قد يكلفنا اختلافنا الكثير، الكثير من النبذ والازدراء، الكره ربما، بل والحقد كذلك، كم مرة لفظَنا الكثيرون من حياتهم لأننا مختلفون عنهم، كم مرة توجسنا من علاقاتنا فيمن هم حولنا، كم مرة تعرضنا للخيانة والفقد لأننا لسنا جديرين بالثقة من وجهة نظر الآخرين فنحن "مختلفون"، وتجرعنا نظير ذلك الكثير من الغصة والمرارة، كم مرة أحببنا أن نحب، وبحثنا بكل قوتنا عمن يحتوي قلوبنا وعدنا خائبي الرجا؟ حسنًا، والآن، كيف تلقّينا الأمر يا ترى؟ وما مدى التصالح الداخلي مع ما عايشناه وما نعايشه من حسرات؟ هل ما زلنا على قيد الحياة؟ نعم، وهذا المقال دليل على ذلك، إذن، نحن بخير إلى حد ما، لكن فينسنت فان جوخ لم يكن كذلك.
من هو فان جوخ وكيف كان مختلفًا، وماذا كلفه هذا الاختلاف؟ وهل كان الثمن باهظًا؟ هل كان الحب بالنسبة لفان جوخ فردوسه المفقود؟ دعونا الآن نرى.
من هو فان جوخ
هو فينسنت فان جوخ، رسام هولندي الجنسية من مواليد 1853 م، يُنسب إلى المدرسة الانطباعية لمؤسسها كلود مونيه، من أشهر فناني عصره، يتميز بأسلوب فريد في نظرته للحياة والفن، كان من هواة الطبيعة ولها في لوحاته حظ وافر. لم يحظَ فان جوخ في حياته الفنية بما يستحق أبدًا، فبالإضافة لكونه كان مختلفًا وهذا بالطبع جعل نيران الانتقاد تُفتح عليه، وعلى مصراعيها، فقد كان من أنصار المختلفين في ذلك العصر أيضًا، وهم الانطباعيون، وهو الذي وعلى الرغم من تأثره الواضح بهم، وبصماتهم الواضحة في لوحاته إلا أنه استطاع أن يبتكر لنفسه أسلوبًا مميزًا جمع فيه بين الانطباعية والرؤية الشخصية للطبيعة.
أشهر لوحات فان جوخ
تتأكد من نجاح العمل الفني عندما تتمنى لو أنك من صَنعه، هذا هو الشعور تمامًا الذي ينتاب من يناظر لوحات فان جوخ، هذا القدر العالي من الإحساس والإلهام الفطري الذي يحلق بك عاليًا جدًا يثبت مدى جدية هذا الفنان في إبراز فن جدير بالرقي والاحترام، ومن أبرز أعماله:
- لوحة آكلوا البطاطا
- لوحة عباد الشمس
- لوحة ليلة النجوم
- لوحة فروع شجرة اللوز
- لوحة حقل القمح وشجرة السرو
- لوحة عند بوابة الخلود
فينسنت فان جوخ رجل لفظَته الحياة
نعم، لم يُلفظ من الناس فقط، وإنما من الحياة أيضًا، وأنا أقرأ سطور حياة هذا العبقري الفريد من نوعه، غريب الأطوار حد الدهشة، باغتني سؤال قبل إكمال سيرته، تُرى، كم سنة عاش هذا الرجل؟
لم أتخيل وأنا أتجول في حياة هذه القامة حقيقة أنه لم يقضِ على وجه هذا الكوكب سوى 37 سنة، في الواقع لن نعلم تمامًا كنه شعورنا تجاه هذه المعلومة؛ أسعداء لأجل الراحة الأبدية التي نالها جراء ما تجرعه من علقم أثناء حياته، أم حزينون لأننا حُرمنا مبكرًا من فنان فذ وعبقرية مختلفة.
رحلة السنوات العجاف
ولد الفنان في هولندا بعد عام واحد من وفاة أخيه فينسنت والذي مات فور ولادته، يقال إن هذا الأمر كان يُغلّب على فينسنت شعورًا بأنه لم يكن سوى بديل لأخيه لحمله نفس الاسم وتاريخ الميلاد، قد يكون هذا صحيحًا، إلا أن ما مر به فان جوخ في حياته من حُرقة يتفوق على هذا بكثير.
في الواقع، لا تتوفر في المصادر الكثير من المعلومات عن أول سنوات حياة فان جوخ، إلا أنه تلقى الدراسة لسنوات معدودة ثم ما لبث أن تركها وهو في سن الـ15، كما أنه نشأ في عائلة مرتبطة بالفن إلى حد ما، حيث كان عمه وعمته وأخوه الصغير ثيو كذلك تجارًا فنيين، كما انضم إلى شركة غوبيل وهي شركة لتجار الفن كذلك، وقد كان لهذا دور كبير في عمله كفنان لاحقًا.
لم تدم العلاقة الجيدة بين فان جوخ ومجموعة غوبيل طويلًا مما أدى إلى استقالته عام 1876 م، وكان ذلك بعد نقله لفرع الشركة في باريس.
بعد استقالته انتقل إلى إنجلترا ليشغل منصب معلم في مدرسة القس وليام ستوكس، هنا شعر فان جوخ بأنه قد وجد ضالته، انشغل بحوالي 24 طالبًا تراوحت أعمارهم ما بين 10و14 عام، اهتم بهم كما اهتم كذلك بدراسة التوراة، وعلى أنه لا ينتمي إلى عائلة متدينة اهتم بالكنيسة ودرس الإنجيل وأعاد قراءته، وقرأ الكثير في علم اللاهوت.
لما شعر فان جوخ بانتمائه لما هو عليه، أراد التعمق أكثر حيث طلب إلى القس أن يوليه مهمات أكبر كرجل دين، حتى وصل إلى مبتغاه عندما أوكل إليه خطبة قداس الأحد، وعلى غير المتوقع من حماسته للخطابة لم تلقَ خطبته وقعًا على السامعين، بل كانت رتيبة ومملة.
أحلام تتحطم على صخرة الواقع المرير
لا نعلم حقيقة إن كانت خيبة الأمل هي ما دفع فان جوخ إلى البقاء مع أسرته في هولندا بعد رحيله إليهم في أعياد الميلاد بعد ما تحطمت أحلامه على صخرة النبذ جراء خطبته في القداس، لذا عمل في مكتبة دوردريخت عام 1877، كان سعيدًا بين الكتب وربما هذا هو الذي دفعه لاحقًا للانتقال إلى أمستردام للالتحاق بالجامعة ودراسة علم اللاهوت، وبالفعل تلقى فان جوخ هناك دروس اللغة اليونانية واللاتينية والرياضيات، ولكن، مرة أخرى يخيب أمل فان جوخ لينسحب من الجامعة بعد 15 شهرًا نظرًا لعدم كفاءته.
خيبة جديدة تنضم لخيبات فناننا وذلك بعد ما تم رفضه للالتحاق بالمدرسة التبشيرية في لايكين، إلا أن الكنيسة أوصت بالنهاية بذهابه إلى منطقة التنقيب عن الفحم في بلجيكا.
في مناجم الفحم تآخت روح فان جوخ مع العاملين هناك، تعاطف الفنان مع ظروف حياتهم الغريبة والمحفوفة بالمخاطر، أرواح تتعرض للموت آلاف المرات تقاوم في سبيل الحياة، الحياة ضد الموت، تتلاقى رغباتهم مع رغبة هذا الفنان الإنسان الذي قلّبته حوادث الحياة كحجر نرد على رقعة اللعب. من هنا نشأت لدى فان جوخ رغبة في أن يكون لهؤلاء أبًا روحيًا، ملهمًا معطاءً، فزهد في مأكله وملبسه في سبيل توفير حياة أفضل لهم، ولكن، كان للأقدار رأي آخر.
يقولون" إن الطريق إلى الجحيم محفوفة بالنوايا الطيبة "، نعم، فعلى الرغم من نيته الطيبة في مساعدة عمال المناجم، لم يلقَ زهد فان جوخ ترحيبًا من الكنيسة آنذاك، وتمثل ذلك بطرده من منصبه الموكل إليه.
اتجه بعدها فان جوخ إلى قرية كيوسميس وهناك عاش بين الناس فقيرًا معدمًا يكافح لأجل البقاء، كانت الأيام هناك ثقيلة متعبة، محملة بالكثير من الفقر والجوع والنبذ كذلك.
نور في آخر النفق
كان ثيو شقيق فان جوخ بمثابة روح مهداة من الرب، يكفينا أن نعلم أن معظم ما تم تدوينه في المصادر التاريخية عن حياة فان جوخ كان نتيجة تراسله مع أخيه ثيو وتوثيقه لمعظم محطات حياته له في رسائله. عام 1880 انتقل فان جوخ إلى بروكسل لدراسة الفن بعد دعم مادي قُدم إليه من أخيه ثيو، ومن مدرسة الفنون الجميلة هناك كانت البداية، حيث بدأ دراسته فيها والتي استكملها لاحقًا معتمدًا على نفسه فقط من خلال الاستعانة بالكتب، كما تلقى الدعم من ابن عمه موف الذي كان فنانًا أيضًا، كان ذلك من خلال تقديمه الأدوات اللازمة لفان جوخ ليستطيع استكمال لوحاته وهكذا استخدم فان جوخ لأول مرة الألوان المائية من خلال مساعدة موف، ومما كان يميزه كذلك استخدامه للحركة التنقيطية في لوحاته ولو أنها كانت لفترة قصيرة إلا أنه أنجز بها العديد من اللوحات.
شمس الفنان تشرق
في عام 1882 بدأ فان جوخ بالرسم بواسطة الألوان الزيتية بالتزامن من تطور كبير في مهاراته الفنية، وفي شهر أيلول من عام 1883 انتقل فينسنت من لاهاي إلى درينتي، وكانت جولته هناك تتسم بطابع البداوة حيث تنقل فان جوخ في المنطقة هناك لرسم الطبيعة. وعلى الرغم مما كان يحمله فان جوخ في ذلك الوقت من مشاعر سيئة وإحباط عام، إلا أن التعايش مع الطبيعة أجلى حسه الفني أكثر وكانت هذه الفترة بالنسبة إليه مرحلة انتقالية في حياته الفنية وتطورها.
استلهم فان جوخ من حياته مع عمال المناجم الكثير من الأفكار للوحاته، كما كان يعكس حياتهم البائسة والمحبطة كذلك، وتعتبر هذه اللوحات من أكثر الأعمال قربًا للنفس ربما لصدقها وتآلف روح صاحبها مع أرواح شخصياتها.
استمر فان جوخ في رسم لوحاته عن الفلاحين والمسحوقين آنذاك، وتطور أسلوبه الفني أكثر فأكثر، بل وبدأ الفنان بالنظر إلى رسوماته كدراسة تحليلية ليلحظ كم التطور الذي لحق بريشته عبر تلك السنوات.
لوحة آكلوا البطاطا
كيف نعترف بنجاح العمل؟ من شهرته.
رغم أن فان جوخ فنان بالفطرة إلا أنه وحتى العام 1885 لم تكن له شهرة في الأوساط الفنية بعد، إلا أنه استطاع بفضل لوحة "آكلوا البطاطا" الولوج إلى عالم الشهرة، واستطاع من خلالها تسليط الضوء على نفسه ولو قليلًا.
كانت هذه اللوحة بمثابة قلب لمعادلة حياة فناننا، فردود الفعل الإيجابية التي تلقاها عليها استطاعت تحسين نفسيته ورفع ثقته بنفسه، إلا أنه ومع كل هذا كان حريصًا دائمًا على نقد نفسه وعدم شعوره بالرضى التام عنها، ومن هنا قرر الانتقال إلى عاصمة الفن والجمال "باريس".
في باريس.. عاصمة الجمال والنور
تعتبر المرحلة الباريسية في حياة فان جوخ مبهمة إلى حد ما، نظرًا لاعتماد المؤرخين على تراسلات فان جوخ مع أخيه ثيو في توثيق حياته، وما حدث في باريس من إقامة الأخوين معًا حال دون ذلك.
في ريف باريس وجد فان جوخ نفسه، واستلهم من الطبيعة أفكارًا للوحاته، وظهر في تلك الفترة أثر الانطباعيين على لوحاته أكثر من حيث زهو الألوان وإشراقها. كما ظهر في تلك الفترة تأثر فان جوخ في الفن الياباني الذي ظهر بشكل جلي على لوحاته.
طقس متقلب..مزاج متقلب
كان لتبدل الطقس أثر كبير على نفسية فان جوخ، كان في الصيف والربيع منطلقًا مع ريشته وألوانه بين حقول وريف باريس، إلا أنه وبمجرد دخول الشتاء كان يصاب بحالة اكتئاب غريبة، وكان ينعكس هذا على اختياره للألوان حيث كانت تظهر الألوان الداكنة والكئيبة في لوحاته مما كان يثير قلقه الدائم خشية الدخول في حالة متقدمة من الاكتئاب.
لم يقتصر الأثر على لوحاته وألوانه الداكنة فقط، فقد كانت علاقته بالناس تسوء أيضًا، فهذا ثيو الذي لم يشفع له قربه الوثيق من فان جوخ في تجنب عدائيته، ولا أقصد هنا العدائية المؤذية بقدر ما هي مزعجة، على أن فان جوخ لم يعطِ للأمر مدى طويلًا حينما قرر الانتقال من باريس إلى بلاد أكثر دفئًا لينعم بمزاج جيد ولوحات مشرقة.
رحلة إلى بلاد الجنوب الدافئة
والتي في الواقع لم تكن دافئة، حيث تفاجأ فان جوخ بالبرودة الشديدة التي حلت عليه هناك، في آرل عام 1888 كاد الجو أن يثبط عزيمة الفنان، إلا أنه ولحسن حظه، لم يكن فصل الشتاء القاسي هناك طويلًا، فسرعان ما نعم فان جوخ بالدفء ليبدأ مرحلة جديدة من تشكيل لوحات تعتبر من أندر وأبهى التحف الفنية على مدار الزمن.
ما بين العقل والجنون قلب ينزف
يقول الفيلسوف سيجموند فرويد "كانَ من الممكنِ أن يعيشَ أكثر، لو أنَّه وجدَ الحب، وحصلَ على حضنِ امرأةٍ يحتويه"
لم يحصل فان جوخ على حضن امرأة يحتويه، وعلى أن هذا لم يكن وحده سببًا في اكتئاب فان جوخ وانتقاله لاحقًا إلى المصحة النفسية، إلا أنه كان واحدًا من أهم الأسباب التي أدت إلى ذلك، فالحب بالنسبة لأي شخص منا دفء وسكن، فما بالنا لو كان فنانًا؟
برأيي، لقد أصابتنا عبارة فرويد في مقتل، وإن كان قصده فيها عزوف فان جوخ عن رغبته في الموت لو وجد حبًا حقيقيًا في حياته، إلا أنها تشير كذلك إلى أن العمر الحقيقي هو ما نحياه بالحب قصيرًا كان أو طويلًا.
وجه فينسنت..لوحة أراد إعادة رسمها
يقول في إحدى رسائله مع ثيو: "ﺃﻳّﻬﺎ ﺍﻟﻮَﺟﻪ ﺍﻟﻤُﻜﺮّﺭ، ﻳﺎ ﻭَﺟﻪ ﻓَينسنت ﺍﻟﻘﺒﻴﺢ، ﻟﻤﺎﺫﺍ ﻻ ﺗﺘَﺠﺪّﺩ؟"
وهكذا أعاد فان جوخ رسم وجهه عندما قطع جزءًا من أذنه اليسرى بشفرة الحلاقة. كانت حادثة غريبة وربما غيرت مجرى حياة فناننا 180 درجة تمامًا، إذ بها سُجلت على الفنان إدانة عقلية محققة دخل على إثرها إلى أكثر من مصحة نفسية وتلقى علاجات كثيرة، على أن هذا لم يمنعه من ممارسة الفن.
الحزن سيدوم إلى الأبد
29 تموز 1890 كان هذا التاريخ هو آخر عهد فان جوخ مع حياة قاسية امتدت 37 سنة، عندما قرر إنهاءها بنفسه عبر طلقة نارية استقرت في صدره، طلقة واحدة! على أن الأمر لم ينته، بل عاندته الحياة مجددًا حتى بهذه عندما أخبر الطبيب ثيو بأنهم لن يستطيعوا إخراج الطلقة، كما أنهم لن يستطيعوا فعل شيء لإنقاذه. غير أن الطلقة لم تستقر في القلب مباشرة لتوقفه، هكذا كان على فان جوخ أن ينازع حتى الموت لساعات عديدة. هبط الليل ثقيلًا في ذلك اليوم، حيث فقد فيه ثيو أخاه ورفيقه فان جوخ، وإنّ للفقد ألمًا ينبيك عنه من عايشه واكتوى بلهيب ناره المضرمة بالقلب. لم يراوح ثيو مكانه قرب أخيه في الساعات القليلة التي عاناها قبل وفاته؛ حيث أسرّ فان جوخ لأخيه قبيل لحظات من تسليم روحه بعبارته الشهيرة "الحزن سيدوم إلى الأبد"، على أنه لم يدم طويلًا لدى ثيو، حيث ارتحل إليه بعد ستة أشهر فقط، مغلقين بذلك دفتر رسائلهما للأبد، خلّفانا مع رسائلهما، مع إرثهما وحزن سيدوم إلى الأبد.
زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون
على أن فان جوخ لم يأكل، بل حصد ثمن الاختلاف نبذًا ورفضًا، نحن حصدنا ما زرع فان جوخ عظمة وروعة وسحرًا فنيًا ساطعًا في كل الأوساط، حصد أصحاب المعارض الآن أثمانًا باهظة نظير لوحاته الفريدة، على أنه في حياته لم يحظَ ببيع لوحة واحدة حتى، الآن يحصد من يعرف اسمه فقط نظرة فخر من المحيطين وشهادة بأنه على قدر عال من الثقافة الفنية الراقية.
أُسدلت الستارة على حياة الفنان فان جوخ بعمر صغير جدًا، على أن ما عايشه من تقلبات في سنوات بسيطة كفيلة بأن تشعرك بأن عمره يتجاوز الثمانين ربما، كل هذا الألم كل هذا الفقد كل هذه المعاناة كانت كفيلة بأن تجعل من فان جوخ شعلةً لا تنطفئ نارها أبدًا ما دام في العمر بقية.