03-مارس-2024
صورة آرون بوشنيل في ماليزيا

(Getty) صورة آرون بوشنيل في ماليزيا

قبل عدة أيام، استفاق العالَم على فيديو العسكري التابع للقوات الجوية الأمريكية آرون بوشنيل، وهو يُضرم الناس في نفسه أمام مقرّ السفارة الإسرائيلية في واشنطن.

يَظهر بوشنيل في ذلك الفيديو وهو يتكلّم ويُعبّر عن سخطه وغضبه على الدعم الأمريكي للحرب الإسرائيلية وجرائم الإبادة الجماعية المستمرّة في قطاع غزة، ثمّ يعرب عن نيته إحراق نفسه، وارتكاب أقصى فِعل عنفي احتجاجي يُمكن أن يقوم به إنسان للتعبير عن غضبه وسخطه على وضع ظلم وقهر لا يُعجبه.

البعض شبّه فِعلة بوشنيل بما فعله بوعزيزي تونس عندما قام بإضرام النار في نفسه احتجاجًا ورفضًا لحالة ظلم وقهر تعرّض لها، عندما قامت شرطة ولاية سيدي بوزيد بمصادرة عربته، التي كان يبيع عليها الفاكهة والخضار، وبعد تلقّيه صفعة من قبل شرطيّة في مقرّ الولاية، ومنعه من مقابلة أحد المسؤولين في الولاية لتقديم شكوى وتظلّم.

يُمكن القول بأنّ فِعلة بوشنيل والبوعزيزي تتشابهان في كونهما ينتميان إلى ما أطلق عليه عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم "الانتحار الإيثاري"، فدوركايم ضمّن في كتابه "الانتحار" وجهة نظر وجيهة حول الدوافع والأسباب التي تدفع الأشخاص للانتحار، وعلاقة ذلك كلّه بسلوك الفرد وطبيعة الصراع القائم بينه وبين مختلف البنى الاجتماعية المحيطة به.

يُمكن قراءة فِعلة بوشنيل باعتبارها انتحارًا إيثاريًا، فصرخته وهو يُضرِم النار في نفسه "فلسطين حرة.. فلسطين حرة" تُعبّر عن حالة اندماج وتكامل استثنائية لا مع مجتمعه، بل مع إنسانية كاملة

رفَض دوركايم في تنظيراته حول الانتحار النظر إليه كفعل فردي خالص، ورأى أنّه ظاهرة اجتماعية يُمكن ان تُفسّر بعامل "الدمج"، وذلك يعني أنّه كلّما كان الفرد أكثر اندماجًا في المجتمع الذي يعيش فيه كلّما كان بعيدًا عن الانتحار، بحسب قوانين وقواعد سلوك المجتمع والعكس صحيح.

في تصنيفاته لأنواع الانتحار وعلاقتها بعامل "الدمج"، قسّم دوركايم الانتحار إلى أربعة أنواع (الإيثاري، الأناني، اللامعياري، والقدري)، وأورد دوركايم عن الانتحار الإيثاري، بأنّه يحدث عندما يكون الشخص مندمجًا أكثر من اللازم في المجتمع الذي ينتمي إليه، حيثُ يظهر تفاعله معه في أوقات الأزمات وضياع الأمل بأشكال فوق طبيعية، فيتألّم ويزداد ألمه، ويتماهى مع آلام مجتمعه، حتى يُصبح هو المجتمع والمجتمع هو، ولحظة التماهي هذه تخلق لديه شعورًا مضاعفًا بهذا الألم الذي يبلغ إلى مستويات تفوق قدرته على التحمّل فيتخذ طريقه إلى خلاصه الخاصّ –الذي يرجو أن يُمهّد الطريق لخلاص مجتمعه من ألمه أو التحفيف منه- وينتحر.

يُمكن قراءة فِعلة بوشنيل باعتبارها تُمثّل أسمى صورة يُمكن أن يصل إليها الفرد في انتحاره الإيثاري، فصرخته وهو يُضرِم النار في نفسه "فلسطين حرة.. فلسطين حرة"، هي صرخة تُعبّر عن حالة اندماج وتكامل استثنائية لا مع مجتمعه، بل مع إنسانية كاملة ينتمي إليها، وأشخاص من عرق ودين ولون آخر، يختلفون عنه في كلّ شيء، عدا شيء واحد، هو أنّهم ينتمون معه إلى إنسانية واحده، تجمعه بهم، وتجمعهم به.

إنّ بوشنيل رأى أنّ فعلته قد تكون صرخة تُطلَق على مسامع ضمير العالم، فيستفيق على إثرها ويوقف إبادة الفلسطينيين والجرائم المستمرّة في حقّهم في غزة، وكأنّه رأى أنّ انتحاره في هذه الحالة سيأخذ طابع التضحية من أجل مصلحة الجماعة البشرية الكبرى التي ينتمي إليها وهي الإنسانية في أكمل وأتمّ صورها.

لعلّ صرخة بوشنيل "فلسطين حرة" التي قالها وهو يضرم النار في جسده، تُشبه ما جسّده الشاعر خليل حاوي في انتحاره الذي جاء عقب دخول قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى بيروت عام 1982، وهو الذي لم يستطع تحمّل فكرة احتلال بيروت، فانتحرَ كمن يقول: "يا إلهي، كيفَ أستطيع تحمّل كلّ هذا العار؟"، فكأنّ صرخة بوشنيل حول ضرورة وقف الحرب الإسرائيلية وجرائم الإبادة الجماعية في غزة وفلسطين، تختزل في كلّ طية من طياتها اعتراضًا إنسانيًا كونيًا يقول: يا إلهي كيف أستطيع تحمّل كلّ هذا العار، عار الإنسانية؟!