11-يناير-2017

أسامة بعلبكي/ لبنان

هناك كتب نقرأها في عام معيّن، فنجدها تفرض نفسها علينا في أعوام قادمة، محافظةً لدينا على لقب "أفضل كتاب في السّنة" عدّة مرّات لاعتبارات كثيرة، تمامًا كما يحصل مع بعض لاعبي كرة القدم، إذ يحتفظون باللقب خلال دورات متتالية، في ظلّ وجود لاعبين آخرين جديرين هم أيضًا.

يحدث أن تتساوى عدّة كتب لدى القارئ الواحد في الأهمية، فلا يستطيع أن يقدّم واحدًا على الثاني

كما يحدث أن تتساوى عدّة كتب لدى القارئ الواحد في الأهمية، فلا يستطيع أن يقدّم واحدًا على الثاني، ويسعده كثيرًا هذا، لأنه مؤشّر على أنه قرأ عناوينَ مهمّة، ولم يذهب عامه سدًى، فمن الغبن أن تكون العناوين التي اختارها للقراءة من النوع الذي يرميه أو يتخلّى عنه بعد صفحاته العشر الأولى.

اقرأ/ي أيضًا: "مجاز السرو" لعبد الوهاب عيساوي.. للقصّة رائحة

في عام 2016، ركزتُ على جديد القصّة العربية القصيرة، حيث قرأت خمسًا وعشرين مجموعة، كتبتُ عمّا أعجبني منها في "ألترا صوت". وممّا رسخ في البال والوجدان "مصحّة الدّمى" للمغربي أنيس الرّافعي، و"أسباب رائعة للبكاء" للفلسطيني زياد خدّاش، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" للسّوري زياد عبد الله، و"الوجه الثالث للموناليزا" للجزائرية كريمة عيطوش، و"كأن أمضي خلف جثّتي" للتونسي عيسى جابلي، إلى جانب تجربة عراقية تموقعت بين الشّعر والقصّة القصيرة جدًّا، هي "كلمات رديئة" للعراقي ميثم راضي.

تفاوتت هذه التجارب قاموسًا ومعمارًا وهواجسَ، لكنها شكّلت معًا مؤشّرًا قويًّا على ظهور نخبة قصصية عربية مختلفة عمّا كُتب سابقًا، وهي تضع المدوّنة النقدية العربية أمام أسئلة جديدة تقتضي تناولاتٍ جديدة، بعيدًا عن الأحكام المسبقة والجاهزة، والإلحاقات المتعسّفة كأن يُقال إن هذا القاصّ الجديد هو سلخ أو امتداد لذاك القاصّ السّابق، بما حوّل التجارب الرّائدة إلى عقبات فعلية في طريق التجارب الوليدة، بفعل سلطة نخبة من النقاد الذين يحتكمون إلى المساطر لا إلى روح المتون.

لقد بقيت تجارب قصصية عربية حديثة نائيةً عمّا هي جديرة به من الضوء، نقديًا وإعلاميًا وقرائيًا، وحظيت بانتباه الأجانب، فترجمت إلى لغات أخرى، وحُوّلت إلى أفلام قصيرة ومسرحيات، ممّا يشي بأن منظومتنا الأدبية العامّة لم تتحرّر من عقد الماضي، والنزوع نحو عرقلة الجديد وتثبيط أصحابه وإجهاض حضوره، خوفًا من انقلاب في الذوق، يؤدّي بالضرورة إلى أن تفقد القدامة سلطتها وهيمنتها وقدرتها على توجيه العقول والميول.

بقيت تجارب قصصية عربية حديثة نائيةً عمّا هي جديرة به من الضوء

اقرأ/ي أيضًا: أنيس الرّافعي.. الكتابة بالعين

ولئن استطاعت هذه الحساسية القصصية الجديدة الطالعة بأسئلة مختلفة، أن تصل إلى دور النشر، فإنها لم تستطع أن تصل إلى مخابر الدراسة، وإلى افتكاك الجوائز المكرّسة، وإلى المنابر الإعلامية الثقافية، بالجرعة الكافية، بما في ذلك بعض المنابر اتي تتبنّى الحداثة خطابًا، دافعةً ضريبة الجرأة على التابوهات المختلفة التي تستمدّ منها المنظومة العربية المعادية للحرية بمفهومها الحقيقي والعميق شرعيتها، غير أنها تحوّلت، أو هي توشك على ذلك، مع بعض التجارب الروائية والشعرية القليلة، إلى أدب موازٍ للأدب المهادن.

إذ لم تكن هذه التجارب إلا ثمرة للحظة عربية جديدة، انسجمت مع التحوّلات التي حصلت في العديد من القطاعات، منها التحوّل الذي مسّ مفهومي التواصل والوصول، بظهور مواقع التواصل الاجتماعي، فكتبتْ هذه اللحظة ورصدت هذه التحوّلات، بلغتها وروحها وخلفيتها وقاموسها ونباهتها، فلم تقتصر أهميتها، بذلك، على جملة الانزياحات اللغوية والمعمارية والجمالية والفلسفية فقط، بل تعدّتها أيضًا إلى كونها باتت تشكّل وثيقة على أنماط التفكير والسّلوك والتفاعل وردود الأفعال، داخل الفضاء العربي، خلال السّنوات التي تلت مطلع القرن الحادي والعشرين، وهي السنوات التي بقيت عربيًا بلا توثيق ولا انتباه، إذ يبدو أن العرب دخلوا القرن الجديد بعيون القرن العشرين، لذلك سيتأخر الاعتراف بالتجارب الجديدة عقودًا أخرى. 



اقرأ/ي أيضًا:

كريمة عيطوش.. ترسم الوجه الثالث للموناليزا

فيسنتي أوبيدوبرو.. شاعرية السرد القصير