16-نوفمبر-2016

سليمان الدريسي/المغرب

يكادُ القاصُّ المغربيُّ أنيس الرافعي (1976) يصرخ مع سقراط: "لا يدخل علينا إلا من كان مهندسًا"، أي حاذقًا في فهم تحوّلات الكلمة والصّوت والصّورة في رسم المعنى والدلالات، محدّدًا طبيعة قارئه بالموازاة مع تحديد طبيعة نصّه الذي ليس ثمرة للبوح والهذيان، بما يُسهّل عملية التلقي، بل هو ثمرة للهندسة بكل مفاهيمها وتقنياتها وتطبيقاتها، بما يجعل القراءة فعلَ خلقٍ إضافيٍّ يمنح القارئَ صفة الشريك.

سوزان سونتاغ: حين ينتابنا الخوف نطلق الرّصاص، لكن حين ينتابنا الحنين نطلق الصّور

يأتي كتابه القصصي "مصحّة الدّمى" (دار العين، 2015) في مقدّمة تجاربه التي تمنح العين دورًا حاسمًا، في فعلي الكتابة والقراءة معًا، في مغامرة لغوية/بصرية ترقى بالنصّ إلى مقام الأثر، ليس فقط من زاوية احتوائه على نخبة من صور الدمى لنخبة من المصوّرين المعاصرين، مثل ليو جيا وهانز بليمر وإيكو هوشوي وكاتي هورنا، بل من زاوية بلاغة المشهد والتصوير أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: آسيا علي موسى.. ملتقى الأصوات المهمّشة

إن الدور الرئيسي الذي اضطلعت به لغة الرافعي في هذه التجربة/المغامرة، ليس أن تُخبر بل أن تصوّر/ترسم، منطلقة من حاسّة البصر ومتوخّيةً الوصولَ إليها في الوقت نفسِه، وهذا ما تؤكده مقولة الناقدة والمخرجة الأمريكية سوزان سونتاغ: "حين ينتابنا الخوف نطلق الرّصاص، لكن حين ينتابنا الحنين نطلق الصّور". لكن إلى أيِّ شيء حنّ الكاتبُ حتى أطلق صورَه؟

مبدئيًا، لا تنسجم الطبيعة الحداثية لأية تجربة فنية، مع الطبيعة النكوصية للحنين، فالماضي زمن منتهٍ بموت من صنعوه، وهو لا يعنينا إلا من زاوية كونه يُشكّل قاعدة أوّلية لانطلاقنا إلى المستقبل، وقد كان وعي الذات الكاتبة في "مصحّة الدمى" بهذا المعطى عميقًا، فوجّهت مجرى الحنين إلى المستقبل. ذاتٌ تحنّ إلى المستقبل وتكتب بلغته/الصورة، بل إنها تبدي أسفها على أنها لم تستطع، بالنظر إلى "انعدام الوسائل التقنية الكفيلة بإنجازها"، أن تطلق هذه الصّور كما يليق بالذهاب إلى المجهول القادم.

إحدى هذه الوسائل التي عجزت الذات الكاتبة عن استعمالها، "أن تُقرأ حكايات الفتوغرام والصور الفتوغرافية من لدن القارئ المحترم داخل مرآة. بأن توضع الصور مقابل طبعة كاليغرافية مقلوبة، على أساس أن يكون الغلاف الرابع للكتاب مزوّدًا بجيب يحتوي على مرآة صغيرة، وعلى هذا النحو، سوف يكون التلقي عن طريق عكس الكلمات والحروف على صفحة المرآة لتتحقق القراءة الصّحيحة".

من هنا، فنحن أمام تجربة متحرّكة/طائرة، ترى في السكون عدوَّها الأول، لأنه المرادف الحقيقي لكلمة الموت، أنت ساكن إذن أنت ميّت، فتحرّكْ بوعي حتى تعرقلَ موتك أو تؤجلَه أو ربّما تقتله. على القارئ هنا ألا يغفل ربط الحركة بالوعي، ذلك أن الرافعي لا يفرق أيضًا بين الموت والحركة غير الواعية، وربما هذا ما يفسّر تقديم معظم نصوص الكتاب على أنها أجنحة، فنجد "جناح الأورام" و"جناح الهلاوس" و"جناح العاهات".

لا تنسجم الطبيعة الحداثية لأية تجربة فنية، مع الطبيعة النكوصية للحنين

إلى جانب هذه الأجنحة/النصوص، نجد ملاحقَ ذات نفس مدرسي يبدو لنا من الوهلة الأولى أننا نستطيع الاستغناء عنها، لكن ما إن نحاول ذلك، حتى نجد أنفسنا مضطرين إلى العودة إليها، حتى نستطيع المواصلة/الفهم، وهو ما يبيح لنا القول إن المجموعة القصصية الواحدة لدى الرافعي، سواء "مصحة الدّمى" هذه، أو "ثقل الفراشة فوق سطح الجرس"، أو "اعتقال الغابة في زجاجة"، أو "الشركة المغربية لنقل الأموات"، أو "البستان في تصاريف العميان"، ليست نصوصًا كتبت في سياقات معيّنة، وتمّ تجميعها بين دفتي كتاب تحت عنوان معين، بل هي مشروع سردي ذو منطق وأفق، أو ما يمكن اختزاله في كلمة "تجربة".

اقرأ/ي أيضًا: "أسد البصرة".. نمذجة الشخصية العراقية

من هنا، أرى أنه من الحماقة أن أبادر إلى محاولة تلخيص فصل من الفصول أو حكاية من الحكايات، أو ذكر شخصية من الشخوص أو الإشارة إلى مناخ من المناخات، فالأمر يشبه أن تبيع قطعة من الدمية دون القطع الأخرى، غير أنني لا أريد تجاوز ذكر مزية من مزايا هذا "الفتوغرام الحكائي" هي أنه كتب ببلاغة مغاربية تمنح من الخصوصيات اللغوية للفضاء المغاربي تاريخيًا.

إن الواحد يدخل "مصحة الدمى" لأنيس الرافعي بصفته قارئًا، فيجد نفسَه دمية مريضة تحتاج إلى علاج سريع "من لسانها العييّ وحرفها المشتّت ولغْوها المترنّح ورطانتها الفارغة"، ولن يكون العلاج في هذه المصحّة إلا خيالًا مجنّحًا ولغة محلّقة ومناخاتٍ تحرّك الحواسّ كلَّها، لتشتغل خارج مفردات الكسل واليقين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فرانز كافكا: هل يساعدنا الأرق على الكتابة؟

حداثة الحياة.. تقليدية الموت