22-ديسمبر-2015

لماذا لم يصلح القرآن حالنا؟(حازم بدر/أ.ف.ب)

لماذا لم ينجح القرآن وهو كتاب الله الخالق العليم في إصلاح أحوال المسلمين؟ ألا يفترض في أمة تنزل عليها كتاب إلهي يدعو إلى العدل والرحمة والإصلاح في الأرض أن تكون الأولى حضاريًا، أليس في تأخر هذه الأمة إدانة لمنطلقاتها الفكرية، وهل قيمة الدين والكتب السماوية إلا بالأثر التي تحدثه في الواقع؟

أليس في تأخر هذه الأمة إدانة لمنطلقاتها الفكرية، وهل قيمة الدين والكتب السماوية إلا بالأثر التي تحدثه في الواقع؟

تعتبر الحالة الحضارية المتأخرة للمسلمين المدخل الأمثل لرافضي الفكرة الدينية ليحاججوا بأن الدين أثبت فشله في إقامة علاقات إنسانية سوية وفي جعل العالم أكثر أمنًا وعدلًا وأخلاقًا، وما دام الدين لم ينجح في هذه المهمة فإن علينا أن ننبذه وراء ظهورنا وأن نعتبره ماضيًا تجاوزه قطار التطور الإنساني.

إن القرآن لم يمنع التجربة التاريخية للمسلمين من الانتكاس مبكرًا عبر تورطها في متاهة طويلة من الحروب وسفك الدماء والحكم الجبري وقتل المعارضين السياسيين بحجج الردة والزندقة وحياة الفساد والترف واسترقاق الجواري التي عاشها الحكام، فأين هذا الواقع من قول القرآن إنه جاء لإقامة العدل والرحمة في الأرض!

في مواجهة هذا السؤال الحرج يتخذ المسلمون موقفًا دفاعيًا فيحاولون تجميل واقعهم وتاريخهم والتنقيب عن عناصر القوة الأفضلية فيه، فتأتي إجابات من قبيل إن كل أمم الأرض قد خاضت تجارب تاريخيةً عمَّ فيها الظلم والفساد وإننا الأقل سوءًا من الآخرين أي أننا نحاول تنزيه أنفسنا بإظهار مساوئ الآخرين، أو إننا أقل أمم الأرض تعاطيًا للمسكرات وأكثرهم تلاحمًا أسريًا واجتماعيًا وهذا من تأثير القرآن فينا، لكن هذه الطريقة في الإجابة تبدو غير مثمرة فهي تتجاهل المنتج النهائي الذي يراه الجميع حول تأخر المسلمين حضاريًا، وهي غير مقنعة لمن يتجرد بقلبه وعقله، فهل يعقل أن قصارى ما حققه منهج إلهي محكم أنزله من لا تخفى عليه خافية هو بعض الأخلاق الفردية والاجتماعية القويمة أو أنه جعل مساوئنا أقل من مساوئ الآخرين؟ إن القرآن يقدم منهجًا إصلاحيًا شاملًا للحياة الإنسانية، فأين أثره البين في صياغة العلاقات الدولية اليوم؟

يلزمنا الإجابة على هذا السؤال الشائك من خلال إطار آخر: من قال إن القرآن تعهد بأن يصلح حياة المسلمين بطريقة أوتوماتيكية أو جبرية دون اعتبار لجهد المسلمين واختيارهم الحر كأمة لها تجربة تاريخية مثل كل الأمم تصيب في مواطن وتخفق في مواطن أخرى؟

القرآن طوال فترة تنزله يؤكد على أساس مهم يتمثل في أن أكثر الناس لا ينتفعون بالآيات البينات، وأن وظيفة الأنبياء والكتب هي البلاغ وحسب دون تعهد بحمل أتباع الشرائع والكتب على إصلاح أنفسهم بالإكراه: "وما على الرسول إلا البلاغ".

لا يقدم القرآن أي ضمانة بأن هذه الأمة أو غيرها ستسلك مسارًا تاريخيًا حتميًا واحدًا إنما ينبهنا إلى سيناريوهات متعددة بصيغة شرطية تتوقف على اختيار الإنسان، هناك مقدمات تؤدي إلى نتائج إما خيرًا أو شرًا، والفيصل في الوصول إلى أي من النتائج هو اختيار الأمم ذاتها.

لا يقدم القرآن أي ضمانة بأن هذه الأمة ستسلك مسارًا تاريخيًا حتميًا إنما ينبهنا إلى سيناريوهات متعددة بصيغة شرطية تتوقف على اختياراتنا

بالعكس، فإن من السهل ملاحظة الروح التشكيكية السائدة في القرآن تجاه قدرة الرسالات السماوية على إصلاح الواقع الإنساني: "وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون"، "فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ"، "وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا"، "وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَة فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ"، "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"، "قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ" ، وحين يتحدث القرآن عن تأثيره في نفوس المتلقين فإن حديثه يأتي بتعبير احتمالي لا بتعبير تأكيدي: "وكذلك أنزلناه قرآنًا عربيًا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرًا".. إن كلمة "لعلهم" التي تتكرر في القرآن كثيرًا تعرفنا بطبيعة الدور المنوط بالقرآن تحقيقه في الحياة وأنه دور مقتصر على الإرشاد والتذكير دون التعهد بصناعة المدينة الفاضلة إن لم يقرر البشر مساعدة أنفسهم بأنفسهم.

هذه الطبيعة الاحتمالية التي يحددها القرآن لدوره ليست موطن انتقاص من فاعليته، بل هي من باب تكريم الإنسان وتعزيز حرية اختياره وتحقيق استخلافه في الأرض، فالله تعالى لا يريد سوق الناس إلى الإيمان: "إنْ نَشَأْ نُنَزِّل عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاء آيَة فَظَلَّتْ أَعْنَاقهمْ لَهَا خَاضِعِين"، إنما يريد من هذا الإنسان أن يقرر الإيمان في لحظة اختيار حر لا يشعر فيها أن هناك أي قيود تدفعه لاختيار مسار محدد دون غيره، ولو لم يكن هذا الإنسان يتمتع بالحرية الكاملة في تقرير مصيره في هذه الحياة لما كان هناك معنىً للحساب، أما وقد حمل هذا الكائن الأمانة وامتلك الأدوات التي تؤهله لصياغة التاريخ بالشكل الذي يرتئيه فإن هذا التاريخ سيتشكل وفق البذور التي يغرسها الإنسان، فإن زرع بذور السلام والعدل جنى ثمرة الأمن والرخاء، وإن زرع بذور الحرب والإفساد جنى الدمار والعذاب الأليم.

سألني صديق ملحد ذات مرة: لماذا لا يوقف الله الحروب؟ قلت له: أرأيت لو اجتمعت الأمم وقررت إيقاف الحروب وترسيخ السلام بينها، هل كان الله سيمنعهم من ذلك؟ إن الله قد أعطانا حرية الاختيار الكاملة، وما دمنا أحرارًا في تقرير مصيرنا الإنساني فلا معنى للسؤال عن دور الله أو الدين في أفعالنا التي نقدم عليها بكامل وعينا.

ما يقوم به الدين هو أنه يبصرنا بالقوانين الروحية والأخلاقية التي من شأنها أن تجعل حياتنا أهدى وأقسط، فإذا التزمنا بهذه القوانين وفق شروطها الصحيحة كانت عاقبة أمرنا رشدًا، وإن كانت الأخرى كانت عاقبة أمرنا خسرًا، لكن الخلل لن يكون في القانون ذاته بل في جهل البشر بالكيفية الصحيحة التي يعمل بها.

إن مشكلات الإفساد في الأرض وسفك الدماء والظلم والاستكبار هي مشكلات البشر وليس الدين، ولو لم يؤمن إنسان واحد بالقرآن ويمتثل لهداه لما انتقص هذا من قدر القرآن شيئًا، فالقرآن عظيم بمبادئه الأخلاقية وليس بموقف البشر منه، والجهل بالقانون لا يلغي فاعليته، وقد عاش البشر آلاف السنين جاهلين بقانون الجاذبية، فلم يكن جهلهم نافيًا لحقيقة وجود القانون، إنما حرمهم هذا الجهل من تحسين حياتهم وفقًا لشروط القانون الأولية.

إن فاعلية القرآن كامنة تعتمد استثارتها على موقف المسلمين كأمة من الأمم الإنسانية، ومجرد وجود مبادئ العدل والقسط والرحمة والدعوة بالموعظة الحسنة في القرآن لا يعني أن واقع المسلمين سيتحول بطريقة آلية إلى مدينة فاضلة، فالله تعالى هدى الإنسان النجدين، وثمة عوامل بشرية ثقافية وسياسية تتداخل في صياغة تجربة المسلمين، وحين سفك المسلمون دماء بعضهم البعض في صفين فقد كان قتالهم امتدادًا لثقافة القبيلة ولم يكن مستوحىً من هداية القرآن.

الكتب السماوية هي وسائل مساعدة للناس ليقوموا بالقسط لكن الهدف هو إقامة القسط وليس إبراز دور القرآن تحديدًا في هذه المهمة، لذلك حين نرى بعض المجتمعات قد نجحت في تحقيق هذه الغايات الأخلاقية من خلال تجربتها التاريخية الخاصة بالتجربة والخطأ وليس عن طريق الدين فإن ما وصلت إليه هذه المجتمعات هو مقصد قرآني مرحب به.

إن القرآن يدعو الناس إلى أن يجتمعوا على كلمة سواء وألا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، وهذا هدف سياسي يتحقق خارج القرآن وليس لاهوتيًا، فإذا حقق مجتمع من المجتمعات المساواة والعدل فقد حقق الهدف الأسمى للدين وإن كان جاهلًا باسم الدين، فالدين مضامين أخلاقية وروحية في المقام الأول. يخبرنا القرآن ذاته بأن هناك من سيزيدهم هذا الكتاب طغيانًا وخسارًا: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارًا"، وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين.

اقرأ/ي أيضًا:

الدين والعائلة.. الولد (ليس) سرّ أبيه دائمًا

التعليم الديني في فرنسا.. فصل "الإسلام" عن الدولة؟

هل توجد طبقة رجال دين في الإسلام؟!