08-فبراير-2022

غرافيتي في لوس أنجلوس

عزيزي فنسنت،

إن الأنين يعتصر قلبي يا أخي المفرط بالحزن، فأنا لم أقرأ يومًا خطابًا يعج بكل هذه التعاسة من قبل. كل حرفٍ مخضبٍ بألم أكاد أسمعه، ولم تترك للطمأنينة ملاذًا بين أسطرك. كيف للحياة أن تضُن عليك بالفرح يا عزيزي، ربما على المبدعين أن يعتنقوا الألم ليتفردوا.

إلا أنني أحاول جاهدًا ألا تتسرب صورتك المترعة بالوجع الى مخيلتي، أنت اللوحة الأكثر يأسًا من بين ما رسم.  كنت دومًا ما تسكب الوحي الذي يعتريك على الكانفا وتعود بملامح عارية بلا ألوان. نعم، أنت تشبه عباد الشمس الذي ترسم، وأكثر مما تدرك، لا بالنظر إلى معبودته الشمس فقط، بل لأنك غزيرٌ بالدفء، متشبثٌ بالسماء وكأنها لن تأفل أبدًا، حتى يحين المغيب، فيصبح محني الظهر، مطأطئ الرأس غارقاُ في العتمة بحثًا عن معنى لوجوده، خاويًا.

كما أن لروحك لونًا يشبه الأصفر الذي تحب، أصفرَ يانعًا لكن مثقل بالخدوش الواضحة فقط لعيون الأحبة، أهذا هو اللون الجديد الذي تسعى إليه. الآخرون عمي عن الخدوش التي تنز منها روحك فهم فلا يرون إلا صورة مكتظة بمعالم شاحبة ونابضة في الآن ذاته، ترممهم وتهلكك!

كلنا ذوو أرواح بائسة يا عزيزي، يلتهمنا عفن من الداخل لا نعرف مصدره، كلنا نصبو الى النجوم يا فنسنت، لكننا في النهاية ننتهي على متن قارب نعبر به نهر ستيكس، ليس لنا سوى دعاء بأن نعبر غير مبللين بدموع من سبقونا وسيل أفكارهم التائهة.

هل تظن أن قابيل قتل هابيل رحمة به، ليعفيه من ظلمة هذا العالم. إلا أنني يا أخي لا أمتلك هذه الرحمة، أنا أضمد جراحك بالنزيف حبرًا، بقطيع من كلماتٍ أهشها إليك، متراصة متقاربة، حتى لا يفترسها يأس. ترى لماذا لم يجتهد الغراب أن يعلمنا أكثر من دفن موتانا، لماذا لم يحد قليلًا عن مهنة الحانوتي ودلنا كيف نغسل أحزاننا وندفنها بلا دماء على أكفنا ولا كدمات على قلوبنا ولا ضمير مخضب بالذنب.

أنا أشعر بصراعاتك للنجاة من الغرق في نفسك ومن نفسك، عيناك يا عزيزي ترى أرواح الأشياء المثقلة، بينما للأمل القدرة على إعادة تشكيلك، ليت لي موهبة رسم النوافذ يا أخي، الحياة بالنسبة لي جدار واحد ممتد، وأنا متعب من الارتطام. أنا أدرك أن الله لم يمنحني النوافذ لحكمة، لربما قفزت منها مبكرًا، مبكرًا جدًا، حتى قبل أن أتلمس الحافة. لكنك ترسمها، ثم ترسم الدفء الذي يشرق منها، والشمس تغمر كل من يراها.

أنت تمتلك إصبعًا سادسة، أما نحن ذوو الخمسة فقط، لا نملك إلا أن نودع الأمل دون أن نرسمه، نحن أصحاب الأيام الكالحة، نحن من لا نرى الأشياء إلا بأسمائها، نحن العدم. لذا ارسم يا فنسنت، لا للآخرين ولا لنفسك أرسم ليتوازن هذا العالم بيننا.

لا زلت أذكرك أسفل الغسق، والحب يشرق بين ثناياك، تستعطف الغصن أن يسقط أورسولا بين يديك، كانت الصلوات تعلو وهي تهوي، كان لقلبك سيمفونية التقطتها السنابل وتمايلت، حتى فاض الليلكي فارتعبت، وحدها أدركت أن ذاك الليلكي هو رضة الحب، الذي لم تشف منه ونزيف الغياب الذي لن يبرأ، الأيام تلحق بعضها بعضًا لتدركنا، ومن ثم تتخطانا وتنسانا، لا تتلوى في الماضي، وأمضِ.

دع عنك الراحلين، حتى أذنك حزمت معها النميمة، لتبقي الثرثرات المبهجة، كأصوات الأطفال على بطن السهول أو أحاديث الجارات الدافئة في عز الظهيرة. نقب عن الفرح وأبصر ما بعد الهاوية، ودع الغد يتغلغل بك، ليخلق وجهًا باسمًا جديدًا تتعرف عليه للمرة الأولى، وروحًا شفافة قادرة على التماهي مع السعادة، فللأمل القدرة على إعادة تشكيلك.

أنا يغمرني المستقبل، أطل عليه من معرضي هنا نحو غد تغدو لوحاتك بوابة للحنين، للنجاح وللصراعات المغلفة بالتوق الى الغد الأفضل. أنت تقدح النار في الأشياء وتنطفئ، تغدو رمادًا، في مهب الحياة وتنبعث مرة أخرى، متوهجًا بإلهام يلتهب. لذا احتضن الممكن، خذه بكلتا يديك، ولا تفلته، لا تفلته يا عزيزي. أنا أرى المعنى في آخر الشقاء، كل الرحلات الوعرة تنتهي بالمعنى ليغدو النظر نحو السبيل الذي مضى مشوقًا.

دع الربيع للذابلين، أنا انتظرك هنا، بالدفء الذي يسعفني أن أقدمه، وشغفي لألوانك لا يمحى.

أتمنى أن تدركك رسالتي.

 

المخلص دومًا

ثيو فان جوخ

 

اقرأ/ي أيضًا:

حظٌّ يساوي حظَّ الخائفين

ويروقُ لي