17-مارس-2017

الشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد

يُقال إن القرآن نزل في الحجاز وقُرئ في مصر. قراءة القرآن في مصر تقليد قديم، وهو مزاج فني أكثر منه ديني عند المصريين، ارتبط بجمال الصوت واللحظات الأولى للصباح، وارتبط بحب إذاعة القرآن الكريم باعتبارها "البركة" التي تحل على اليوم. في مصر ليس شرطًا أن تكون متدينًا لكي تستمع إلى القراءات القرآنية، بل إن هناك من يغلقون محالهم ومتاجرهم على المذياع مضبوطًا على محطة تبث آيات الذكر اعتقادًا منهم أن الصوت سيحميهم من اللصوص. 

يُقال إن القرآن نزل في الحجاز وقُرئ في مصر

لعل مدرسة قراء القرآن في مصر هي أهم وأعرق المدراس وأكثرها شهرة، فمزاج المصريين الديني متعلق بعدة مظاهر شعبية دينية يُقرأ فيها القرآن مثل موالد آل البيت، وفي بعض الأعراس والجنائز، ورغم تراجع استقدام المنشدين في الأعراس والجنائز إلا أن مزاج المصريين لا يزال مرتبطًا بصوت المقرئين. 

1) محمد رفعت.. التاريخ يبدأ عند هذا الرجل

قيل عن الشيخ محمد رفعت إن التاريخ يبدأ عنده، وهذا صحيح، فقد ولد عام 1882 في حي المغربلين في القاهرة، وحين حدثت ثورة 1919 كان في الخامسة أو السادسة والثلاثين من عمره. عاش في عصر ازدهرت فيه كل الظواهر الفنية في مصر، فكان هناك ملحن بمستوى القصبجي، وكانت هناك ظاهرة أم كلثوم، وظهر نجيب محفوظ، وجاء رفعت ليكتمل هذا العقد. قرأ القرأن في افتتاح الإذاعة المصرية يوم 31 أيار/مايو 1934، حيث تلا "إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا" فأخذ المصريون هذا التقليد عنه، وأصبح جُل المحال التجارية في المناطق الشعبية تضع هذه الجملة يوم افتتاحها. وقرأ "سورة مريم" لأول مرة في إذاعة البي بي سي البريطانية التي أُعجبت صوته. 

اقرأ/ي أيضًا: لماذا لم يصلح القرآن حياتنا؟

يقول لويس جريس المفكر والناقد الأدبي المصري إنه عندما وفد إلى القاهرة وجد كثيرًا من الأقباط يسيرون وراء الشيخ محمد رفعت في كل مكان يرتل فيه إعجابًا بصوته.

كان يقرأ في المساحات المفتوحة، وهو اختبار شديد الإرهاق للصوت، لكنه كان يرتل في قاعة جامع قد تتسع إلى 3000 شخص. وكان معروفًا عنه عشقه لمقام الرست، وله في مقام النهاوند قراءات عجيبة، وبعد كبر السن أصبحت "مساحة القرار" في صوته أكثر ثباتًا وتميزًا.

درس محمد رفعت القرآن في كُتاب الشيخ فاضل باشا، ثم درس المقامات الموسيقية على أيدي شيوخ عصره. كان لوفاة والده وهو لا يزال صبيًا في التاسعة أثر كبير، حيث أصبح الطفل الكفيف مطالبًا بأن يكون مسؤولًا عن أسرته. يُقال إنه كان يقرأ القرآن فينقل الناس إلى عالمه، فهو عالم مظلم لأن نور العين أحيانًا يشتت الذهن، فأنت إذا أردت أن تركز في أمر ما أغلقت عينيك وأطلقت العنان لخيالك.

عام 1943، أصيب الشيخ بسرطان في حنجرته، وفارق الحياة عام 1950. 

2) محمد صديق المنشاوي

تعلّم محمد صديق المنشاوي قراءة القرآن على يد والده الشيخ الجليل، ولاحقًا أسس بصوته مدرسة أوجدت مريدين ومقلدين حتى اليوم، هي المدرسة المنشاوية. كان عالمًا في المقامات الموسيقية. يقول عنه الدكتور عاطف عبد الحميد، عميد كلية التربية الموسيقية: "النسيج اللحني للمنشاوي عريض، فقد يؤدي جملة لحنية طولها دقيقة أو دقيقتين على أربع درجات صوتية، وهو شيء غير تقليدي عند بقية القراء"، ويضيف: "كان بارعًا في الزخرف والصعود والهبوط والانتقال السريع مثل تلاوته في "سورة إبراهيم"

في تلاوته لـ"سورة الطارق" كان يُعطي الكلمات مساحات اتفاقًا مع ما تعنيه، إذ يعطي كلمة "السماء" تعادل اتساعها الواقعي. وأروع تسجيلات المنشاوي هي تسجيلاته الخارجية في المساجد وحوله مريدوه، أما التسجيلات الداخلية في الاستوديوهات فكان يحافظ على تقليديته فيها، لكن نقاء الصوت وتفرده ومساحته كانت تظهر أيضًا في الأذان، حين يختار مقام الرست عاليًا بليغًا.

أصيب المنشاوي في أواخر حياته بدوالي المريء، ورحل عن عالمنا عام 1969.

3) عبد الباسط عبد الصمد: حديث المدينة 

وُلد الشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد في قرية صغيرة في صعيد مصر، تسمى بقرية المراعزة، بالقرب من مركز الحضر المسمى بمدينة أرمنت، التي بات الناس في الصعيد مصر يسمونها "بلد الشيخ عبد الباسط".

كانت والدة عبد الباسط عبد الصمد تبخر المذياع، عند قراءته، اتقاء الحسد

في صغره، كان يقطع مسافة ثلاثة كيلومترات ليستمع للشيخ محمد رفعت من مذياع في مقهى. جاءت شهرته الحقيقية في مولد السيدة زينب، حيث كانت المرة الأولى التي يرتل فيها أمام حشد كبير من الناس، وحالفه التوفيق وقتها بشكل لا مثيل له. هو صاحب النداء الشهير "الصلاة والسلام عليك"، وهي الجملة التي يعرف المصريون في رمضان أنها تسبق موعد صلاة الفجر أو أذان المغرب.

اقرأ/ي أيضًا: سجع الكهان.. 600 عام من نزول القرآن

التحق عبد الباسط بالإذاعة المصرية عام 1951، وكان وقتها شابًا في العشرين من عمره، وكانت أولى تسجيلاته حول الوطن العربي في جدة، ثم حدّدت له الإذاعة يوم السبت من كل أسبوع في الثامنة مساء، وهو الوقت الذي كانت مصر كلها تستمع إليه، حتى قيل إن أم الشيخ في أرمنت كانت تبخر المذياع اتقاء الحسد.

دار الشيخ عبد الباسط العالم كله، حيث قرأ القرآن في الولايات المتحدة، وأمريكا اللاتينية، وكان أول قارئ يقرأ القرآن في جنوب أفريقيا وكندا، كما قرأ في المسجد الأقصى، وفي المسجد الأموي في دمشق، وكذلك في حلب وطرطوس، وبيروت وعمان.

يقول عنه عبد الله الكردي، أستاذ الموسيقى العربية في جامعة حلوان بالقاهرة: "عبد الباسط يتمتع بصوت مساحته اثنين أوكتاف ونصف، والأوكتاف في لغة الموسيقى هو ثامن درجة، وهو مساحة صوتية صخمة، تمكنه من الانتقال في الجوابات بسهولة ويسر، لذلك كانت تلاوته في المحافل لا تقل عن ساعة ونصف! أسس نقابة للمقرئين، وتوفي عام 1982، وصلى عليه الناس في مشارق الأرض ومغاربها. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الله الصمد".. من نقوش أوغاريت إلى القرآن الكريم

الحداثة والقرآن.. تمرحل النصّ