20-أكتوبر-2023
bbc logo red

استهداف المدنيين في غزّة من قبل الطيران الحربي الإسرائيلي (Getty)

في خضم العدوان الإسرائيلي والقصف المكثف للمدنيين في قطاع غزة، يشن الاحتلال وداعموه غارات موازية من الفبركات والأكاذيب في وسائل الإعلام الغربية العالمية والمحليّة، في محاولة لتبرير جرائمه بحق الشعب الفلسطيني، ومجازره المتواصلة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. 

أخبارٌ مبتورة السياق، وأخرى مُضلِّلة تجانب الصواب، وغيرها ملفق ومُختَلق دستها آلة الإعلام الإسرائيلية في حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى القنوات الفضائية، وتلقفتها وسائل الإعلام العالمية بيسر دون إجراء أبسط معايير التحقق، وأخرى بادرت باختلاقها ونسجها، مع إغفال شبه كامل لكابوس الإبادة الذي يعايشه أهل غزّة واقعًا يوميًا منذ أسبوعين. 

الترا فلسطين

كان من أبرز هذهِ الجرائم وأكثرها تزويرًا من قِبل وسائل الإعلام مجزرة مستشفى المعمداني، حيث لجأت أعداد كبيرة من سكَّان قِطاع غزة في ظل العدوان المتواصل إلى المستشفيات ظنًا منهم أنها أماكن آمنة وفق ما تُمليه القوانين والأعراف والمواثيق، لكن وفي مساء يوم الثلاثاء 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وقعت الجريمة. فقد قصفت طائرات الاحتلال مستشفى الأهلي العربي (المعمداني) في حي الزيتون بقطاع غزة، والذي يتبع للكنيسة الأسقفية الأنجليكانية في القدس، ما خلَّف أكثر من 500 شهيد فلسطيني، ومشاهد صادمة من الدمار والأشلاء. 

ولم تكد آثار الدمار والقتل تظهر على الأرض، حتى ظهرت حسابات تُمثِّل الاحتلال تبنَّت قصف المستشفى، كان من بينها حساب المتحدث باسم الإعلام الرقمي لجيش الاحتلال حنانيا نفتالي، قال في تغريدته "سلاح الجو الإسرائيلي يقصف قاعدة تابعة لحماس داخل مستشفى في غزة. من المفجع أن حماس تطلق الصواريخ من المستشفيات والمساجد والمدارس، وتستخدم المدنيين دروعًا بشرية".

حنانيا

لكن سرعان ما حذف حنانيا تغريدته واستبدلها بأخرى تقول: "في وقت سابق نشرت خبرًا نُشر على وكالة رويترز حول القصف على المستشفى في غزة، الذي ذكر زورًا أن إسرائيل قصفت المستشفى. لقد شاركت هذه المعلومات عن طريق الخطأ في منشور حُذف منذ ذلك الحين، أشرت فيه إلى استخدام حماس الاعتيادي للمستشفيات لتخزين مخابئ الأسلحة، والقيام بنشاطات إرهابية. أعتذر عن هذا الخطأ".

لاحقًا، ظهرت حسابات رسمية إسرائيلية عدة، تؤكد أن من قصف المستشفى هي حركة الجهاد الإسلامي، ومن بين تلك التغريدات: تغريدة حساب "دولة إسرائيل" التابع للخارجية الإسرائيلية، على منصة "إكس" (تويتر سابقًا)، والذي نشر مقطعًا ادَّعى فيه أن فصائل المقاومة هي من قصفت المستشفى.

ونشر جيش الاحتلال مقطعًا يدّعي فيه أن صاروخًا أطلقته المقاومة انحرف وسقط على المستشفى، وهو ما نفته فصائل المقاومة الفلسطينية، التي تؤكّد على أنّها لم تُطلق صواريخ تجاه الأراضي المحتلة قبيل وخلال الحدث، وأنه لم تُفعَّل صافرات الإنذار لدى الاحتلال ولم تنطلق مضادات القبة الحديدية، بحسب بيان أصدرته حركة حماس مساء الأربعاء 18 أكتوبر/تشرين الأول. 

يسند نفي المقاومة ما أشارت إليه عدة تقارير وتحقيقات أوليّة من أن صواريخ المقاومة محدودة التأثير باعتبارها محليّة الصنع، ولا ينتج عنها قوة تدميرية تتسبب بقتل المئات في وقتٍ واحد. وقد أكد على ذلك مراسل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) الذي قال في مداخلة تلفزيونية انتشرت على مواقع التواصل: "عندما نشاهد صواريخ منطلقة من غزة لا نرى انفجارات بذلك الحجم. قد نشهد مقتل 6 أشخاص أو أكثر بقليل في ضربات صاروخية مشابهة، لكننا لم نشهد انفجارًا بهذا الحجم في المقطع الذي شاهدته منذ قليل". ولم يوفِّر جيش الاحتلال حتَّى اللحظة أي دليل لدعم ادعائه بأن مجزرة المستشفى كانت بسبب صاروخ لحركة الجهاد الإسلامي. هم فقط يشيرون إلى معلومات استخباراتية لم يكشفوا عنها بعد.

كما وثّقت تحقيقات صحفية اعتمدت على تحليل سلسلة مقاطع الفيديو المتوفرة ولقطات البث المباشر ومقاطع من شهود عيان أنّ الطيران الحربي الإسرائيلي استهدف المنطقة في حي الزيتون في عدة غارات قبل لحظة القصف الأخيرة للمستشفى، وأنّ صواريخ المقاومة التي انطلقت من القطاع قد اعترضتها جميعها "القبة الحديدية"، قبل أن تقع الغارة الإسرائيلية على المستشفى موقعة مجزرة كاملة تنضاف إلى قائمة طويلة من المجازر العديدة بحق الفلسطينيين. 

ونشر فريق الطب الشرعي "Forensic Architecture" بجامعة لندن في بريطانيا، سلسلة تغريدات على منصة "إكس" تتهم فيها -ليس بشكلٍ قاطعٍ بعد- الاحتلال الإسرائيلي بقصف المستشفى، "للاحتلال تاريخ طويل في تقديم معلومات كاذبة ومضللة بعد استهدافها لمدنيين وقتلهم" يقول الفريق، مستشهدًا بحادثة الاستهداف المتعمَّد لصحفية الجزيرة "شيرين أبو عاقلة" في مايو/أيَّار 2022 وتبرؤ الاحتلال منها.

وطرح الفريق أدلة تؤكد ما ذهب إليه، مستندًا في ذلك إلى تحليل المحقق الخبير في جرائم الحرب، كوب سميث (Cobb Smith)، الذي بيَّن أن مسار القذيفة التي أصابت المستشفى كان من الشمال الشرقي، وهو الجانب الذي يسيطر عليه الاحتلال من غلاف غزَّة، وليس من الغرب، كما يدَّعي الاحتلال.

ونظرًا للحفرة الناتجة عن قصف المستشفى، يستبعد سميث أن يكون مصدرها الصواريخ التي عادة ما يُلقيها الاحتلال من الطائرات بدون طيَّار (الطائرات المُسيَّرة)، ويرَّجح أنها أقرب إلى قذيفة مدفعية، دون تقديم أدلة مادية أخرى؛ نتيجة عدم تمكُّن الفريق من إجراء تحقيق قاطع، والحاجة إلى معاينة الموقع وشظايا القذيفة وإجراء مقابلات مع شهود عيان.

وفنَّد الفريق ادَّعاء الاحتلال بعدم استهداف المستشفيات، وذلك بالاِستناد إلى التوثيق المصوَّر لمؤسسة "الحق" (جمعية فلسطينية متهمة بحقوق الإنسان) لاستهداف الاحتلال الإسرائيلي جناح السرطان بالمستشفى الأهلي (المعمداني) في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2023. كما صرَّحت "منظمة الصحة العالمية" عن 59 حالة اعتداء من قبل الاحتلال على الرعاية الصحية في قطاع غزَّة، و137حالة في عموم ألأراضي المحتلة منذ تاريخ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

الإعلام الغربي طرف في الجريمة

وكانت شبكة "بي بي سي" قد نشرت تقريرًا قبل المجزرة بيومٍ واحد يحمل عنوانًا استفاهميًا: "هل تقوم حماس ببناء أنفاق تحت المستشفيات والمدارس؟"، حيث أشارت أن كثرة الأنفاق في مساحة غزّة الصغيرة تنبئ أن "حماس" بنتها تحت المساجد والمدارس والمستشفيات، وواجهت الشبكة بسبب تغريدتها هذهِ انتقاداتٍ واسعة من المغردين باعتباره تقريرًا تحريضًا أو تقريرًا يبرر مسبقًا جرائم الاحتلال في قصفه للمستشفيات والمدارس. أما صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية التي لا تتردد منذ بدء العدوان الإسرائيلي في التحريض على قتل الفلسطينيين، فقد نشرت في اليوم التالي للمجزرة عناوين عريضة، منها: "إسرائيل والمليشيات تتبادلان الاتهامات بشأن انفجار المستشفى"، و"عندما هاجمت حماس، هذا الكيبوتس الإسرائيلي قاوم وانتصر". وكتبت هيئة تحرير الصحيفة مقالاً، جزمت فيه أن "تفجير المستشفى ليس في مصلحة إسرائيل"، واتهمت حركة حماس بـ"سرقة المساعدات الإنسانية" و"استغلال التعاطف الغربي لتعزيز وحشيتها".

 

ادعاءات أخرى سبقت المجزرة أخذت نصيبًا من الترويج والانتشار على الوسائل العالمية، ولعلَّ أبرزها ادعاء أن عناصر «كتائب القسام» ذبحوا أطفالاً رضعًا خلال الهجوم على مستوطنات غلاف غزة، في 7 أكتوبر 2023. فقد ردد الرئيس الأمريكي جو بايدن بنفسه هذا الادعاء متحدثًا عن الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ الذين قتلتهم "حماس" في مستوطنة "كفار عزة"، لكن سرعان ما تراجع البيت الأبيض عن هذه التصريحات، مؤكداً أن الرئيس لم يطّلع على أي تقارير تؤكد وقوع تلك الجرائم الشنيعة بحق الأطفال. وفي رد على أسئلة صحيفة واشنطن بوست، قال متحدث باسم البيت الأبيض، إن تعليقات الرئيس استندت إلى تقارير إخبارية وادعاءات من قبل الحكومة الإسرائيلية، مضيفًا أن "المسؤولين الأمريكيين والرئيس لم يروا الصور أو يؤكدوا مثل هذه التقارير بشكل مستقل".

مصدر الادّعاء الأول

كان مصدر الادّعاء الأول هو الفضائية «I24» نيوز (الإسرائيلية) بنسختها الإنكليزية (ثم الفرنسية) عندما نقلت مراسلتها "نيكول زيديك" عن جنود ومسؤولين الاحتلال أنّهم عثروا على جثث لأربعين رضيعًا برؤوس مقطوعة في مستوطنة "كفار عزة"، التي دخلها أفراد «القسام»، فبدأ الجميع بنقل الخبر بشكل هستيري حتى بات "حقيقة مطلقة" وعلا خطاب التحريض لـ"إبادة قطاع غزة".

مراسلة صحيفة "ذي إندبندنت" البريطانية، بيل ترو، نشرت بداية على حسابها على "إكس" تغريدة جاء فيها "كان الجنود يستخرجون جثثًا من المنازل في "كفار عزة" اليوم. قال لي أحد الضباط إنهم وجدوا جثث نساء وأطفال مقطوعي الرؤوس"، وأوضحت في تغريدتها أنها عاجزة عن التحقق من الخبر بشكلٍ مستقل؛ بسبب تبادل إطلاق النَّار لحظة دخولهم. وبعد موجة الانتقادات لنشرها خبرًا عن جريمة بهذا الحجم دون أن التأكد منها، حذفت ترو التغريدة.

وكذلك فعلت صحيفة «ديلي ميل» البريطانية التي وضعت على غلافها عنوانًا يقول: «أطفال بُترت رؤوسهم: 40 طفلاً قتلوا رميًا بالرصاص»، وأيضًا فعلت صحيفة «ذا تايمز» البريطانية، فكتبت على صفحتها الأولى: «حماس تذبح حناجر الرضع»، ومثلها فعلت قناة وموقع «سي إن إن» الأمريكية التي روجت للأمر نفسه، وأكدت عن لسان مراسلتها "سارة سيدنر" العثور على جثث لأطفال مذبوحة في مستوطنة "كفار عزة".

وأمام طوفان هذا الخبر الكاذب في قسم كبير من وسائل الإعلام الغربية توجهت وكالة الأناضول التركية بسؤال إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي عن حقيقة جثث الأطفال، لينفي المتحدث علمه بالحادثة، مؤكدًا عدم امتلاكه معلومات حولها. وهو ما نفاه كذلك الصحافي الإسرائيلي "أورن زيف"، الذي كان متواجدًا في المستوطنة، فأكد أن الصحافيين لم يروا أي جثث، وأن جيش الاحتلال نفى علمه بورود تقرير حول جريمة شبيهة.

بعدها اعتذرت مقدمة شبكة "سي أن أن" الأميركية "سارة سيدنر" التي نقلت الخبر على الهواء مباشرة وقالت إنها تعرضت للتضليل. وكتبت اعتذارها على منصة إكس وجاء فيه: "مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي قال إنه تأكد من قيام حماس بقطع رؤوس الأطفال والرضع بينما كنا على الهواء مباشرة. الحكومة الإسرائيلية تقول الآن إنها لا تستطيع تأكيد قطع رؤوس الأطفال. كنت بحاجة إلى أن أكون أكثر حذراً في كلماتي، وأنا أعتذر".

إلى ذلك، زعمت وسائل إعلام عبرية، أن الشابة التي ظهرت في إحدى الشاحنات يوم السبت 7 أكتوبر 2023، قد تعرضت للاغتصاب قبل قتلها، وكانت صورتها الأكثر انتشارا لتدعيم المزاعم الإسرائيلية حول المقاومة.

صحيفة "لوس أنجليس تايمز" الأميركية على سبيل المثال، نشرت في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول، مقال رأي بعنوان  "من هو المسؤول عن هجوم حماس على إسرائيل؟ هذا النقاش بدأ يخرج عن السيطرة". في النسخة الأساسية من المقال يتحدّث الكاتب الأميركي جوناه غولدبرغ عن جرائم الاغتصاب التي ارتكبتها مقاومة حركة حماس. لكن في مساء اليوم نفسه، حذفت الصحيفة الإشارة إلى الاغتصاب، ونشرت تنويهًا جانبيًا جاء فيه "نسخة سابقة من هذا المقال أشارت إلى حدوث جرائم اغتصاب في الهجمات، ولكن لم يتم تأكيد مثل هذه التقارير".

وتبيَّن لاحقًا أن الشابة التي ظهرت في المقطع المصوَّر لا تزال على قيد الحياة، وفق تصريحات والدتها لوسائل إعلام ألمانية، مؤكدةً أن ابنتها لم تقتل ولم تغتصب وهي تتعالج في أحد مستشفيات غزة.

إضافة إلى ذلك، نشر الحساب الرسمي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على منصة "إكس" صور جسمٍ صغيرٍ متفحِّم لطفلٍ إسرائيلي زاعمًا أن « كتائب القسام» التي تسللت إلى غلاف غزَّة هي من فعلت ذلك، وحُذفت التغريدة بعد أن كشف الإعلاميّ الأمريكي "جاسكون هينكل" (Jackson Hinkle) زيف الصورة عبر تقنيات الذكاء الإصطناعي.

جميع هذه الادعاءات المضللة ووصلت إلى ملايين البشر، وشكلت تبييضًا وغطاءً لما تقوم به اسرائيل الآن من مجازر بحق الفلسطينيين. أما الوقائع التي تأبى الكذب أو التضليل فهي ما يتكشّف العدوان الإسرائيلي عنه كل يوم، من مشاهد مأساوية تُظهر حجم الدمار الذي يرزح تحته قطاع غزة، وما يتعرض له المدنيون، وبينهم مئات الأطفال، من القتل الهمجي والاستهداف الذي يصنف في الأعراف الدولية "جرائم حرب".

سياسة تحريرية بصف الاحتلال

في سبيل الدفاع عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي وتصويرها على أنها "مجرد الدفاع عن النفس" أمام "الإرهابيين" تغيب الأصوات الفلسطينية وشهاداتها، وإن وُجدت، فتكون في الترتيب الأدنى، في محاولة شكليّة للحفاظ على بعض من ماء وجه هذه المؤسسات التي تدّعي الموضوعية وتصرّ على احتكار تمثيلها. 

نشرت صحيفة "أسوشيتد برس" تقريرًا عنونته "في عمليات القتل المروعة التي ترتكبها حماس، تعود الصدمة الإسرائيلية بسبب الهولوكوست إلى الظهور"، كذلك نشرت صحيفة "ذا غارديان" مقالة افتتاحية أشارت فيها إلى "الهيجان القاتل الذي نفذته حماس". وبالمثل، أشارت "ذي إيكونوميست" إلى "الهجوم المتعطش للدماء الذي نفّذته حماس". هذا النوع من العبارات لم يُستَخدم من قبل وسائل الإعلام الغربية لوصف الجرائم الإسرائيلية ذات الحجم المماثل أو حتى الأسوأ في عدوانها على قطاع غزَّة.

أما شبكة "بي بي سي" المتهمة بالانحياز إلى الإحتلال الإسرائيلي في تغطيتها عدوانه على غزة، فتحاول منح المزيد من المساحة للأصوات الفلسطينية، لكن بما لا يقارن بما تمنحه للآخر من الكيان المُحتل. فمثلًا تحدثت "بي بي سي" إلى الجرَّاح البريطاني الفلسطيني البروفيسور "غسان أبو ستة" الذي كان يعمل عندما وقعت الغارة. لم تذكر الشبكة أي جانب إنساني للضحايا، لا أسماء الشهداء الفلسطينيين، ولا أعمارهم، ولا صورهم، ولا تطلعاتهم وقصصهم. هم فقط 500 قتيل على الأقل، غير جديرين بالعزاء الذي حازه غيرهم من القتلى. 

في المقابل ذلك، وفي ذات اليوم الذي استهدف فيه الاحتلال مستشفى المعمداني، كانت "بي بي سي" قد نشرت تقريرًا موسعًا عن "رهائن حماس: من هم الأشخاص الذين أُخذوا من إسرائيل؟". الأسماء موجودة، والأعمار، وكذلك الصور. وللقتلى الإسرائيليين خصصت أيضاً مساحة واسعة، وبينهم "موسيقي" و"شقيق بكر كان يحب إسرائيل"، ولو كانوا مجندين ومجندات في الجيش الإسرائيلي.
دعت هذهِ السياسات التحريرية إلى قيام منظمة "Palestine Action" المؤيدة لفلسطين في بريطانيا برش مبنى شبكة "بي بي سي" في العاصمة لندن، بالطلاء الأحمر احتجاجًا على تبنيها رواية الاحتلال الإسرائيلي وصمتها عن جرائمه في قطاع غزة.

bbc logo red

صحفيون في مرمى النَّار

في تقريرها، بيّنت نقابة الصحفيين الفلسطينيين استشهاد 15 صحفيًا فلسطينيًا، وإصابة 20 آخرين منذ بداية العدوان الإسرائيلي حتَّى صباح 19 أكتوبر الحالي. نشرت النقابة أسمائهم وأسماء مؤسساتهم، منوهةً أن التصعيد وتكثيف العدوان على القطاع حال دون توثيق كافة جرائم الاحتلال ضد الصحافة، وبالتالي فالأرقام الموثقة ليست نهائية.

كما فُقد الاتصال مع اثنين من الصحفيين أثناء تأديتهم عملهم المهني على حدود قطاع غزة منذ تاريخ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وهما: المصور الصحفي نضال الوحيدي الذي يعمل منتجًا مع فضائية النجاح، والصحفي هيثم عبد الواحد من مؤسسة عين ميديا الإعلامية.

ودمَّرت طائرات الاحتلال 50 مقرًا لمؤسسات الصحفية بشكلٍ كليّ أو جزئي، أبرزها شبكة الأقصى الإعلامية، ووكالة شهاب، ومكتب شبكة الجزيرة إضافة إلى مكتب الوكالة الفرنسية. وتضمنت الانتهاكات بحق المؤسسات الإعلامية تعطل الإذاعات الأربعة وعشرين في قطاع غزة وتوقفها عن البث بسبب نفاد مصادر الطاقة، ووقف بث قناة الأقصى عن القمر الصناعي Eutelsat استجابة لضغوط الاحتلال، وغيرها.

إلى جانب الصحافة الفلسطينية، فإن الصحافة اللبنانيّة كذلك تضررت من العدوان الإسرائيلي، وذلك أثناء تغطيتها التصعيد في بلدة "علما الشعب" جنوب لبنان، إذ استشهد المصوّر الصحفي اللبناني في وكالة رويترز عصام عبد الله، وأُصيب 6 آخرين بقصف إسرائيلي على سيارة طاقم إعلامي في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2023. برر جيش الاحتلال قصف السيارة التي تقل الصحفيين بأن وحداته العسكرية تعرضت لإطلاق نار من جانب "حزب الله"، واشتباهها بحدوث عملية تسلل في "علما الشعب"، ما دعاها لقصف عدة مواقع هناك، وتماهى موقف قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان مع الموقف الإسرائيلي، حيث قالت إنها لا تستطيع أن تقول على وجه اليقين في هذه المرحلة كيف أصيبت مجموعة الصحفيين، لكنها صرَّحت بعلمها أن إسرائيل قصفت موقعًا على بعد 2.5 كيلومتر خارج "علما الشعب".

في حين أكدت وزارة الخارجية اللبنانية أنها أوعزت إلى بعثة لبنان الدائمة لدى الأمم المتحدة، بتقديم شكوى، مؤكدةً أن قصف السيارة "اعتداء صارخ على حرية الصحافة وحقوق الإنسان، وذلك من خلال استسهال قتل الصحافيين العزل ضحايا رغبتهم بنقل الحقيقة، ونقلهم لشريط الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة في جنوب لبنان".

وأصدرت وكالة رويترز بيانًا جاء فيه: "بحزن شديد، تبلّغنا أن مصوّرنا عصام عبدالله قد قتل"، موضحة أنها "تعمل على جمع المعلومات" حول الملابسات، من دون أي إشارة إلى الجهة التي قتلته، وتعرّضت "رويترز" لانتقادات حادة، وتحديدًا من الصحافيين الذين استنكروا تجاهلها تمامًا ذكر مسؤولية إسرائيل في بيانها، رغم تأكيدات الصحافيين في الميدان أن الاستهداف كان مباشرًا ومن جانب الاحتلال.

صحفيون آخرون تعرضوا لمضايقات من مؤسساتهم العالمية؛ بسبب انتقادهم لسياسات  الاحتلال الإسرائيلي، كما حدث مع رسَّام الكاريكاتير "ستيف بيل" مثلًا، الذي أوقفته صحيفة «الجارديان» بعد نشره رسمًا يصور فيه نتنياهو يقطع من جسده قطعة على شكل خريطة لغزة، وكتب: "يا سكان غزّة اخرجوا الآن"، في إشارة إلى طلب جيش الاحتلال منهم النزوح إلى جنوب القطاع قبل الغزو البري المتوقع.

واستوحى بيل رسمته من كاريكاتير نشر في الستينيات ويسخر من الرئيس الأميركي السابق ليندون جونسون يقطع قطعة من جسده على شكل خريطة فيتنام، ورأت إدارة الصحيفة أن بيل في رسمته معادٍ للسامية، وأعلنت أنها ستمتنع عن نشر أي رسومات له حتى انتهاء فترة التعاقد.

وكذلك قامت صحيفتا «ذا تليجراف»، و«ديلي ميل» البريطانيتان في هذين التقريرين بمراجعة حسابات صحفيين عرب يعملون في مؤسسة «بي بي سي»، وحرضت عليهم بدعوى أنهم يؤيدون قتل «الإسرائيليين»، ويصفون حركة «حماس» بأنها حركة مقاومة وليس إرهابية، وعليه أوقفت «بي بي سي» 6 من الصحفيين العاملين لديها عن العمل إلى حين انتهاء "تحقيق النزاهة"، بسبب تغريدات نشروها على حساباتهم الشخصية على منصتيّ «إكس» و«فيسبوك».

الصحافيون العرب الذين ذكرت أسماءهم الصحيفة البريطانية هم: مراسلة الشؤون الدينية اللبنانية سناء الخوري، مديرة البرامج اللبنانية ندى عبد الصمد، والمراسلة المصرية سالي نبيل، والصحافي والمنتج المصري محمود شليب، والصحافية في مكتب القاهرة المصرية سلمى خطاب، والمتعاونة (فريلانسر) آية حسام، والمراسل الرياضي عمرو فكري.

كان من بين هذهِ التغريدات الشخصية ما قيل إنه "تشكيك بوجود مدنيين إسرائليين غير مسلحين"، في إشارة إلى تغريدة "محمود شليب"، وتغريدة "سالي نبيل" التي عبَّرت فيها عن إعجابها بتسلل المقاومة يوم 7 أكتوبر ومفاجئتها للاحتلال، كما  تنظر الهيئة التحقيق في نشر "ندى عبد الصمد" فيديو الإسرائيليين يختبئون خوفًا تحت عنوان: "المستوطنون يختبئون داخل حاوية قصديرية خوفاً من مقاتلي المقاومة الفلسطينية"، وتغريدة أخرى "لسناء خوري" أشارت فيها بشكلٍ خبري بحت إلى أنّ "الحلويات والبقلاوة توزّع في صيدا (جنوب لبنان)" وذلك بعد عملية "طوفان الأقصى".

ورغم إزالة هذه المنشورات، تعهدت "بي بي سي" باتخاذ "إجراءات تأديبية" ضد الصحفيين العرب، إذا ثبت انتهاكهم "لإرشاداتنا التحريرية"، وتلك المتعلقة بوسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما ردّ عليه وعلى تغطية الهيئة للحرب الإسرائيلية على غزّة بتقديم استقالاتهم منها، من بينهم الصحفي التونسي بسام بونني، والصحفي اللبناني إبراهيم شماس.