24-مايو-2020

عمّا وصلت إليه أحوال الاجتماع الإنساني عقب أزمة فيروس كورونا، خاصّةً في بداياتها حينما أُغلقت وانغلقت مُدنٌ على نفسها وخلت شوارعها إلّا من العربات والمُدرَّعات العسكرية، في مشهدٍ مُشابه لما كان يحدث بُعيد الانقلابات العسكرية الحاضرة بمفرداتها، لا سيما "حظر التجوّل" الذي يُراد منه في وقتنا النجاة، بينما كان يُراد من وراءه للانقلابات العسكرتارية أن "يُحجر" الناس إلى حين تثبيت أركان السلطة الجديدة على جثة مصائر وحيوات بحالها.

عاش ناظم حكمت كما عاش أنتونيو غرامشي سنوات طويلة في عزلة السجن، ليتغلبا عليها بعدم تسريح القلم بما هو أداة ترجمة لانشغال فكرهما بقضايا حقيقية من الواقع الذي خلق مصيرهما

أكثر الراحل سمير أمين من تكرار القول، بمفردات وصيغ متنوعة لكن بمنهجية واحدة، أن الجنس البشري واحد، لذلك فإن تاريخه واحد إلى حد ما، كما هو مصيره إلى حد شبيه بحسب سمير أمين وتأريخه لحياة الجنس البشر ومستقبله. فيما تتشاركه الظلال التي أرختها جائحة كورونا مع الانقلابات العسكرية في جوهريهما يكمن قلب أحوال الناس وتبديلها، إضافة إلى حجرهم وعزلهم، وإن اختلفت آلية التنفيذ والغاية منها، مع بقاء متسع كاف للقول بأن في بعض السلطويات والمجتمعات حتى الغاية بين الأمرين فيها من التقاطع ما يكفي لعين نبهة أن تلتقطه.

اقرأ/ي أيضًا: غرامشي والثقافة الشعبية.. الدرس الغائب عن "المثقف" العربي

إذا كان حجر البشرية اليوم هذا ضمانًا لنجاتها، ولا يخصُّ فئةً بعينها، فإنّ العزلة والحجر عند حدوث انقلاب، كما عند الأنظمة الدكتاتورية التي تحلوا لها قوانين الطوارئ واللوائح العرفية، تخصُّ غالبًا فئة مُعيّنة، وتحملُ مسمّىً أكثر وضوحًا، أي الاعتقال بما هو إبعاد ونفي وتغريب ومحاولة انتزاع للذات من ذاتها وخلق ذوات جديدة أو تشويه المتوفرة أقله، كما مفاقمة الاغتراب إلى أقصاه.

تكون العزلة في هذه الحالة عبارة عن "عَزَل" وليس اِعتِزال، ممّا يجعلها تجربة فريدة تختلف تمامًا عن التجارب الحالية معها، كونها تُفرض قُسرًا، تحكمًا وعقوبة. لعلّ من أبرز هذه التجارب الفريدة، والكثيرة على أي حال، تحضر مسارات النضال الأممي لأجل الإنسان وما جرته على كل من المفكّر الإيطاليّ الراحل أنتونيو غرامشي، وشقيقه فكرًا وعملًا الشاعر التركيّ، الراحل أيضًا، ناظم حكمت.

كيف كانت عزلة أنتونيو غرامشي القسرية؟ بمعنىً آخر، كيف كانت ظروف اعتقاله/ عزله/ حجره؟ كيف كان يُمضي وقتهُ داخل سجون الفاشية الإيطالية؟ قد يتحوّل الجواب على هذه الأسئلة إلى ممارسة عبثية، إذ لا توجد طريقة شافية لمعرفة تفاصيل كهذه، إلّا بصفة جزئية. لذا، قد يسعف جمع ما وصل من مؤلّفات غرامشي نفسه، لا سيما رسائله من السجن، توخيًا لمقولة الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث بأنّ السيرة الذاتية الوحيدة الممكنة لأي كاتب، هي تلك المدوّنة في أعماله.

أمضى المناضل الإيطاليّ 11 عامًا تقريبًا في سجون فاشية موسوليني محجورًا ومعزولًا عن حياةٍ خارجية تقضهما الفاشية دون هوادة أو تمهّل، الأمر الذي يدفع بمن يجد صعوبة بالغة في تصريف الوقت في حجره "الصحي الوقائي" حاليًا، للتساؤل: ما الذي فعله خلال هذه السنوات الطويلة؟ كيف تغلب على كل هذا الوقت؟ كان يكتب، ببساطة شديدة، كان يكتب فحسب، تمامًا كما المناضل الراحل سلامة كيلة في سجون نظام الأسد حين أغلقت عليه، ومثله الشاعر فرج بيرقدار في ذات السجون، بالمثل معهما الكاتب الصحفي والروائي التشيكوسلوفاكي في سجون الغستابو النازي يوليوس فوتشيك ومعهم قوائم ممتدة وشاهقة من قامات المناضلين الكتاب على تنوع ألون كتباتهم.

عودة لغرامشي وكتابته، بل مغالبته الحجر القسري، يتضح أنه أنجز في السجن 32 دفترًا وزِّعت مضامينها على أفكار وقضايا مختلفة قرّر الاشتباك معها في ظروف اعتقال سيئة وعزل تام حتى عن أخبار العالم خارج جدران الزنزانة، رفقة حالة صحّية هشّة حاول التغلّب عليها من خلال العمل على إنجاز مشروعه الفكريّ، مُعتمدًا على ذاكرته في مكانٍ لا تتوفّر فيه المراجع والوثائق التي تلزمهُ لإنجازه، لتكون الكتابة بهذا المعنى جزءًا من ممارسته لنضاله الذي لم يتوقّف، وتكون كرّاساته، وبحسب تعبيره، بؤرة حياته الداخلية.

رأى موسوليني في عزل غرامشي وحجره نجاةً له ولنظامه من تبعات أفكاره التحريضية والثورية التي كان لها انتشارًا واسعًا يتجاوز الحدود الجغرافية الإيطالية، ومنعًا لماكينة عقله من العمل المُستمّر، وإنارة الدروب المُراد لها أن تبقى مُظلمة.

هكذا، سيُمضي غرامشي سنوات السجن متأرجحًا بين القلق والارتباك، مُنشغلًا ومنهمكًا بمشروعه، مُدركًا تمامًا بأنّ عزله هذا مُحاولة لإخماد شرارة عقله، وعزله عن نفسه من خلال ممارسات قذرة ورخيصة، منها منعه من النوم لأكثر من ساعتين في النهار، وحينما يستسلم إلى غفوة صغيرة، كان السجّان الذي تلقّى أوامر مُباشرة بإزعاجه من خلال فتح باب الزنانة وإغلاقها لإحداث ضوضاء مُتعمّدة تحول بينه وبين الراحة.

المشهد أعلاه من شأنه أن يكوّن صورة مُتخيّلة لتجربة مؤلّف "الأمير الحديث" مع العزلة التي سعى دائمًا إلى تبسيطها لوالدته في رسائله إليها، مُحاولًا طمأنتها في أقصى لحظات قلقه، إذ كتب لها في إحدى رسائله يقول: "أنا بحالة جيّدة قدر المستطاع، لديّ عنبر أدفع ثمنه نقدًا، أي لديّ سرير لا بأس به، يتوفّر لديّ أيضًا مرآةً حيث أنظر إلى نفسي. ويصلني من المطعم وجبتين في اليوم وثمانية كتب في الأسبوع، بالإضافة إلى مجلّات مصوّرة ومجلّات أدبية. أدخن سيجارة ماسيدونية. من الناحية المالية، لا أعاني من أي حاجة ملحّة".

إخفاء غرامشي لمشهد تعذيبه واستبداله بمشاهد أخرى غايتها بثّ الطمأنينة في نفس والدته ومعارفه، كان لسببين: الرقابة التي فرضها عليه سجّانوه إمعانًا في عزله عن الحياة خارجه، السجن، وقناعته التي يُمكن لنا أن نستخلصها من قوله هذا الذي يردُ في رسالة من رسائله إلى والدته: "أنا لا أتحدّث أبدًا عن الصعوبات التي أواجهها في حياتي. فأنا أرفض أن أكون موضوعًا للشفقة، لكنّ الأهمّ أنّني كنت جنديًا ربّما سيئ الحظ في هذه المعركة والجنود لا يجب أن يكونوا موضوعًا للشفقة، لأنّهم لا يقاتلون اختيارًا، بل هم يقاتلون لتأدية واجب لا بدّ منه".

هل يمكن للكتابة أن تشكل طوق نجاة من العزل القسري؟ أم  أن النجاة مرتبطة بشكل الكتابة في العزل وقضاياها؟

لو عاد الأمر لأنتونيو غرامشي في وصف ظروف اعتقاله وعزلته/ عزله القسريّ الذي انتهى بموته تحت التعذيب كان سيكتفي بمقولته هذه التي تُبيّن لماذا اعتُقِلَ وعُزِلَ وعُذِّبَ وقُتِلَ، وتختزل تجربته الفريدة: "في العمق، وبطريقة أو بأخرى، أنا من أراد هذا السجن وهذه المحاكمة، بما أنّي لم أتراجع أبدًا عن آرائي التي من أجلها أنا مستعد للتضحية بحياتي وليس فقط البقاء في السجن. وبالنتيجة، لن أكون إلا فرحًا ومرتاحًا من نفسي".

اقرأ/ي أيضًا: أدباء جرّدوا من جنسياتهم

يُمكن تبسيط معنى العزلة والحجر في الأوقات الحالية بالقول: من يعتزل الآخرين ينجو. كما يُمكن  تبسّيِطه في زمن غرامشي بالقول: من يَعزِلهُ ينجو. القصد هنا حتمًا السلطات الفاشية، أمّا النجاة، فهي مؤقّتة حتمًا أيضًا، ولا بدّ لها أن تزول، بينما يُكتب لغرامشي خلوده الأبديّ مٌفكِّرًا ومُناضلًا وشهيدًا تتم استعادته على قاعدة أنّه لا يُستعاد لأنّه "لن" يمضي. ينطبق هذا على تجربة الشّاعر التركيّ ناظم حكمت الذي عُزل في السجون العسكرية التركية خوفًا منه ومن أشعاره التي رأى فيها سجّانوه سراجًا من شانه أن يُنير درب المقهورين نحو تحطيم أصنام الوضع القائم فوق رؤوسهم بحراب المدافع، فما كان من العسكر إلّا أن لجأوا إلى عزله وحجره لأكثر من 13 عامًا، هذا قبل نفيه بالطبع.

عزل الآخر في الدول الدكتاتورية، لا سيما إذا كان مُناضلًا، يعني تجريده من كلّ الأشياء التي سيكون دونها أعزلًا وضعيفًا في مواجهة السلطة. هذا بالتحديد ما سعى إلى تحقيقه سجّانو حكمت الذي كان أعزلَا إلّا من قضيته وثقته بانتصارها وانتصاره على جلّاديه المُسلحّين بكلّ أدوات القهر ووسائل التعذيب، مُقدّمين أنفسهم له كجيلٍ جديد للفاشية، وضعوا من روح عقله، أي حكمت، هدفًا عجزوا عن بلوغه، فأمعنوا في عزله كعقوبة بديلة تجاوزها بدورها عبر نضاله اليوميّ الواعيّ ورسائله وأشعاره وأفكاره التي قدمها مدرسة عمومية لمن اشتهى واحتاج.

الثابت في تجربة حكمت أنّها كانت تجربة مريرة، ولكنّها أيضًا تجربة تحملُ الكثير من الإبداع، فمن بين ما كتبهُ إلى زوجته أنّ: "لكي أصل هذا الأسلوب الذي يبدو سهلًا للغاية للوهلة الأولى، قُمت بتجارب على ألف بيت من الشِّعر على أقلّ تقدير، وسوف أقوم ببعض التجارب الأخرى أيضًا". يقصد حكمت هنا أسلوبه الذي تبلوّر في السجن بما هو مُحاولة لعزله عن نفسه وعن أفكاره ونضاله والمقهورين وكلّ القضايا التي كانت تشغلهُ في آنذاك. ولأنّه لم يكن يحبّ الحديث عن السنوات الطويلة والصعبة التي أمضاها في السجن، مُكتفيًا بالحديث عمّا رافق تلك السنوات من حوادث طريفة فحسب، فمن الممكن الاعتماد على ما توفر من أشعاره وما كُتب عنه لترميم بعض المشاهد عن عزله وحجره.

من بين ما كتبهُ حكمت أنّ: "في العام الذي دخلت فيه السجن/ كان معي قلم رصاص/ ظلّ يكتب ويكتب إلى أن فنى في أسبوع/ فإذا سألتموه قال لكم: إنّها حياة كاملة/ وإذا سألتموني أجبتكم: إنه أسبوع/ فيا أيّها الإنسان، لا تبال". قصيدة كهذه لا بدّ أن تكون كفيلة بتكوين بعض التصوّرات عن عزلة حكمت وخياراته القليلة على أي حال للتعامل معها. لذا، سيكون العمل على إكمال مشروعه الشِّعري من بين هذه الخيارات القليلة بالإضافة إلى تفاعله مع بقية السجناء، إذ كان يُعلّمهم كتابة الشِّعر والحكاية والرواية والرسم واللغات والفلسفة، عدا عن كتابته لعرائضهم ولوائحهم القانونية التي يعترضون بها على محكومياتهم، كما كان يكتب رسائلهم إلى ذويهم أيضًا، مسخرًا حمولته الشعورية واللغوية لأمر حاجاتهم المشروعة.

يمكن القول في حكمت أنه كان مُعلِّمًا، بل مدرسة كاملة الأركان، فمن بين ما يرويه رفيق سجنه الكاتب والروائيّ التركيّ أورهان كمال في كتابه "ثلاث سنوات ونصف مع ناظم حكمت في سجن بورصة" إنّه جاء إليه مرّة بقصائده ليأخذ رأيه فيها، وكان مُترّددًا وخائفًا من ردّة فعل حكمت الذي قال موجِّهًا كلامه لأورهان وبقية السجناء: "إنّ هذه النماذج الشعرية هي كلمات عسيرة الولادة... إنّها تعابير بهلوانية – أرجوا المعذرة – لستَ بحاجة إليها" وأضاف: "اكتبوا ما تشعرون به وما تحسنونه لأنّكم بغنى عن هذه المهزلة".

بتفاعله هذا مع السجناء، كان صاحب رواية "الحياة جميلة يا رفيقي" يتغلّب على عزلهِ والمُحاولات المستمرّة لتغريبه، إذ رأى في زملائه داخل هذا الحجر القسري رفاقًا يخفِّفون من وطأة غياب رفاقه ممّن أفلتوا من قبضة الجلّادين، أو اعتقلوا في سجون أخرى. لذا، كان رأيه في ما يكتبونه، وإن كان قاسيًا، ليس إلّا مُحاولة منه لتبيين طريق الخلاص والبعث الجديد لنفوسهم المغلقة بقشور الوعي الزائف الذي لبرجوازية السلطة التي تأنف قضايا الجماهير، بحسب رفيقه إبراهيم بالان الذي رأى في دوره: "دور الأبّ الذي كان يضرب ولده – كارهًا – ليستقيم ويتأدّب".

داخل السجن، كما خارجه، ظلّ حكمت وفيًّا لفلسفته المُنحازة للقضايا الإنسانية انحيازًا خالصًا وكاملًا عبّر عنه في كتاباته التي سردت أوجاعًا جماعية قبل أوجاعه الفردية. فكانت فلسفةً تنشدُ الخلاص الجمعي، وتردُّ على الأنظمة القمعية وجلّاديها بالمزيد من حمولات القلق والخوف الذي كانت تبثّه قصائده في نفوسهم، بينما كانت تشعلُ روح النضال عند المقهورين، أو هكذا هدفت.

عند هذا الحد، تماهت سيرة حكمت النضالية مع سيرته الشعرية بشكلٍ كامل، مكّنه من التغلّب على كلُ مُحاولات عزله وحجره من خلال رفضه، داخل نفسه، لفكرة أنّه بات سجينًا بمجرّد وجوده داخل الزنزانة. يقول في واحدة من قصائده: "أنا داخل الجدران وأنت خارجها/ لا ضير علينا من ذلك ولكن ما هو أسوأ منه/ أن يحمل الإنسان عازمًا أو جاهلًا/ هذا السجن في نفسه". ويُضيف في أخرى غنّاها بعد صدور الحكم عليه بالسجن: "هذا النداء نداؤنا: أن نعيش كشجرة وحيدة، حرّة/ وأن يعيش اخوتنا، أحرارًا، كأشجار الغابة/ هذا الحلم حلمنا".

 

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا أكتب: قهوةٌ تفورُ وتُطفئُ النّار التي تحتها، إلى حين

أورهان باموق.. ماذا تُعلّمنا روايات الجوائح العظيمة؟