05-يونيو-2020

خروج الملايين إلى الشوارع يمر بمسار معقد جدًا (أ.ب)

يا إلهي! إنهم لا يتوقفون عن الكذب، يمتلكون قدرة استثنائية على التحول والتلون والتبرير وقلب الحق باطلًا والباطل حقًا بالسهولة نفسها التي يشربون بها شايهم الصباحي!

خروج الملايين إلى الشوارع يمر بمسار معقد جدًا، مسار تقتنع فيه ملايين العقول في وقت واحد أنه لا بديل للخروج، فيخرجون رغم علمهم بالتكلفة الباهظة لذلك

مصطفى بكري، الصحفي "المعارض" الذي كان يركب مع حسني مبارك طائرته الرئاسية وينزل منها إلى مقعده البرلماني، كتب معلقًا على ما يحدث في أمريكا: "أتمنى أن تستوعب الإدارة الأمريكية الدرس وأن تتوقف عن التآمر على منطقتنا وتشجيع الخونة لإسقاط الأنظمة وإفشال الدولة الوطنية".

اقرأ/ي أيضًا: جورج فلويد.. القتل في زمن الكورونا

صعب جدا أن تعتبر خروج الناس إلى الشوارع مؤامرة أمريكية هذه المرة لأنه يحدث على أرض أمريكا، صعب حتى أن تتهم عملاء روسيا بتحريك المظاهرات ضد رجلهم الذي تدور التحقيقات حول شبهات تدخلهم في الانتخابات لصالحه، أصعب من كل ذلك أن تعتبر الإدارة الأمريكية الحالية متآمرة على المنطقة أو داعمة للتمرد في الشرق الأوسط لأنها من اليوم الأول صديقة لكل الديكتاتوريات، مقتنعة بأهمية القبضة الحديدية في الشرق الأوسط. ترامب نفسه رئيس أمريكي بعقلية ديكتاتور أفريقي تقليدي، لذلك كان من الأفضل أن تصمت في هذه الحالة وتعلق على شيء آخر بدلًا من أن تواصل الكذب الفج بنفس الحماس، لكنه كالعادة فعلها، كما يفعلها كل مرة، كما يفعلون جميعًا.

مظاهرات أمريكا دفع لثمن أخطاء الإدارة الأمريكية، حسنًا، ولماذا لا تعتبر مظاهرات الربيع العربي – التي كان ينافقها نفس الشخص في السابق بالمناسبة – تسديد فاتورة لميراث طويل من الأخطاء والجرائم التي ارتكبها حكام هذه الدول؟

كان يمكن لأي محلل موضوعي أن يخرج من الاحتجاجات العارمة في أمريكا ومن قبلها مظاهرات السترات الصفراء في فرنسا، باستنتاج فحواه أن كل تحرك شعبي ليس بالضرورة مدفوعًا بمؤامرة، وأن الشعوب تخرج حين تنقطع بها السبل ولا تجد بين آلياتها المؤسسية ما يصحح الأوضاع، وأن المؤامرة الوحيدة التي تنجح في تجييش الناس في الشوارع ووضع البلاد عند بداية منزلق تأتي من الداخل، حين يقرر حاكم ما أن يتجاهل هذه الآليات ويُضعفها.

لكن لماذا نفعل ذلك؟ الأسهل أن نواصل الكذب والتضليل والسير في المسار الذي ثبت خطؤه من قبل مئات المرات.

هذا لا يعني أن الدول لا تتآمر على بعضها أو أنها لا تغذي القلاقل الداخلية لدى خصومها السياسيين ومنافسيها الاقتصاديين، بالطبع يحدث ذلك وسيبقى يحدث، لكن هذا السعي لا يمكن أن ينجح دون مساعدة داخلية من حاكم مستبد ومؤسسات عاجزة ونخبة تافهة.

خرج المصريون ضد مبارك لأنه زور انتخابات البرلمان ولأن داخليته قتلت شابين من التعذيب ولأن الفقر وصل في عهده لمعدلات غير مسبوقة، ولأنه باع القطاع العام، ولأنه كان ينوي توريث الحكم لابنه، ولأن كل المؤسسات التشريعية والرقابية والقضائية لم تكن تجرؤ على تصحيح خطأ واحد من ذلك، فكيف يمكن أن نلوم الشعب على الخروج ولم يكن لخروجه بديل واحد؟ وكيف يمكن اليوم أن نعزي كل خطأ وتقصير وكارثة إلى ميراث 30 عامًا من الفساد وفي التغريدة السابقة نتحدث عن مؤامرة 25 يناير؟

لا يتعلق الأمر بالخوف من تشويه ثورة يناير، هي الآن جزء من الماضي وفي ذمة التاريخ، لكن يتعلق بعدم الرغبة في أن يكون خروج الناس إلى الشوارع هو البديل الوحيد مجددًا بما فيه من أخطار على الخارجين وعلى الدولة نفسها، هو دواء مر لا نريد أن نجربه مرة آخرى، وهذا لن يحدث بمحاولة تشويه الخروج الأول، لكن ببحث أسبابه والسعي لعدم تكرار الأخطاء التي أدت إليه.

من يريد أن يتفادى خروج الناس فليجعل لذلك بدائل، انتخابات نزيهة، مؤسسات مستقلة تحكم بينه وبين الناس، جهات رقابية وقضائية يلجأون إليها حين تضيق بهم السبل، إعلام موضوعي يعبر عن تطلعاتهم ويعرضون فيه أفكارهم، دستور لا يتعامل معه الجميع كما يتعاملون مع "النيش" في غرفة الضيوف، لا نستخدمه أبدًا لكن وجوده ضروري "علشان الناس متاكلش وشنا".

خروج الملايين إلى الشوارع يمر بمسار معقد جدًا، مسار تقتنع فيه ملايين العقول في وقت واحد أنه لا بديل للخروج، فيخرجون رغم علمهم بالتكلفة الباهظة لذلك، ربما من حريتهم، ربما من حياتهم، ربما حياتهم نفسها، من يريد أن يختصر الأمر في أن جموع تم تضليلها أو دُفع لها بعض الأموال فخرجت هو أسوأ بكثير من مجرد كاذب أو مضلل.