06-أكتوبر-2016

(عمل لـِ (نبيل المخلوفي/ المغرب

تحظى القصيدة المكتوبة باللغة المحكية في المغرب الأقصى -تُعرف بالزجل- بآباء مؤسّسين لم يكابدوا فقط من أجل أن يحرّروها من شروط البلاغة القديمة الخاضعة لاهتمامات الجماعة، ويبرمجوها على قاموس وأفق جديدين، بل كابدوا أيضًا من أجل أن ينظر إليها الفضاء الرسمي والشعبي العام، نظرة طبيعية في سياق خضوعه لقداسة الفصحى، باعتبارها لغة القصر الحاكم والكتاب الحكيم.

كابد الآباء المؤسّسون للقصيدة المحكية في دول المغرب لأجل أن ينظر إليها الفضاء العام

إن تجارب أحمد لمسيح وإدريس المسناوي ومراد القادري ورضوان أفندي ومحمد عزيز بن سعد وإدريس بن العطار وحسن المفتي، مثلًا، لم تجدد الخطاب الجمالي للقصيدة الزجلية فقط، بل لعبت دور كاسحة الجليد، التي مهدت الطريق للاعتراف بهذا اللون الإبداعي أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: دليلة فخري.. الموتُ في زجليات مغربية

ولئن كان يشاع، في حقل الرواية العربية المكتوبة بأيدٍ نسائية، أن كثيرًا من الروائيات خرجن من معطف غادة السمان ثم من جبة أحلام مستغانمي، لاحظوا الفارق الدلالي بين كلمتي "معطف" و"جبة"، مع ضرورة خضوع هذا الحكم لتمحيص الممحصين وتشريح المشرّحين، حتى لا نتعسف في حق التجارب الأصيلة، فإنه يُشاع في المشهد الزجلي النسائي المغربي، أن معظم الزجالات خرجن من جبة نهاد بن عڨيدة، هذه التي قطّرت ورد المحكية المغربية، واستخلصت منه زجلًا ذا روح مغربية صرف، مع انحيازه إلى المقولات الكونية في الكتابة الشعرية، فهل ينطبق هذا "الخروج" على دليلة فخري؟

إذا اعتمدنا النص مصدرًا وحيدًا في الإجابة على هذا السؤال وجملة الأسئلة الشبيهة به والمحايثة له، فإننا نصل، من جملة ما نصل إليه، إلى أن تجربة دليلة فخري (1985) هي ثمرة طبيعية لفتوحات وخيبات الزجالات والزجالين المغاربة، على اختلاف وجوههم وجهاتهم واتجاهاتهم، ولانسجامها العميق مع خيبات وأشواق جيل العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين في المغرب الأقصى، والذي لم تُرصد خيباتُه وأشواقُه بعد، لأسباب يتعلق بعضها بعجز المنظومات المختلفة عن مواكبة الجديد، بالنظر لاعتمادها على عنصر التزكية، واعتماده على عنصر المفاجأة.

 

كان إعلانها عن نفسها عام 2011، وهو عام رمزي، ليس في المغرب وحده، بل في الفضاء العربيّ كلّه، من خلال ديوان طبعته على حسابها الخاص، حمل عنوان "هبال لحرف"، أي جنون الحرف، وفيه انزاحت بلغتها عن السائد، وتموقعت بين الجنون والعقل والوضوح والغموض والواقعي والخيالي والتفاؤل والتشاؤم، وتساوى عندها البقاء والرحيل، فصارت مفردات أحدهما مرادفاتٍ للآخر، غير أنها انتصرت في الحالات كلها لروح السؤال. 
"آشمن خيط يرتق هاد الفتق فجسد الرؤيا؟
آشمن خيط يجمع شتات هادْ الكسْدة
ويرقّع طْراف الروح؟".

وتكرّس انتصار التجربة للسؤال، بما هو رؤية للوجود، في الديوان الثاني "سؤال فلت للموت" (2015)، بعد فوزه في "مسابقة جرسيف للشعر"، انطلاقًا من المدخل: "السؤالْ مَدْ/ الجوابْ جَزرْ، وحيرتي بْحَرْ". لقد باتت الحيرة بالنسبة للذات الكاتبة هنا، مظلة تقيها بردَ الأسئلة، ليس فيما يتعلّق بالماضي فقط: "من أين أتيت؟"، بل فيما يتعلّق بالحاضر: "أين أنا؟"، والمستقبل أيضًا: "إلى أين أنا ذاهبة؟".

من المعروف، في المشهد الزجلي النسائي المغربي، أن معظم الزجالات خرجن من جبة نهاد بن عڨيدة

إنها أسئلة تنسف سلطة الجاهز، وتحيل اليقينياتِ الكبرى إلى المساءلة، فتصبح الكتابة مرادفًا للحرية ضد القيد والقبول به، والحياة ضد الموت والقبول به أيضًا. "عْلى صدري حيرة قارقة [جالسة]، تفرّخْ شْحالْ من سؤالْ، ولا جْوابْ تفقّسْ". حيرة عنقودية يصبح معها القبول بالأمر الواقع بكل منظوماته موتًا، ويصبح الشعر هو السؤالُ ذاتُه. "طلّيتْ من الثقيبة دْعلامة الاستفهام، بان لي غير الضبابْ، خذيتْ حْفينة منّو ورْميتها فالسما، باش الكون كلّو يتبلى بالحيرة".

اقرأ/ي أيضًا: سي محند أومحند... عذاب يشابه المنفى

إن الكائن المكتوب في هذه التجربة، ليس هو المواطن الذي يجري وراء خبزته "من الصباح إلى المصباح"، فدليلة فخري ترفض أن تكون إعلامية/ سياسية داخل قصيدتها، رغم كونها واحدة من ناشطات الجيل الجديد، بل هو الإنسان المثقوب بالحيرة والأسئلة الوجودية المتعلقة بوجوده أصلًا. "السؤالْ جمرة أنا رْمادْها".

يشكّل الديوان الثالث "سمعان" (2016)، ذروة استثمار دليلة فخري في حيرة هذا الإنسان، ووقوعه بين يدي السؤال الحارق لذاته وملذّاته. ولعله أوّل عمل زجلي مغاربي ينفتح بكامله على التراث المسيحي، 76 صفحة، من خلال استحضار يوميات وليليات الشك واليقين في مسار القدّيس بطرس، ثاني أشهر شخصية مسيحية بعد عيسى بن مريم، ليس بصفته رجل دين، يضمّ "العهد الجديد" رسالتين منسوبتين إليه، بل بصفته كان صيّادًا بسيطًا، رفعته "الخطيئة" إلى مقام "القداسة".

من جماليات هذه التجربة الشعرية المكتوبة على لسان القدّيس الحائر بالمحكية المغربية، أنها تستطيع أن تسافر إلى اللغات الأخرى، من غير أن تفقد عمقها الشعري والفلسفي. يقول سمعان بطرس: "كون يرجعني لمكتاب لقبل ما نكون، نكون والو، نذوب فالعدم، نتختر نطفة منسية فظهر المكتاب، نتخبى فمداد اللوح، تعامى علي عيون، الكاف والنون". وترجمته إلى اللغة العربية الفصحى: "لو يُعيدني القدرُ إلى ما قبل كينونتي، أكنْ لا شيءَ، أذبْ في العدم، أتخثّر نطفة منسية في ظهر القدر، وأختبئ في مداد اللوح، كي تعمى عني العيون، الكافُ والنون".

اقرأ/ي أيضًا:

شعر أمازيغ الجزائر.. ذاكرة الألم

ريبر يوسف.. حكمة الولد وطيش العجوز