مهما حاولنا البحث في التاريخ المعاصر، فلن يجد المرء شيئًا شبيهًا بما فعله السيسي، وشبه دولته، بخصوص قضية الجزيرتين المصريتين تيران وصنافير، حيث تخلّى طواعية عن جزء من أرض الدولة التي يجلس على مقعد سلطتها، ويُفترض به حماية حدودها ورعاية مصالحها.
"إعادة ترسيم الحدود البحرية" هو المسمى الذي جرت تحته فضيحة التخلّى عن الأرض، حين عقدت السلطة المصرية في نيسان/أبريل 2016، ممثلة في رئيسها عبد الفتاح السيسي، اتفاقًا مع محمد بن سلمان، ولي ولي العهد السعودي يقضي بأن تتحوّل جزيرتا تيران وصنافير لتصبح ضمن حدود السعودية، رغم وجود وثائق تاريخية مختلفة تؤكد وقوع هاتين الجزيرتين ضمن حدود الدولة المصرية، وأولها ما جاء باتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، ولم يكن للسعودية أي حضور أو ذكر فيها.
مهما حاولنا البحث في التاريخ المعاصر فلن يجد المرء شبيهًا بما فعله السيسي وشبه دولته بخصوص الجزيرتين المصريتين تيران وصنافير
وإذا كان المنطق القانوني ومنطق الأشياء عامة يقول بأن البينة على من ادعى (وهي السعودية في هذه الحالة)، بالتالي كان على السعودية تقديم ما يثبت خضوع الجزيرتين لسيادتها لتبرّر التنازل المصري عنها؛ فإن ما حدث هو استكمال الجنون ومنافاة المنطق، فقد تصدّت السلطة المصرية بنفسها لمحاولة إثبات تبعية الجزيرتين للسعودية.
باختصار، مصر، ممثلة في رئيسها، تنازلت عن جزء من أرضها للسعودية ثم سعت بكل قوة لإثبات سعودية تلك الأرض!
اقرأ/ي أيضًا: الديمقراطية..على حافة الهاوية
وللتوثيق، فقد خرج السيسي حينها ليقول للمصريين إنه توجه بالسؤال لوزارتي الدفاع والخارجية وجهاز المخابرات لإيجاد ما يثبت أحقية مصر في الجزيرتين فكان جواب الجهات الثلاث بالنفي، وهو التصريح الذي كان شرارة النار الكبيرة المشتعلة إلى الآن.
ولما كان الأمر مثيرًا للدهشة والعجب والاستنكار، فقد انبرى عدد كبير من القانونيين والباحثين والسياسيين على تقديم ما بحوزتهم من وثائق وخرائط تثبت أحقية مصر في الجزيرتين، كما بادر مجموعة من المحامين المصريين، يتقدمهم خالد علي، بالطعن على الاتفاقية أمام المحاكم المصرية، ونجح هؤلاء الطاعنين الوطنيين في حسم كل الجولات القانونية داخل مجلس الدولة لصالحهم.
فقد حكمت محكمة الدرجة الأولى، في حزيران/يونيو الماضي، ببطلان الاتفاقية. فيما صدر حكم آخر من القضاء الإداري، في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، يُلزم الحكومة بعدم تنفيذ الاتفاقية لحين الفصل فيها أمام القضاء الإداري. وكان الانتصار الثالث، قبل قرار أمس، لفريق الطاعنين عندما أوصى تقرير هيئة مفوضي المحكمة الإدارية العليا ببطلان الاتفاقية.
وفي مقابل ذلك التحرك، سلكت هيئة قضايا الدولة، الممثلة لدفاع الحكومة المصرية، كل الطرق أمام محكمة القضاء الإداري، لإثبات تبعية الجزيرتين للسعودية، ولكن حكم محكمة القضاء الإداري جاء ببطلان توقيع ممثل الحكومة على الاتفاقية، وتطرقت أسباب الحكم إلى ما يؤكد مصرية هاتين الجزيرتين.
السلطة المصرية بسبب إصرارها التنازل عن الجزيرتين اتخذت من حكم الأمور المستعجلة مبررًا لاستمرار انتهاكها لنصوص الدستور والقانون
بعدها بأسابيع قليلة وفي اليوم الأخير من عام 2016، جاء حكم محكمة مستأنف القاهرة للأمور المستعجلة برفض الاستئناف المقدم على حكم أول درجة للأمور المستعجلة، الذي قضى بوقف حكم القضاء الإداري بخصوص بطلان التوقيع على الاتفاقية، وهو ما وضع الأحكام القضائية في مواجهة بعضها بعضًا، لتتخذه الحكومة المصرية مبررًا للموافقة على الاتفاقية وإحالتها إلى مجلس النواب، دونما انتظار حكم نهائي من المحكمة الإدارية العليا في الطعن الذي قدّمته الحكومة.
ووفقًا للمادة 190 من الدستور المصري التي تنصّ على أن مجلس الدولة هو المختص دون غيره بالفصل في المنازعات المتعلقة بجميع أحكامه، فإن هذا يجعل حكم القضاء الإداري برفض استشكالات وقف التنفيذ هو الحكم الأولى والأجدر لا حكم "الأمور المستعجلة" الذي يُفترض -وفقًا للدستور الذي لا تحترمه الدولة المصرية- أن يكون منعدم الأثر.
ولكن السلطة المصرية وبسبب إصرارها الغريب على التنازل عن الجزيرتين للسعودية اتخذت من حكم الأمور المستعجلة مبررًا لاستمرار انتهاكها لنصوص الدستور والقانون.
ولا يفوتنا هنا الإشارة لتعديلات قانون مجلس الدولة التي كان مجلس النواب قد أقرّها في دور انعقاده الأول قبل شهور، والتي كانت تترجم نص المادة 190 من الدستور إلى نص قانوني، ومع ذلك فقد جرى تعطيل إصداره والتصديق عليه رسميًا من رئاسة الجمهورية حتى الآن.
وإذا كان البعض يتساءل عن السبب وراء تأخر التصديق على القانون، فإن السبب يبدو الآن واضحًا، وهو انتظار السلطة لذلك التعقيد القضائي والقانوني الذي نواجهه، والذي قد يخلق مساحات ومنافذ للسلطة لاستمرار التلاعب بنا جميعًا وبالدستور وبالقانون وبأحكام القضاء وبدولة المؤسسات، بل وبفكرة الدولة من أساسها.
اقرأ/ي أيضًا: "تيران وصنافير".. إلى لقاء آخر في المحكمة
والثابت أنه منذ صدور حكم القضاء الإداري بوقف تنفيذ الاتفاقية، تبدو السلطة المصرية كأنها قطعت رأسها وانساقت لاتباع سبيل غير قانوني للاستشكال على تنفيذ الحكم أمام محكمة غير مختصة (محكمة الأمور المستعجلة) بنظر مثل تلك القضايا، واتخاذ الحكم الصادر منها كذريعة لاستكمال جنون التقاضي واستمراره، فهي تبدو بعد شهور من المعاندة كمن يقود سيارة بسرعة 200 كيلو مترًا/ساعة في الاتجاه الخاطئ.
والمؤكد أن السلطة المصرية مٌصرّة على الاستمرار في جريمة التنازل عن الأرض المصرية والتفريط فيها، سواءً أكان ذلك لقناعات القائمين عليها، أم كان حسابًا لتوازنات العلاقات الإقليمية، أم أيًا كان سببه. وهي كذلك مصرة على إهدار كل معنى وقيمة لاحترام دولة المؤسسات والالتزام بدستورها واستقلال القضاء واحترام أحكامه.
نحن أمام سلطة مصرية تسيء استخدام صلاحياتها في مواجهة مقاومة شعبية للدفاع عن أرض مصر، وعن الدستور، وعن استقلال القضاء
وهنا يبدو الأخطر هو أن يتحول أداء السلطة إلى استبداد مطلق دونما رادع أو ضابط له، في ظل انتهاك الدستور والقانون، وعدم احترام أحكام القضاء والتلاعب بها بالشكل الذي نراه، وإساءة استخدام السلطة والمؤسسات التشريعية لتمرير قرارات بحجم جرائم في حق الوطن والمواطنيين، فضلًا عن تحدي المجتمع والرأي العام، وهو ما يمثّل الرسالة الأخطر بانهيار كامل الحد الأدنى من قواعد أي لعبة سياسية مهما كان حجم الاستبداد والتضييق فيها.
وفي ظل التطورات الراهنة واستكمال السلطة المصرية في جنونها وبعيدًا عن الجدل القانوني والقضائي، تتحوّل قضية تيران وصنافير إلى قضية سياسية ومجتمعية بامتياز، مثلما كان من المفترض من البداية، فنحن أمام سلطة تسيء استخدام صلاحياتها في مواجهة مقاومة شعبية للدفاع عن أرض مصر، وعن الدستور، وعن استقلال القضاء.
وربما كان من الأفضل أن تتخذ القضية ذلك المسار بديلًا عن مسار لا يعلم أحد مدى سواد أموره حين تدخل المحكمة الدستورية العليا في المسألة للفصل فيها، ولكن يبدو أن النظام الحالي ساهم بغبائه وتهوّره في وضع أول مسمار في نعشه، وفي ترسيخ أوضاع تتوّرط فيها كافة مؤسسات الدولة لمدى بعيد لا يعرف أحد نهاية له.
اقرأ/ي أيضًا: