19-أبريل-2019

رجال الحسبة في الدولة الإسلامية (تويتر)

بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" من المتوقّع أن تُفتح أبواب جديدة أمام المزيد من الدراسات والأبحاث التي سوف تتناوله بوصفه مهزومًا هذه المرّة، وتركّز على دراسة عوامل استمراره، وطريقة إدارته للمدن التي كان مسيطرًا عليها، بعد أن سبق وجرى تناوله بوصفه أمر واقع وقوّة تسيطر على مساحاتٍ كبيرة من العراق وسوريا.

داعش تنظيم عسكري أمني في بنيته وعقليته الصلبة، يضمّ مقاتلين مختلفين وبخلفياتٍ متعدّدة

من المعروف أنّ هذه الكتب الأخيرة، ركّزت على الطريقة أو الكيفية التي نشأ التنظيم وتمدّد من خلالها. وأيضًا، أسباب ظهوره، كتأزم الأوضاع السياسية، وفشل الدولة الوطنية، وتسلّط الدول الدكتاتورية، وغير ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: تل معروف.. شهادة على كفر داعش

يعني ذلك أنّه من الضروري الآن البحث في البنية التنظيمية للدولة الإسلامية أو تنظيم داعش، واكتشاف الطريقة التي تجسّد من خلالها مؤسَّساتيًا على الأرض. في بحثه المعنون بـ"تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا: البنية ومصادر التمويل"، المنشور أصلًا في كتاب "تنظيم الدولة المكنّى داعش: التشكّل والخطاب والممارسة" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)؛ يُحاول الكاتب السوريّ طارق العلي أن يفعل ذلك، ويبحث في الأمور المذكورة أعلاه، مع الاعتراف المسبق بأنّ العملية ليست سهلة، في ضوء استحالة إجراء بحوث ميدانية داخل المناطق التي كان يُسيطر عليها تنظيم الدولة، كما يوضّح.

لذلك، يسعى العلي في دراسته هذه لبناء، قدر الإمكان والمستطاع، تصوّر قريب عن هيكل تنظيم الدولة ومشروعه السياسي، وعوامل قوّته، واستراتيجيته العسكرية، من خلال تحليل بنية التنظيم من كلّ الجوانب، بالاعتماد على تحديد مصادر الثروة، ونقاط الضعف، ليبدأ بعد ذلك بتحديد مراكز الثقل وتوقّع الاستراتيجية. وبالإضافة إلى ما سبق، يستند الباحث أيضًا على مقابلاتٍ عدّة أُجريت في تركيا مع عددٍ من العناصر المنشقّين عن تنظيم الدولة.

من الجذور الفكرية والتنظيمية لتنظيم داعش، ينطلق الباحث ضمن دراسته لمشروعه السياسيّ. يعرّف أوّلًا هذه الظاهرة، فيقول إنّها تنظيم سياسي عقدي مُحارب في أصله، ومتفرّع من "تنظيم قاعدة الجهاد"، ومنسوب إلى السلفية الجهادية/ الحربية. ويضيف بأنّ تخريجاته الفقهية ومرتكزات عقيدته السياسية تقوم على قراءة حرفية لنصوص الكتاب والسنّة؛ قراءة تتّسم بالغلوّ، وكذلك الاستدعاء الظرفي للنصوص، ومن ثمّ التشدد في تنزيلها على الواقع، والعمل على تطبيق الشريعة وإقامة شرع الله بتوسّل السلطة والعنف.

من الناحية العسكرية، هو كذلك تنظيم عسكري أمني في بنيته وعقليته الصلبة، يضمّ مقاتلين مختلفين وبخلفياتٍ متعدّدة. فهناك جهاديون مجاهدون تنقّلوا بين تيّارات الإسلام السياسي وساحات القتال وزنازين المعتقلات، وهؤلاء يشكّلون نواة التنظيم، بالإضافة إلى أصحاب المهارة والخبرة في القيادة والعمل العسكري، وهم غالبًا ضبّاط سابقون وتائبون منشقّون عن جيوش أنظمة عربية. وهناك مقاتلين أيضًا من فئة المهمّشين ومن تعرضوا لظلمٍ أو استبداد وعنف من قبل الأنظمة الطائفية. وهناك المهاجرين أيضًا. ويربط بين كلّ هؤلاء المقاتلين خطاب ديني مذهبي فاعل وفعّال بحسب طارق العلي.

يمثّل الكتاب الشهير "إدارة التوحّش" لأبو بكر ناجي الخلفية والمرجعية والدستور كذلك لتنظيم الدولة

أما بشأن العمل والممارسة ومرجعيات الاثنان عند تنظيم الدولة، فيُمكن القول إنّ الكتاب الشهير "إدارة التوحّش" لأبو بكر ناجي، بمثابة الخلفية والمرجعية والدستور كذلك. ويقسّم هذا الكتاب العالم إلى دار إسلام، ودار حرب. ويخرج بتوصيات عملية سياسية وعسكرية للانتقال بـ"الأمّة" إلى التمكين والخلافة، من خلال خطواتٍ تبدأ بما يُسمّى "شوكة النكاية"، وهي عبارة عن عمليات إرباك لقوّات العدو والأنظمة العملية، واستقطاب شبّان جُدد للعمل الجهادي عبر القيام كلّ فترة بعمليات نوعية تجذب أنظار الناس، وإخراج المناطق المختارة من سيطرة الأنظمة، ومن ثمّ العمل على إدارة التوحّش.

اقرأ/ي أيضًا: المؤشر العربي: كيف ينظر العرب إلى داعش؟

هذه الخطوات الهدف الرئيس منها كما جاء في كتاب أبو بكر ناجي، هو خلق وإيجاد فوضى في المنطقة المستهدفة، أو استثمار فوضى قائمة فيها قبلًا، بحيث تمهّد لبلوغ مرحلة إدارة التوحّش التي حُدِّدت أهدافها الرئيسية بما يلي؛ العمل أوّلًا على نشر الأمن الداخلي والحفاظ عليه، وتوفير الطعام والعلاج وتأمين منطقة إدارة التوحش من غارات الأعداء، واستكمال بناء جهاز الاستخبارات، والعمل على الوصول إلى التمكين من خلال التوسّع والإغارة على الأعداء، والترقّي الإداري للوصول إلى شوكة التمكين والتهيؤ لقطف الثمرة وإقامة الدولة.

يمثّل كتاب "إدارة التوحّش" إذًا الدليل العملي الذي يستدلّ به تنظيم الدولة الإسلامية. وفيما يخصّ الفقه والتأصيل، فإنّ كتاب "مسائل في فقه الجهاد" الذي جمعهُ وأعدّه أبو عبد الله المهاجر، هو دليل داعش. ولا يختلف هذا الكتاب عن سابقه من ناحية الفكرة الرئيسية، إذ يقسّم بدوره العالم إلى دار إسلام ودار كفر/ حرب. ويعتبر أنّ الدار الأخيرة هي التي تعلو فيها أحكام الكفر ولو كانت غالبية أهلها مُسلمة أيضًا. ناهيك عن أنّ القتل في هذا الكتاب هو جزاء الكفر. والمرتد أيضًا أولى بالمحاربة من الكافر الأصلي وأجدر بالأشدّ الأشدّ من العنف. ويجعل الكتاب من الإيمان شرط للأمان، ويحضّ على التوسّع في دائرة التكفير. وبالتالي، يكون العنف وحالة الحرابة والغلظة هي القاعدة الأساس في فقهه ونظره.

يتحرّى الكاتب، بالنظر إلى سلوك تنظيم الدولة خلال عامَي 2013 و2014 الأهداف السياسية العامّة التالية: تقويض الدولة القائمة لا أنظمة الحكم فحسب. اختراق المجتمعات العربية والإسلامية الحالية أينما وُجدت، وفَرزها على أساس مؤمن وكافر ومرتد، وفق معايير متشدّدة، على أن يكون أوّل من يجري فرزهم هم أهل السنّة والجماعة. إيجاد مناطق فوضى جديدة، واستغلال حالات فوضى قائمة. التمكّن من هذه المناطق والانطلاق منها للتوسّع. إقامة دولة الخلافة الإسلامية أو احياؤها. البدء بما يسمّيه داعش الفتوحات الإسلامية من جديد.

قدّم الكاتب إذًا تعريفًا سريعًا، أو صورة مقتضبة لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. فالهدف الرئيس ليس الخوض في تعريفاته أو تفسيره. وعرض العلي كذلك مراجعة سريعة لدلائل أو مراجع تنظيم الدولة في العمل والممارسة، والفقه والتأصيل. كما واستعرض السياسات العامّة، بما هي تمهيد للانتقال إلى بنية التنظيم، ومصادر تمويله. ولكن قبل البدء، من الضروري أخذ إشارة المؤلّف إلى أنّ عملية كهذه لن تكون سهلة، بمعنى أنّ ما نقرأه ليس شاملًا أو مفصّلًا، بل قريبًا من الواقع.

من حيث البنية، يتميّز تنظيم داعش بكونه يتّبع نظامًا مميزًا يفصل الجناح العسكري وقادته عن الجناح الإداري أو الخدماتي. فلا يتدخّل العسكر في الشؤون الأخرى لترتيب الدولة، ويتّبعون إلى الأمير العسكري في سوريا، الذي يتّبع هو بدوره إلى الوالي تنظيميًا، دون أن يكون للأخير صلاحية التدخّل في الشؤون العسكرية للولاية. وعلى العكس تمامًا، قد يكون الوالي نفسه جنديًا عاديًا من جنود جيش الخلافة. في المقابل، يخضع المقاتلين للقضاء التابع للولاية. المُلفت أنّ هذه العلاقة بين الوالي والأمير العسكري، تكون عرضةً لدرجة قربهم من مجلس الشورى، بمعنى أنّ الأقرب هو الأكثر قوّة.

لا توجد لداعش قطع عسكرية دائمة في مناطق معيّنة، ويكون اعتماده على أسلوب الرباط للدفاع والاقتحام والهجوم

في سياق الحديث عن الجناح العسكري للتنظيم، يقول الكاتب إنّه، أي داعش، لا يتعمد على ترتيب ثابت لهيكليته العسكرية بالمطلق، بحيث لا توجد له قطع دائمة في مناطق معيّنة، ويكون اعتماده على أسلوب الرباط للدفاع والاقتحام والهجوم. وعادةً ما يكون المرابطون من مناصري التنظيم في مناطق سيطرته الجديدة. وعدا عن كلّ تشكيلاته العسكرية العديدة، فإنّ الغلبة أو القوّة كانت محصورة في فرقٍ ذائعة الصيت، كـ "لواء البتار" المكوّن من مجموعة من القاتلين الليبيين، وكذلك "فرقة الفرنسيين"، دون أن تكون عناصرها فرنسيين بالكامل.

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة.. في تفكيك داعش

ومن المفيد الإشارة إلى أنّ تجنيد المقاتلين عند تنظيم الدولة كان يحدث بطرق مُختلفة. على الصعيد السوريّ، لعبت الأخبار القادمة من الموصل بعد سقوطها في حزيران/ يونيو سنة 2014، دورًا كبيرًا في جذب واستقطاب المقاتلين، باعتبار أنّ الأخبار التي وصلت كانت تهوّل من قوّة التنظيم، دون أخذ فكرة أنّ سقوط المدينة كان سهلًا ومشبوهًا قياسًا بفارق موازين القوى. ولأجل التجنيد نفسه، أولى التنظيم، لا سيما في دائرة الأمير الضيّقة، اهتمامًا كبيرًا للانضمام إلى صفوفه. ويقول الكاتب إنّ التركيز كان على الأوروبيين أكثر من غيرهم، وهؤلاء غالبًا ما جرى تجنيدهم من خلال مواقع التواصل التي كانت مزرعة خصبة لنشر أفكاره، واستقبال طلبات الانتساب.

في السنوات السابقة من عمر الثورة السورية، كان مُلاحظًا غياب العديد من الفصائل والتنظيمات المسلّحة بسبب ضعف التمويل، وشحّ الموارد. وبالتالي، يكون استمرار تنظيم الدولة، حتّى في أسوأ الظروف، أمرًا ملفتًا ومثيرًا للانتباه والاهتمام. ذهب البعض إلى تحميل بعض الدول مسؤولية تمويل داعش، كالسعودية وتركيا، ودول أخرى. فما المصادر الفعلية لتمويل التنظيم؟ يقول طارق العلي إنّ مهمّة تلمّس تمويل الدول للتنظيمات المتطرّفة ضمن مهمّات أجهزة الاستخبارات، لكنّ المصادر الأخرى تقع ضمن اهتمام الباحثين، لا سيما في حالة داعش الذي يسيطر على حيّز مكاني ولديه بنى إدارية وتنظيمية شبيهة ببنى الدولة. وبناءً على ذلك، يقول العلي إنّ مهمّة البحث سوف تقتصر على تبيان مصادر تمويل التنظيم البارزة في سوريا، وقد قسّمها إلى قسمين: مصادر تقليدية، تشترك فيها جميع الحركات الجهادية، ومصادر غير تقليدية تخصّ تجربة تنظيم الدولة وحده.

تقوم المصادر الأولى التقليدية على التبرعات والغنائم وتهريب الآثار والخطف مقابل فدية، وهو ما لا تعترف به التنظيمات الجهادية بشكلٍ عام، فيما تشيد بالتبرّعات، دليلًا على شرعيتها، والغنائم، كدليلٍ على قوتّها. وهكذا كان حال تنظيم الدولة، وإن لم يكن جزءًا كبيرًا وأساسيًا من التبرّعات قد وصله بشكلٍ مباشر. فالتبرّعات التي كانت تصل إلى سوريا، كانت تصل إلى تنظيمات جهادية أبرزها جبهة النصرة التي حظيت بتزكية كبار المنظّرين الجهاديين. ومع الإعلان عن دولة الإسلام، وخطوة الدمج مع النصرة بعد ذلك، ومبايعة عدد كبير من القياديين للبغدادي، وانضمام المقاتلين للتنظيم بأسلحتهم ومقرّاتهم ومعدّاتهم؛ ذهبت التبرعات إلى تنظيم الدولة.

تجنّب داعش في بداياته قتال الجيش السوريّ، وانشغل باغتنام الأسلحة من النصرة، وكذلك فصائل المعارضة المعتدلة

ينطبق الأمر كذلك على الغنائم، فالتنظيم اغتنم عددًا كبيرًا من أسلحته إمّا من خلال مبايعة قياديين من النصرة لزعيمه، بمعنى الترغيب، أو بالترهيب وقتال النصرة. ومن المفيد الإشارة إلى أنّ التنظيم تجنّب في بداياته قتال الجيش السوريّ، وانشغل باغتنام الأسلحة من النصرة، وكذلك فصائل المعارضة المعتدلة، لا سيما في دير الزور التي استولى فيها التنظيم أيضًا على مستودعات أسلحة كبيرة لجيش الأسد بعد طرده من المحافظة. وكانت غالبية تلك الأسلحة تذهب لخدمة معركة داعش في العراق. ولا ننسى أيضًا كلٍّ من تهريب الآثار، كتجارة مربحة لداعش، والخطف، لاسيما خطف الأجانب.

اقرأ/ي أيضًا: قصة داعش.. "تمدد" سريع وانحسار مُكلف و"بقاءٌ" محتمل

تمثّلت المصادر غير التقليدية للتنظيم في سوريا بالخدمات والحماية. فالمناطق التي سيطرت عليها قوات البغدادي كانت مجهّزة بمراكز وأجهزة للخدمات المدنية، كالكهرباء والماء والاتصالات التي لعب دورًا كبيرًا في تمويل التنظيم. لا سيما خدمة الإنترنت التي وفّرت بديلًا عن الاتصالات الخلوية المقطوعة في الرقة وغير الرقة. وهناك أيضًا صناعة الخبز التي درّت أموالًا كبيرة على التنظيم الذي كان قد سيطر على صوامع الحبوب. ولا ننسى الوقود وأسطوانات الغاز ذات الربح الصافي العالي. وأخيرًا، حماية المصانع والمحال التجارية، والمصالح العقارية. بالإضافة إلى الضرائب التي فرضتها على المواطنين، كأي دولةٍ في العالم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

صدور كتاب (تنظيم الدولة المكنّى "داعش") عن المركز العربي في الدوحة

كيف أدار داعش "دولة" سكانها 12 مليون نسمة؟.. وثائق الموصل تكشف "الخلافة" (3-1)