08-فبراير-2016

خلّف القصف الفرنسي لساقية سيدي يوسف خرابًا واسعًا(Getty)

في الثامن من شباط/فبراير من العام 1958، صنع الشعبان الجزائري والتونسي أحد ملاحم تاريخهما ونضالهما المشترك، حينها كانت تونس لم تحتفل بعد بالعام الثاني لاستقلالها، امتزجت الدماء أمام عدو واحد، أخذ يقصف قرية صغيرة تقع على حدود البلدين، هي ساقية سيدي يوسف، تلك الحدود التي لم يعترف بها الشعبان أبدًا، حدود وهمية أزالها نضال الدولتين من أجل التحرر من براثن الاحتلال الفرنسي. ما حدث ذلك اليوم كان انتقامًا من فشل المستعمر أمام التلاحم الكبير الذي لم يستطع رغم محاولاته العديدة أن يضع له حدًا، فالعلاقات بين الشعبين عريقة وضاربة في التاريخ، بحكم الماضي المشترك والموروث الحضاري والثقافي للبلدين الشقيقين.

شكلت ساقية سيدي يوسف، الحدودية بين تونس والجزائر، المعبر لدخول المؤونة والأسلحة من تونس دعمًا للشعب الجزائري في ثورته ضد المستعمر الفرنسي

تقع قرية "ساقية سيدي يوسف" على الحدود الجزائرية-التونسية، على الطريق المؤدية من محافظة سوق أهراس في الجزائر إلى محافظة الكاف في تونس، وقد شكلت القرية منطقة استراتيجية حيث تدخل منها المؤونة والأسلحة من تونس دعمًا للشعب الجزائري في ثورته المستمرة ضد المستعمر الفرنسي، وكانت قاعدة خلفية لنقل المصابين وعلاجهم داخل تونس، تفطنت فرنسا إلى الأمر فاستعملت أسلوب الانتقام الجماعي وقررت قصف القرية الهادئة.

صباح يوم السبت الثامن من شباط/فبراير عام 1958، كان يوم سوق أسبوعية في القرية، وكان من عادة الجزائريين المستقرين على التراب التونسي القدوم إلى السوق من أجل اقتناء أغراضهم، كما صادف ذلك اليوم تواجد كبير لأفراد من جيش التحرير الوطني، الذين قدموا في مهمة استلام بعض المساعدات من الهلال الأحمر التونسي والصليب الأحمر الدولي، كان يومًا هادئًا كما اعتاد أهل القرية، لكن المفاجأة كانت كبيرة، داهمت القرية أسراب من الطائرات الحربية، وراحت تدك القرية الصغيرة دكًا، مستهدفة المباني الحكومية ومنازل المدنيين، وقامت بمطاردة العزل الهاربين من جحيم القصف إلى خارج القرية.

تواصل القصف نحو ساعة من الزمن، مما حوّل القرية إلى خراب، لقد بلغ عدد القتلى 68 قتيلًا من بينهم 12 طفلًا من تلامذة المدرسة الابتدائية، فيما بلغ عدد الجرحى 87، وتهاوت العديد من المباني الحكومية، وتحطمت الكثير من الدكاكين والمساكن.

لقد كان أحد مندوبي الصليب الأحمر الدولي متواجدًا هناك ذلك اليوم، فقد كان من عادته القدوم من أجل توزيع المساعدات للاجئين الجزائريين المتواجدين هناك، وقد صرح في شهادته أن القاذفات الفرنسية حطمت ثلاث عربات شحن تابعة لمنظمته، وواحدة تابعة للهلال الأحمر التونسي وكلها كانت مشحونة بالمساعدات الغذائية، وقد نددت الصحافة العالمية بذلك العدوان الغاشم، فما كان حصاد فرنسا إلا إدانة العالم لتلك الجريمة النكراء.

تعود ذكرى أحداث ساقية سيدي يوسف على وقع ظروف صعبة تعيشها تونس والجزائر، تتجلى بوضوح في المناطق الحدودية التي تعاني نقصًا فادحًا في التنمية

"أحداث الساقية" كانت إذًا موعدًا مع التاريخ، تجسد فيه النضال المغاربي في أسمى معانيه، كما كان منعرجًا في تاريخ الدولتين، إذ طلبت تونس الجلاء الكامل للقوات الفرنسية من أراضيها بعد تلك الأحداث فيما اتخذت الثورة داخل الجزائر شكلًا أخر وتجسد التضامن أكثر بعد إنشاء جبهة الدفاع المشترك، بموجب لائحة صادقت عليها جبهة التحرير الجزائرية، وحزب الاستقلال المغربي، والحزب التونسي في ندوة احتضنتها طنجة في نيسان/أبريل 1958 والتي توجت ببيان مشترك يؤكد دعم تونس والمغرب للثورة الجزائرية.

ونظرًا لأهمية ما ترمز إليه تلك الأحداث من تشابك الحاضر ووحدة المصير، تسهر سلطات البلدين على إحياء الذكرى سنويًا. تعود الذكرى هذه السنة على وقع ظروف خاصة تعيشها تونس والجزائر، ظروف اقتصادية وسياسية صعبة، تتجلى بوضوح أكبر في تلك المناطق الحدودية التي تعاني في صمت نقصًا فادحًا في التنمية، وغيابًا كاملًا لمظاهر العيش الكريم وكأن الزمن توقف منذ عدة سنوات مضت.

اقرأ/ي أيضًا:

الجزائر.. في ذكرى أم الثورات

هل سيكتب تاريخ الجزائر من جديد؟


*ساقية سيدي يوسف وغيرها من المناطق الحدودية لم تمسها مشاريع الدولة من أجل المساهمة في ترقيتها منذ سنوات، لم تنشأ مدارس أو مستشفيات، تقابلك فقط مظاهر الفقر والتهميش وسط مناطق جبلية، اتخذ الإرهاب من بعض جبالها وكرًا، بينما كانت بالأمس القريب رافدًا من روافد التضحية من أجل الوطن.