05-سبتمبر-2019

تشارلز نصار/ لبنان

مقدمة

"بيروت الغبار" اسمٌ يصحّ إطلاقه على بيروت ما قبل الحرب، بيروت الستينات وأوائل السبعينات من القرن الفائت التي كانت تستقطب الشعر والشعراء العرب من المحيط إلى الخليج، فلا يمكنُ للشاعر وقتها أن يُعرف اسمه وشعره إلّا من يتخذ من هذه المدينة محطة مكوث -دائمة أم مؤقتة- ومنطلقًا لمسيرته، فالشعر بطبيعته هو نتيجة لتلاقح ثقافي حياتي، وكانت بيروت بيئته الخصبة وقتها.

أتت الحرب ورحلت، تلك قصة أخرى، لكن فترة التسعينات كان لها كلمتها، بحيث أنّ بيروت التي تغنى بها الشعراء وامتلأت جدراننا بصورٍ فوتوغرافية لها اختفت عن وجه الأرض وحلّت محلها مدينة جديدة لا تشبه سابقتها كليًا، مدينة حديثة تشبه مدن غرب أوروبا المستحدثة: توزع ديمغرافي جديد للسكان، مبانٍ ومتاجر فخمةٍ في الوسط التجاري. مدينةٌ ماديّة تشبه هؤلاء من حكم البلاد في فترة السلم، لا تشبه أهلها.

هكذا ولد جيلٌ جديد لا يعرف بيروت الماضي إلا صورًا محفوظة لدى هذا وذاك، جيلٌ كان شاهدًا على ثورة العولمة الكبرى التي كانت فترة التسعينات وبداية الألفية الثالثة بداية مخاضاتها، ولا زالت مستمرّة حتى يومنا هذا. هذا التبدّل الكونيّ الكبير عايشه هذا الجيل الجديد (جيل ما بعد الحرب) ووجده ممتدًا حتى أبسط الأمور، مثلًا هؤلاء كانت طفولتهم كرة قدم وملاعب موحلة، أو بنادق خرز، أو "أتاري" بأحسن الأحوال، غير أنّه اليوم يرى كيف أنّ طفولته كانت مختلفة كليًّا عن أطفال اليوم (آيباد، ألعاب فيديو، بلاي ستايشن 5...). هذه هي أحوال الأجيال السابقة ونظرتها للأجيال اللاحقة.

كان الشعرُ له حصّة من هذا التغيّر الهائل، لننسَ قليلًا الشعراء الذين عايشوا فترة الحرب والسلم سويّة، لنأتِ إلى الشعراء الذين ولدوا خلال هذه الفترة أو عاشوا طفولتهم فيها.

قلنا إنّ العولمة كان لها تأثيرها على كلّ المجالات، أما تأثيرها على الشعر فسنتطرّق للآتي:

لم يعد الشاعر بحاجة للاستقرار في بيروت ليعرف الأوساط الثقافية على شعره، بل لا داعي لزيارتها أصلًا، فكرة تعرّف الوسط الثقافي على شاعرٍ ما باتت قائمة على البريد الإلكتروني، لاحقًا على وسائل التواصل الاجتماعي التي عرّفت الشعراء على بعضهم البعض وقرّبت المسافة بينهم. بذلك فقدت بيروت خاصيتها الشهيرة أنّها حاضرة ثقافية مركزية في العالم العربي لصالح اللامركزية الثقافية التي تعيش اليوم أزهى عصورها.

كما أنّ هناك سببًا آخر له تأثير مباشر على الجيل الشعري المولود في ثمانينات القرن الماضي وما بعد، وهو ديمغرافية توزّع المؤسسات التعليمية وطريقة انتشارها وأساليبها ومناهجها التعليمية.

خلال فترة الحرب كانت المؤسسات التعليمية الحكومية (مدارس المعارف كما يحلو للبعض تسميتها) بؤرةً كبيرة للحركات الطلابية الحزبية المختلفة باختلاف المناطق والطوائف والأحزاب المتواجدة في منطقة اكس حيث توجد مؤسسة اكس، فلطالما سمعنا ممن عايشوا الحرب عن المظاهرات والتحركات الطلابية والاشتباكات بين الطلاب التي كانت تخرج من المدارس والجامعات بذرائع سياسية مختلفة؛ ولما وضعت الحرب أوزارها كان الأهالي قد فقدوا ثقتهم بهذه المؤسسات، فاتجهوا نحو المؤسسات الخاصة التي كانت فترة الثمانينات فترة تأسسها تحت مسمّيات مناطقية حزبية طائفية، ونمت بصورة متسارعة فترة التسعينات مع توجه ذوي الأمر بإلحاق أبنائهم بها بذريعة أنّ المؤسسات الحكومية تراجع دورها الجدي وباتت ضعيفة أمام الخاصة منها التي كان تمويلها آتٍ من أطراف الحكم في البلاد، هؤلاء من كانوا يومًا قادة محاور الحرب.

يمكن تقسيم انتشار هذه المؤسسات كالتالي (في كلّ قسمٍ شرح لأساليب التعليم والقراءة الشعرية في المدارس):

  1. البيئة الجنوبية البقاعية الشمالية:

تزعمت هذه البيئة فكرة المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي فترة الثمانينات من القرن الماضي بحكم أنّها كانت أراضٍ محتلة، هذه المقاومة التي بدأت مع الأحزاب اليسارية الماركسية وانتهت مع الأحزاب الدينية المذهبية التي كان لها صدى كبير مقارنة بأخواتها العلمانية، ولهذه الأحزاب مدارسها التي انتشرت في تلك المناطق وتسللت أفكارها داخل الجامعة الحكومية، أفكارٌ قامت على تمجيد المقاومة والأرض وشجر الزيتون والبطولات، كذلك أفكار تقديس المناسبات الدينية (عاشوراء مثلًا) بدرجةٍ ثانية، هذه الأفكار كانت قد تبنّت شعريًا شعراء محلّيين عاشوا هذه الملاحم وكتبوا عنها القصائد المنبرية الكلاسيكية التي من شأن موسيقاها وخطابيّتها أن تلهب عزائم الناس أولئك الذين يستطيبون سماعها خلال مهرجانات شعبية محليّة تحتفي بشهدائهم وأبطالهم وملاحمهم البطولية على مرّ التاريخ.

  1. البيئة الجبلية البقاعية الغربية:

تنظرُ هذه البيئة إلى نفسها على أنّها لبنانية أصيلة لها خصائص خاصة جدًا بها، تاريخيًا نلحظُ أن هذه البيئة كانت خصبة لحركات القومية اللبنانية اليمينية وأفكار الاستقلال التام للبنان عن محيطه العربي. هذه البيئة عرفت منذ نهاية الحرب نوعًا من الطفرة المادّية والازدهار الاقتصادي والاجتماعي بفعل اغتراب العديد من أبنائها، غير أنّ هناك اتجاهٌ من قبل أبناء هذه البيئة للمحافظة على التراث الريفي الخاص بهم. من هنا نلحظ أنّ الأفكار المنتشرة في هذه المناطق كانت تقديس الجبال والتاريخ الموغل في القدم لأجداد هؤلاء، كذلك التغني بالطبيعة وسحر القرية وتراثها ومرارات الغربة عنها. أما شعريًا فخصوصيّة هذه المنطقة هي قيام شعريتها على ألوان الزجل التقليدي ومبارياته الدائرة من قريةٍ إلى قرية، إضافةً للمحكية الحديثة (لغتهم الخاصة كما يسمونها) التي بدأت مع سعيد عقل وميشال طراد وموريس عواد ومن ثمّ عرفت عدة تنقلات حتى وصلت لهذا الجيل تحديدًا عبر مؤسسات تعليمية وجدت لهذا الغرض، بل واعتنت بمؤلفات للبنانيين ربّما قيمتهم ليست كقيمة الذين يتمّ تجاهلهم من قبلها. كلّ هذا لتبرهن هذه البيئة أنّ خصائصها ليست فقط مستقلّة عن البيئة العربية المشتركة المحيطة، بل أيضًا عن باقي البيئات اللبنانية نفسها.

  1. البيئة الشمالية العكارية:

وهي أفقر هذه البيئات الثلاث وأكثرها بؤسًا ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا أيضًا، فأبناؤها رأوا أن الحرب كان لها تأثير كبير عليهم رغم أنّهم كانوا الطرف الأقل مشاركةً فيها نسبيًا، فلمّا وضعت أوزارها ألفى هؤلاء أنفسهم مهمّشين ومحرومين من قبل السلطات الحاكمة وكأنّ مناطقهم بلاد قائمة بذاتها وليست جزءًا من الدولة. أمّا ثقافيًا وتربويًا فكانت هذه البيئة قد سجّلت أدنى نسبة للمتعلمين في لبنان، فمدارسها الحكومية تعاني من التسرب الدراسي والإهمال (شأنها شأن باقي شقيقاتها)، ومدارسها الخاصة بمعظمها مبنيّة على الفكر الإسلامي. أما الشعرية فلم تحضر بقوّة فيها بحكم انشغال أبنائها بلقمة العيش، والاهتمام بالشعر كان مقتصرًا على بعض المدارس الخاصة التي تتلمذ طلابها على التراث العربي الخطابي الكلاسيكي القديم، بذلك كانت النخبة التي تكتب الشعر قليلة وتقليدية بحتة، فنادرًا ما نسمع بنشاطٍ شعري ثقافي في هذه البيئة، وإن قامت فكما قلنا، ضمن نطاقاتٍ محدودة.

بالرغم من التباينات الحادة بين هذه البيئات الثلاث فثمة أمران اثنان متفق عليهما: السطوة المحلّية الضيقة، والتقليدية الكلاسيكية بمختلف أشكالها. هكذا نشأ فيها جيلٌ شعريّ محتكمٌ لهاتين السطوتين، وبما أن المناهج التعليمية في المؤسسات الحكومية لا تقلّ سوءًا عن مثيلاتها في الخاصة كان لهذه السطوة أن تتسع وتمتد، فبات الشاعر مثلًا لا يحقّ له أن يقول عن نفسه شاعرًا دون أن يعترف به أحد المتحكمين بهذه السطوات، أكان أستاذًا في المدرسة أم شاعرًا محليًا أم مؤسسة ثقافية أم غير ذلك، كما أنّ الأفق الضيق لهذا الجيل يجعلك تشعر أنّه يندر وجود شاعرٍ قادرٍ على اختراق كافة البيئات المجاورة، اليوم وبالرغم أنّ وسائل التواصل الاجتماعي ساعدت على توسيع دائرة العلاقات بين هؤلاء الشعراء، إلاّ أن الخصائص التي يتمتعون بها لا زالت موجودة.

رغم كلّ ما ذكر فثمّة ما يشذّ عن هذه القواعد الثابتة، ثمّة شعراء هم من هذه الأجيال الجديدة تحديدًا، يميزهم عن غيرهم أنّهم وبالرغم من تخرجهم من هذه البيئات ومؤسساتها التعليمية إلا أنّهم رفضوا أن تبقى وصية على إبداعاتهم الشخصية، ساعدتهم عدّة أمورٍ على فهم حقيقة الشعر وبحثوا عنها، منها أن بعض هؤلاء يتقنون لغة أجنبية ويقرؤون بها، وبعضهم استغل وسائل التواصل على أكمل وجه وعرفته على أجيال الرواد من الشعراء، وبعضهم ألفى نفسه يبحثُ في طيات الدراسات الشعرية ليجد نفسه تحت ظلّ وارف للحداثة الشعرية وكيف تطورت وتبدلت عبر العصور... المهم أنّهم هم الشعراء الذين يتركون يومًا بعد يومٍ انطباعًا أنّهم أصحاب صوتٍ خاصٍ قادرٍ على الخروج من ضيق البيئة المحلية، وأنّ بيروت التي أنجبت بول شاوول، وعباس بيضون، وبسام حجار، وعقل العويط، وعبده وازن، وجاد الحاج، وعيسى مخلوف، وفوزي يمين، ووديع سعادة وغيرهم.. لا زالت قادرة على إنجاب الشعراء، فلم تتوقف الشعرية اللبنانية عند هؤلاء المذكورين، بل لا تزال مستمرة، ما يلزم فقط هو إعطاء هذه التجارب الجديدة حقها فقط لإيصال أصواتها لباقي الثقافات والبيئات.

تمّ اختيار 12 شاعرة وشاعرًا من مناطق وبيئات مختلفة، تفتحت عيونهم بداية التسعينات من القرن الماضي، أو ولدوا خلال هذه الفترة، لم نشأ التعريف عنهم بل تركنا قصائدهم بطاقاتهم التعريفية، وضعناهم دون ترتيب محدد، اخترنا منهم، واخترنا لهم قصائد منشورة وأعدنا نشرها.


1

طالب شحادة: قصيدتان

 

لست مشوّهًا إلى هذا الحدّ

الغابة تتعرّى برأسي،

والطيور تنظّف مناقيرها بقلبي وتطير 

بتروّ تعاطيت زهرًا إسفلتيًّا وحنوت على الطريق الطويلة

أيتها الأفعى المسالمةُ/ الوردةُ أيتها الشظية العطرة

طفلًا حبوت خلف ثدي الحياة وصغرت حين أرضعتني

أنا ابنك العاقّ أبدًا أيتها الأم الخائنة أبدًا

أيتها الحياة

*

 

كتبي أيتها التوابيت

يا رسائل الفاكس المحنطة داخل الورق عبر الزمن

إني أخلف شيئًا مني يموت داخل كل منك إلى أن أنتهي تمامًا

أيتها الكتب أقضي أحيانًا ساعات وأنا أقرأ عناوينك ومؤلفيك فقط،

ألا تصلحين أرشيفًا للوفيات والأفكار الإكواريومية

أحسدك دائمًا على هذا المصير

أن تكون لحمًا وعظمًا

كتابًا موضوعًا على الرف

لا أنت حيّ ولا أنت ميت.

 

2

محمد شحادة: نصوص متعفنة عُثرَ عليها داخلَ مجرور

 

الساعةُ الثالثة والنصف مساء

كنتُ سأقلعُ عن التدخينِ

لكن لأسباب صحية دخنتُ أكثر

وأقلعت عن الطيران

وأقلعتُ عنِ الحياة.

 

عيني اليمنى التي تبدو مثلَ واجهة لبيعِ الملابسِ الداخلية

أما اليسرى فهي سمكة تنقي الحسكَ من الماء

 

كنتُ أحاولُ أن أبدو مثلَ طباخٍ

فسلقتُ بيضةً، ورميتها من المقلاةِ

ورميت المقلاة من البيضة

على كل حالٍ عادت هي والسقف.

 

هكذا أقضي الليلَ في محاولةٍ فاشلة

لأخرج من حياتي

او إذا أردت أن أشبه حياتي

إنها تشبه أهداف البلدية

التي لا تنفذ ولن

منذ قرن

 

الحرُّ شديد

لكنني ودودٌ جدًا مع الأشياءِ الجامدة

جلبتُ ورقة وصنعت منها "مهواية"

وأطفأت المروحة لأريحها

وهَوَّيتُ لها، إنها تشعرُ بالحرِّ أيضًا

تلك المسكينة بنت الزانية.

 

كنت أريدُ الاستحمام

لكنني أشفقتُ على الرشاش

فحممتهُ، ونظفتهُ

وضعتُ له الصابون من الزيتِ الأصلي

كي لا تصاب بشرته بالقشرة

وأبعدتهُ عن عينيه كي لا تَحمرَّ

فأورط بفركِ عيني أنا أيضًا

وجففتُ المنشفة

إذ أنني زدتُ عليها الماءَ لتنشف.

 

أشفقتُ على معجون الحلاقةِ

فحلقتُ له ذقنهُ إنه رجل عجوز جدًا

وحلقتُ للشفرةِ بالشعرة

إنها الأرملة الوحيدة

نظفتُ أسنان فرشاةِ الأسنانِ بالضرسِ

رششتُ جلدي على قنينةِ الكولونيا

لئلا تصابَ بالتحسس

لكن كل هذا محض هراء.

 

أظن أن

ورق اللعبِ هو اللاعب المجهول

الذي لا يخسر ولا يربح

فتتُ نفسي على الورقِ

ولعبنا حتى الصباح.

 

3

نور حطيط: مشاهدُ غير محفوظةٍ حقوقها

 

أسرابٌ من الطيورِ على الطرقاتِ

تخلّت عن سيرها المنتظمِ

والمباني في السماءِ

بلا لونٍ

قطّة تأكلُ من بقايا نفايات العابرين

المرمية في أسفلِ المشهد

تنظرُ اليّ،

أنا العالقة في مدى هذه المدينة

أذوبُ في ضجيجِ الخارج

العرباتُ، البائعون، أغاني فضل شاكر في محل الخضروات

الشبّان الجالسون في الشوارع بلا وجهة، بلا هدفٍ، الكثير من الطلقات،

أقول في سرّي وكأن أحدًا يراقبني من إحدى ملايين النوافذ التي تحيط بي: ماذا لو انتحرتني طلقةٌ عائدةٌ لاحد المبتهجين في مناسبة ما.. ربما سخيفة.. لا يهم!؟

 

كتاب الاستلاب على الطاولة

والحشرات حائمة فوقَ رأسي

يرنُّ هاتفي باستمرار:

"يا غريب.. لم أعد قادرة على كتابة القصائد

لم أعد قادرةً".

 

يا وحدتي الجالسة قربي على السرير المقابل لي

يا وحدتي الحزينة، الملتصقة بي والمريضة فيّ كأنتَ

 

في هذه المدينة ينتظرُ الليل ليله..

 

4

محمد سليمان (مطر): عد بعد خمسين عامًا

 

تمشي على الأرض ألف عام

تكاد تجزم بأنّها مُسطحة

لا متناهية

وإذ بها تفاجئك بتقوسها الحاد

وتسقط

 

كل شيء زائف.

 

حياتي ثانيتان متلاصقتان

تركل إحداهما الأخرى لتمضي

وأنا الْمُمدّد فوقهما

لا خيار لي.

 

أيها الوقت

اذهب

وعد بعد خمسين عامًا

أنا أنتظرك هنا

في الحقل أرعى المواشي

أحادث الدوري، والصفصاف

 

أزرع تبغًا، أدخنهُ

وعنبًا، أعصرهُ خمرًا

 

عد بعد خمسين عامًا

احملني على ظهرك

أو خُذ بيدي

واطرحني في حُفرتي

 

لا تقرأ عليَّ شيئًا

لا تخبرني عن نسائك

عن مبادئك، عن معتقداتك

عن كفرك، عن إيمانك

وعن كل حماقاتك.

 

فقط

اجلب كأسين من الخمر

ولفافتين من التبغ

تمدّد إلى جانبي

ولنرقد بسلام.

 

5

فيديل سبيتي: خريف الأسيد

 

أقرب إليك هذا الطقس

لكنك تحيله خريفًا

بنظرة قاسية

بألم محفور بين أظافرك ولحم الأصابع

ولا تلوي على شيء

تمضي بقبعتك السحرية تائهًا

مخفيًا ولا تسرق

مخفيًا ولا تقتل

مخفيًا ولا تداعب فتياتك المتأهبات

والطقس قريب منك

وتحيله خريفًا

رماديًا ومتساقطًا

باردًا وبلا مطر

نور جبهتك يخفت

وأنت التائه

يدك تتركها في الخزانة

وأنفك في السرير

وعيناك في زجاج النافذة

وهذا خريف أقرب اليك

لكنك تريده خريفًا كما يجب

منقوعًا بالأسيد ومرسومًا بالفحم

تتخلله بصقة بحار

ولا يرويك من هذا الضوء شعاع

ولا تؤنسك في هذه الضجة موسيقى

وترسم من النجوم لعبك البائدة

وتصنع من القمر أبًا ومن الشمس أمًا ومن الغيوم أخوات

حياتك ألبوم صور

وهذا فصل ينوء بثقل أزهاره

تهزّه لتطيرها نحو البرك

وتريده خريفًا خافتًا كشمسه

طريًا كأعشابه

لامعًا كنداه

أنت بقع حيوانات منوية مجموعة من الأسرّة.

 

6

زكي بيضون: فتات حر

 

لا شيء أنبل من سقف عال.

*

 

كل فكرة هي تحدّ، كل كلمة هي حلبة ملاكمة، إلا أن العبقرية الحقيقية تتجلى حينما نتجاهل ذلك ونبتسم، أن نلبس ابتسامة التماسيح بينما اللغة تتناطح على هوامشنا.

*

 

النافذة مفتوحة، الهواء حرّ في الدخول أو الذهاب.

*

 

للبركة موقف ما، مسكينة الأسماك العالقة في موقف البركة.

*

 

تبًا، الأرض صارت بحيرة دبقة. صدّقوني... من الحكمة ألا نثير غضب قنينة بيبسي.

*

 

السماء هي سؤال، الصمت هو الجواب.

*

 

الصمت هو أن نصمت، الصمت لا يقال، الصمت لا يفكر، الصمت ليس شيئًا، ليس موجودًا، الصمت هو الـ"ليس".

*

 

أحيانًا أكون خجولًا جدًا لدرجة أنني أخاف أن أنتهك هواءهم بنظراتي.

*

 

فقط لو أستطيع أن أسكت كل تلك النظرات

*

 

جميل فعلًا أن نتقاسم فكرة هذا العالم.

 

7

زينب عساف: أزرق

 

أنحدر نزولًا إليك،

تُغمض عينيك كي أمدّ نظرةً لامتناهية،

أطلقك أيها الحب،

يا عصفور الندم الأزرق.

خذ عظامي وافردها جناحين،

أيتها الوردة الصغيرة المغروسة فوق الرئة،

هل قلتَ أنتِ؟ هل صدقّتك؟

غيبوبة الوعي وسُكر الذنوب

هل قلتَ أنتِ؟ هل عانقتك؟

ضلعي مكسور بابتسامة

يدي أقصر من حرف علّة.

لا تعد لا تعد

ها أنا أهرب، أرتفع، أخبط رأسي بجدرانك

لن أسقط،

فارغة وخفيفة وعمياء تمامًا

لن أسقط،

حرّة كما ينبغي لامرأة وحيدة على الشاطئ.

 

8

باسل الأمين: الشعر سينما المرفوضين

 

رسبت مرّتين في امتحان السينما

لم أكن كفؤًا بما فيه الكفاية

يقولون بغير وجه حقّ

إني لست سينمائيًا كفايةً

كي أكون دايفيد لينش

ولست نازيًّا كفايةً

كي أكون هتلر، أعاود رسم العالم بالصواريخ

لو أنهم لم يرفضوا ذاك الشاب الطموح

الذي لا يتعدّى طوله 170 سم

ولم تتعدَّ ريشته ألوان العالم الخضراء

لو أن أحدًا في هذا العالم لم يتعرّض للرفض

لظلّ العالم أخضر مثل ملعب غولف

لكنّ الكرة البيضاء الصغيرة

التي تلفظها حفرة اللعب

مثلما يلفظ الحوت المحيط من ظهره

قرّرت أن تحرق فكرة العالم الأخضر

أن تحوّل العالم كلّه حفرة سوداء كبيرة

كي تبيت فيها آمنة

ولكن ماذا لو انصرف هتلر إلى الشِّعر

لكان أحرق العالم حقًّا

لظلّ على قيد الحياة

لكنه مجنون.

وها أنا الآن أكتب الشعر مثل المجنون

عاجزٌ عن اختراع صورة بغير الشِّعر

عاجزٌ أن أسقي البحيرة بغير إبريق الريّ

حملت المظلّة لأقدّمها قربانًا للسماء

حملت قفص الهرّة لأصطاد الخنزير

لكنّ العصفور الذي يحتمل العاصفة

يصطدم بالشجرة ويموت

الشِّعرُ عصفورٌ، قفصٌ، مظلّةٌ، إبريقٌ

نبتةٌ تلبس معطفًا

تموت جافة على الطريقة الإنجليزيّة

الشعر قاسٍ بجماله

يخترع أسبابًا لكل شيء

حتى الحزن

يصبح مثل تنورةٍ ترتديها صاحبتها في جنازة

قلبي ميّتٌ أمام جمال فخديها.

 

9

زهرة مروّة: خزانة

 

أفتح الخزانة وأجد أفكارًا كثيرة

لا ألبسها كلها أرتب بعضها

أؤجل بعضها الآخر لحفلات تستحقّ.

هناك أفكار مجنّحة وأفكار راسخة كالجدران

أفكار عارية وأفكار شبه عارية

ما من حجاب في الخزانة يفصل بيني وبين أفكاري

لكن ثمة رفات لأفكار شهيدة.

وهناك أفكار تحومّ تحويمًا

لا ألتقطها ولا تلتقطني

يفصل بيني وبينها الهواء.

 

10

عبير خليفة: مَرْثيّة.. سهلةُ الحزن

 

تنقصكِ حكاية

شبيهة بالتفاحة التي

صارت دليلنا

فلم نعد نخجل من التصاقنا الحاد بالأرض؛

حكاية تفسرين بها الخوف

دون الحاجة لحقيقة كاملة

فحين وقعنا ضحية زمانٍ ومكانٍ مائلين

قلنا:

الجاذبية تحفظ خطواتنا.

 

لكنّي اعتدت الشعور

احتضنته كذاتٍ تقاسمتُ معها

الشهيق والزفير

فكتبتُ مرثيّةً وكانت سهلة الحزن.

 

في أيّامٍ مجهولات

كنت لم أدمن الخوف بعد

وأبحثُ عن الحكاية ذات النهاية السعيدة

دون أن تخيفني فزاعات الحقول

المنتشرة كعراقيل

والتي أسقطت صديقًا لي

كان قد أمل طويلًا بأشياء لا توقعها الجاذبية

فأوقعها الخوف

فتوقفت وحينها

كنتُ قد تجاوزت الثلاثين.

 

السيئ فيما سبق

أنّي لم أبلغ الثلاثين بعد.

 

11

فادي العبد الله: مالنخوليا

 

1

كلٌّ امتلك

صوته الخاص

لكنّهم كافّة سيقولون

قولًا واحدًا.

 

2

صيّر صوته بشعًا

بهيميًّا جارحًا

غير بشري

ربّما ليقول إنّه أدرك

ما البشرية.

لكن القول أيضًا بشري.

 

3

ومضات الفرح تمرّ أحيانًا

ثمّة أعراس

وولادات

وشؤون أخرى.

ومضات الفرح تمرّ سريعًا

مقياسًا للعيش.

 

4

الغناء والرقص متعة

سوى ذلك

ما يهم؟

 

5

التاريخ ليس هنا

لكن

لا تطرق أبوابًا أخرى.

الحسن ليس هنا أيضًا

ولا أسف.

 

6

جاؤوا. الأصفر لونهم والألم.

لم تكن الشمس في عيونهم. دفعوني إلى الهاوية.

جسدٌ معلقٌ بين عدمين

أهبط. أهبط لا نهائيًا

وأستيقظ.

 

7

لا شيء يضاهي

هذه القيثارات

سوى جري الماء.

 

12

نسرين كمال: الطفولة

 

بأسنانها الحادة

تقرض الوقت الضائع

في البحث عن جدوى الكدمات

المختبئة

خلف ملامحها

التي تبدو عادية

 

هل يسير الدرب

إن سرنا

آو أنه في الوقوف قليلًا

ينقشع المسير أكثر

لعينين

تريان ما يتيسر

في طبقات الرؤيا؟

 

هل تلدنا الأوجاع

أم أننا نتمرغ

في زحام تفاصيلنا المشتتة

ثم نعلّق قلادة الاتهام

فوق صدر الحياة؟

 

لا أريدك أيهذا الموت

بعد كل هذا العقم الممزوج

بالثمار

بعد كل تلك الولادات

ونبض القلب المتقطّع

كأراجيح بين المعنى واللامعنى

 

لا أريدك أيهذا الموت

أن تبعثر أجسادي

دون آن أرتّبها

وأن تشرب نخبًا جديدًا

دون

أن

أخرج

من موتي

كإجابة

سرّية المعنى

ممتدة كصحراء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ثلاث شاعرات من الأردن: جريمة الشعر