ فرحهنّ ثوبه المعقد، وكأنّهنّ يردنَ أن يُثبتنَ له أنّ الحزن هو الأصل، وأنّه العابر المؤقت والزائر الثقيل، الذي لن يمرّ فيهنّ دون محاولات تشويه تُضفيها عليه مسحة تراجيدية تأتي بها عيونهنّ المهيأة دائمًا للانفجار. شيءٌ ما في هذه العيون يصرّ دائمًا على إثبات نفسه لحظة الفرح بطريقته؛ بالانسكاب، بالانهمار، بالذرف، بالانفجار، إنّ هذا الشيء يصلح في مواسم الفرح كبطاقة هوية، تَدلّك على الأمّ، تقودكَ إليها، تجرّك نحوها، إنّ الأمّ في مواسم الفرح لا تُعرف من ابتسامتها بقدر ما تُعرَف من دموعها، وكأنّ الفرح لا يخرج منها إلا هكذا، وكأنّها تخبركَ في هذه المواسم أنّ لديها "ما يكفيها من الدموع لكلّ شيء، لكلّ شيء"، حتى للفرح!

 

2

شرعتُ اليوم بتعداد الأشياء التي لها قيمة معنوية في حياتي أو يُمكن إعطاءها ذلك التوصيف المعنوي العلوي الذي يجعلها تندرج تحت لائحة تحمل مسمّى "هي أشياء لا تُشترى"، بدأتُ بالتعداد، "وجه أمي...." ثمّ توقّفتْ.. وجه أمي له قيمة معنوية عليا، قيمة تجعلني أدخل بنوك التعداد وأخرجُ منها وقد امتلأ رصيدي المعنوي بقيمة واحدة تُعادل مليار قيمة، وجه أمي مصدر غنىً معنوي مكثّف وكبير إلى ذلك الحدّ الذي جعلني أتوقّف عنده عن التعداد مقرّة باكتفائي الذاتي به ومنه وفيه.

 

3

لو أنّ الأمهات يتخفّفنَ قليلًا من عادة طهي أطباقهنّ بكلّ الحبّ، لو أنّهنّ يتعاطين مع الحبّ الذي ينثرنه فوق الأطباق بمنطق الشحّ لا الكرم فيعملنَ على تقليص كميته إلى النصف أو الثلث أو الربع، لو أنّهنّ يفعلن ذلك لوفرنَ على أنفسهنّ فواتير إهدار عواطفهنّ على أبنائهنّ، ولوفرن على أبنائهنّ الكلفة التي يدفعونها جراء هذا الإهدار وتقودهم دائماً نحو التحوّل إلى مشاريع براميل تمشي على الأرض!

 

4

إنّ الأقدار الوردية المنتَظَرة التي تُبشّرنا بها أمهاتنا ونحن غارقون في عزّ يأسنا نابعة من يقينية قلبية مُطلقة ليس فيها ذرة شكٍّ واحدة؛ بدليل أنهنّ لا يُنهين دورهنّ كمبشِّرات حتى يُتبعنَ بشارتهنّ بعبارة التأكيد اليقيني المعهود: "وقول/قولي أمّك قالت"، فيالسحر هذه العبارة وما فيها من اليقين المطمئِن الواثق الذي يجعلنا نستبشر بالقادم حتى لو كنا من عتاة المتبنين لمذاهب الشكّ واللايقين المطلق بالقادم.

 

5

الأمهات تبكي ورودًا أيضًا، ألم تسمع مارسيل وهوَ يُغني في "أجمل الأمهات" ويقول: "فبكت دمعتين ووردة"؟ الوردة هيَ الزغرودة التي يتفتّح حزنها في جنائن صوتِ أمّ الشهيد، الأمهاتُ هنا تبكينَ دموعًا وورودًا وزغاريد.

 

6

وأنا أدينُ لكِ بوجودي يا أمي، لكنني أقولُ لكِ بأنّ رحم الحياة قاسٍ جدًا حتى تقذفينني إليه بعد تسعة أشهر، كانَ عليًّ أن أمكثَ فيكِ أكثر، كان عليكِ أن تأخذي عني عبءَ هذا الوجود لمدة أطول، ففي رحمكِ لم أكن أحملُ همّ هذا الوجود الثقيل، كنتُ مربوطةً فيكِ بحبلٍ سُرّيٍّ يَصلني بمائي وغذائي، وكانَ إثبات وجودي سهلًا، ويُدلّل عليه محضَ انتفاخ. أجل.. كان يكفي أن يلمحُ أحدهم انتفاخ بطنكِ حتى تُثبتي وجودي داخلكِ قائلة: ابنتي قابعةٌ فيّ، صحيحٌ أنّه لم يكن لي اسمٌ ولا فعل، لكن وجودي الناقص ذاك كان بلا أعباء، على الأقلّ بالنسبة إليّ، فلماذا قذفتني من رحمِك إلى رحمِ الحياة وتركتِ لي مهمة خلقِ وجودي الكامل؟ لو تدرينَ فقط كم كان صعبًا عليّ خلقُ هذا الوجود، وكم تحمّلتُ من الأوجاع لأخلِقه وأُثبته، بل لو تعلمينَ كم هيَ عددُ ولاداتِي لوجودي بعدكِ، ففي كلّ مرّة كان يَبهتُ هذا الوجود، كنتُ أحمله مرّة أخرى في رحمِ جُهدي الخاصّ وأعيدُ ولادته من جديد، وإلى حدّ هذه اللحظة -يا أمي- ما زلتُ أراه ناقصًا، وأحمله وأعيدُ ولادته في كلّ مرّة وكلّي توقٍ إلى تلكَ المرّة التي أراه فيها مُكتملًا، أثقُ بأنني في تلكَ المرّة سأقفُ مشدوهة أمام شكل وجودي النهائي الذي أنجبته، لكنني أشكّ في أنني سأرضى عنه أبدًا، سيبقى في نظري ناقصًا مهما اكتمل، وسأبقى أحمله بعدكِ في كلّ مرّة وأعيدُ ولادته ولسان حالي يقول: "لا يُولد البشرُ مرة واحدة يومَ تلدهم أمهاتهم فحسب، فالحياة تُرغمهم على أن يُنجبوا أنفسهم".

 

اقرأ/ي أيضًا:

قصيدتان إلى طفل في الخامسة

بورخيس في المتنبي