05-يناير-2017

وسماء الآغا/ العراق

أن تولد امرأة في مجتمع مغلق كالمجتمع العراقي، القائم على الحرام والحلال والشرف وغيرها.. من الممارسات السلوكية الجوفاء، فهذه كارثة، أما أن تمارس الكتابة، وتحديدًا الشعر هذا يعني أنّك تتحدّى الكارثة. وإذا أضفنا إلى ذلك أن تعمل على تقديم صوت خاص بك يعي معنى الحداثة الشعرية، ويتمثّل قيمها، فهذا يدل على أنك قد انتصرت على الكارثة.

بعيدًا عن ضوضاء الأجيال الشعرية، وتصانيف النسوية، وما شابه ذلك؛ وقريبًا من الشعر والكتابة الصافية، يسير هذا الملف بــ"13" تجربة جديدة تسعى إلى خلق طابع مختلف عبر خصوصية كل تجربة على انفراد، وتشكيل رؤية عامة عن حال المرأة في العراق.

نساء يتشاركن في العزلة والانكسارت الشخصية والصمت، ضمن خراب يقوده الرجال، ويبنون ملامحه.. وفق هذا تؤثث كل شاعرة قاموسها الخاص، حضورها العاطل وغيابها القسري، ورغم ذلك لا يستفهمن عن جدوى الكتابة في ظل هذا الجحيم، وإنّما يقدمن الكتابة الشعرية كإجابة حرّة وواعية.


1. رؤى البصري

بعد أن يُغادرَ الحبّ..
كُلُّ شيء يُفضي إلى الموت.. 
كُلُّ شيء يُشبِه طلوعَ الصباحِ العاديّ 
كُلُّ شيء يشبهُ الموتَ في العراق إلاّ وجوهَ الشهداءِ،
فإنها تتركُ الكلامَ وتُمرِعُ جنـّة!

أدوزنُ أغنيتي على نغمةٍ تستغرقُ عُمرَ نخلة أباهي "آه" تتدحرجُ..
أزقزقُ حُزنَها لألِجَ حُزنًا أشدّ..
يَلفُّني كما ورقِ العَنبِ الحامض
وأهجسُ الحربَ، صَوتُها المبحوحُ مِثلَ رَتمٍ يمشي بلا مُبالاة..
يسيرُ، 
وجوقةُ الموتِ تعبرُ الصراطَ

وهذا الذي يمتدُ من آخرِ شهقةٍ لرُوحٍ ترتجفُ هلَعًا من اللفظِ يشبهُ الهزيمة.. لغةُ الموتِ كعواءِ الذئاب..
يعقرُ صوتُها القمرَ

ولا أعرفُ اسمَ الذي يمصُّ الموت 
ولا التَميمةَ التي تقتصُّ من طنينِ هذا الجرادِ الذي يلتهِمُ صَوتي 
أن صَوتي يَشتُمُ اللغةَ التي تستعيرُ اللونَ الأحمرَ 
حين تساوِمُ طائرَ الأرق
ويغادرني اليقين
ما الذي يدورُ خارجَ شريعةِ حمورابي وشريعةِ الشعر؟!
أضغاثٌ تُصحّحُ أخطاء الربّ ولا تنتصر.. 
ها نحنُ نتشاركُ المعنى.. نتشاركُ الموتَ..
نقتسِمُ اللونَ والموسيقى الذابلةَ
وننتصرُ بحضرةِ مَنْ نُحبّ
حين نجوبُ المعنى الذي يعترف بالبطولة
في العراق موت لا ينتكس 
وموتُ مُسالِمُ
يسيل منه الشعراء
الذي يَدُلـّني إلى سريري: رائحتُكَ التي ترتطِمُ بأشيائي مثل الفواكهِ الطازجة. 

وكأعمى.. 
أُلامِسُ رُوحي؛ فَأتعثّرُ برائحةِ النعناع التي تَضوعُ بعد أن يُغادرَ الحبّ
التـَوقُ طائرٌ يقفُ فوقَ رأسي؛
حين يبزُغُ وجهُكَ من بعيد

أخطأتُ -أنا الغريبةُ- الآنَ
أنا الصوتَ الذي يتقشّف فتهدلُ بعدهُ حماماتُ الغياب وأَكادُ أترنّح؛
لأنّ النهارَ في وطني يشرئب نحوَ بستانِ الله
ويتدحرج نحوَ ذكرى تحفظ أسماءَ القتَلةِ
وتنسى وجوهَ الأنبياء!

على السطحِ كان القمرُ على دينِ أهلِنا.. 

والشعرُ بديلُ العشقِ يلبثُ في وجنتَيهِ مثلَ أحجيةٍ تأبى الدوران.

2. دعاء المُلا

حين أشرع في الكتابة
أرجوك أن لا تنسل إلي كحلم نازح
خيّل له أني خيمة
أو تتضمنني كجرح
يقف على قمة خدي 
دعني أكتشف لذة أن أكتب لي
أن أكتبني بدونك 
أو على أقل حد 
دعني أستنشق رائحة القتلى
الذين يسقطون مني على الدوام 
دون شهادات وفاة، ولا شهادات شكر
ولا حتى وقفات حداد..
دعني أكتب
فقط لأشتري 1700 كفن أو يزيد 
غادرني الآن؛ لأسرع في شراء خثرة دم
تمكنني من فصل الدم عن الماء
دعني ارتحْ من حملك
أيها الوزر الذي أنقض ظهري
دعني أكتب بدونك
أيها الموت
ولا تكسر كل ما تبقى لي
من هذا الغرق - مجاذيفي
دعني لي،
لأتمكن من حمل جروحي بيدي 
بعد أن تنبت لي يد ثانية
غير تلك التي تعانقك الآن.

3. مريم الحسيني

سأبكي لا رغبةً في البكاء، ولا حاجة
سأبكي لا لموتِ والدتي، ولا لمقتلِ إخواني التسعة
سأبكي لا مِنْ أجلك
كلَّ ليلةٍ بدموعِ القديسيين الزائفة
وأنوح نُواح الثَكلى، وأئنُّ بجزعٍ
لِتسخر الريحُ مني، ولِتمتعض الأشجار
ولِتفترسني أنيابُ الساعةِ المتوقفةِ على الدقيقة الثالثة
ولِتعضّ، ولِتنهش، ولِتأكل
أنا الأمُ المسبوقةُ ميمها بلامٍ
وأنا الخوف
سأبكي مِن أجلِ الوحدةِ والعزلةِ والضيق
سأبكي للنّارِ المشتعلةِ وللرمادِ المُخلَّف وراءها
وللحائطِ المائلِ والولدِ العاق سأبكي
من أجلك يا ڤينوس
والثلاثمائة محاربٍ، المُدَمَون الميتون
واليتامى بأبويين، والثلاثة عشر كوكبًا وحيدًا
والربّ، عِلّة الوجود ومعلُوله سأبكي
والدمعةُ المُحتضرةُ بين الرمشِ والجفنِ، أكذوبة
والقصيدةُ الذابلةُ على لسانِ مراهقٍ بلا رأس
وسأبكي.

في الغرفة الصامتة

الصورةُ الوحيدةُ تبتسم بحزنٍ
والضوءُ يطرقُ بابَ الغرفة
صدى الغرفةِ الفارغةِ نائم
وعلى حافةِ النافذة مات عصفور.

يَتسلل الحزن مجددًا، من بين ثنايا الصورة
يتَوسد زاويةً معتِمةً ويغطُ في نومٍ عميق
لِيتركَ الذكرى باسمة كهمسِ الصحنِ الفارغ
كروحي... والألم.

المرضُ لم يَبرأ من حقيقتهِ
وأنا... تعبتُ من الكلام.

4. واجدة العلي

جَرِبْ
أن تدقَ مسمارًا
في الهواء
لتشجبَ عليه نواياكَ المبجلة؛
وحين ﻻ ينبتُ له ضلع
في السماء،
اطلقْ ضحكةً سادرة،
ومَرغْها باللامبالاة؛
تمادَ
في
قهقهاتِك؛
وأنتَ تنزلُ السلم؛
راقبْ
انفعال مراياك
وهي تعكسُ لثغةَ الاخضرار
في أركانِك؛
طأطئْ رأسَكَ للفراغ؛
حتمًا
سيلدغُك الفراغ
ﻻ عليك لطيفٌ هو الفراغ؛
خذْ نفسًا عميقًا
والتقطْ للهواء صورة
علقّْها على صدرِ اندهاشك
وقلْ للخطايا المحضة
ﻻ تنعتْينا بالشذوذ
فنحنْ زفيرُ الحروبِ ليسَ إلا!

5. بان علي

تتملّكني رغبةٌ عارمةٌ في الحديثِ بصمتٍ مطوّلٍ عنِ الشيءِ واللا شيءِ، عنِ العدمِ والوجودِ وما بينهما، كأنْ أروي لكمْ كيفَ تسيرُ الحياةُ بسرعةٍ خارقةٍ بالسرعةِ ذاتِها التي ترتشفونَ فيها قنّينةَ الكوكا كولا، أوْ تُحاولونَ عبورَ شارعٍ مكتظٍّ بالسيّاراتِ المارّةِ!

نحنُ لا ندركُ عبثيّةَ هذهِ الحياةِ إلّا بعدّ انتهاءِ الوقتِ اللّازم للعبورِ، مُصابون باليأسِ ومداومونَ على الأملِ، نجرُّ رفاتَ قلوبِنا المُنهكةِ كما تجرُّ القططُ السوداءُ صغارَها مِنَ الشوارعِ، نأسفُ كثيرًا على ضياعِنا.. حُطامنا، وأشياء كثيرة كانَ الأجدرُ بها أنْ تأتيَ بأوقاتٍ أفضلَ ممّا عليهِ الآنَ.

لُعبةُ الوقتِ هذهِ مُخيفةٌ جدًّا، تباغتُنا خِلسةً دونَ إشارةٍ خضراءَ أو صفّارةِ إنذارٍ تُهيّئُ لنا مسلكًا للعبورِ!

6. سونيتا خليل

صوتُكَ ينبِضُ في قلبيَّ
وأيُّ نبضٍ هذا...؟؟
ساعةٌ تدقُّ على كلِّ مسافةٍ ذكرى
على كُلِّ بابٍ،على كُلِّ تصافحٍ 
فَوْقَ كُلُّ الأرصفةِ وحول كُلِّ الأسيجة
احجزْ لي دقيقةً مِنْهَا
احجزْ لي لقاءً معه
اجعلْ ساعتكَ تتوقفْ
وهناكَ في ذلك التوقف 
احجز لي مسافةً أركض فيها نحوكْ
احجز قبلًا وأحضانًا كثيرة.

في ذلك التوقف 
ضعْ تشابكًا للأصابع
عِناقًا للورود وانحناءً لرحيل الشمس
أصواتُ أطفالٍ ما زالوا يلعبونَ في الشارع
بعضُ دخانٍ من تبغٍ عتيقٍ
لعجوزٍ أوقفهُ الشيب
لامرأةٍ كساها دُخان التنور 
فصارت تلبس رائحة الخبزِ والدخان
وعائلةٌ تأكلُ كُلَّ الانتظار

قطعةُ جبل أو جسر نصرخُ عَلَيْهِ معًا
لِنسمعَ أصواتنا التي اشتقنا لها

ضعْ رائحة طهي أُمي
وركضي منتصفَ النهار
متعبة أرمي كتبي المدرسية
أحذيتي السوداء وأربطةُ شعري البيضاء
ليمتلئ المكان بالفوضى
وتتبعْ فوضاي المنتشرة
من عتبة الباب وصولًا للمائدة
تراني أكلتُ كلَّ الطعام بأنفي وعينيَ
قبل أن أفتحَ فمي

ضع توبيخ أخي الشديد
لأَنِّي نسيتُ أن أكوي قميصه 

فلتكن متوقفةً لِنضع الكثير في هذا التوقف
مشاركة ثياب إخوتي وشِجاراتنا الكثيرة
دفءُ حضنِ أُمي وضربُها المؤلم
قسوتُها الكثيرة وحُبها الكبير
وجهها العابس ويدا أبي الفارِغتان
صوتُها الكثير وصمتُ أبي الهائل

مُغادرتي لعائلتي الأخرى
هروبي إليها.. ألعابي
أينَ رَحلوا؟ 
ألم أعِش بينهم كثيرًا
كيف رميتهم بعدَ أن كبِرت؟
ولماذا؟؟

توقفْ لا تُعد تشغيلها 
يجب أن أوبِخَ نفسي كثيرًا في هذا التوقف
لماذا كسرتُ قلادة أختي في الخفاء
ورميت بقاياها؟ 
لماذا شكوتُ لأمي عن أخي فقط لتضرِبه؟

لماذا كرهتُ أُمي حينَ منعتني من مُحادثةِ
الصبيان الغرباء؟
لأمضي في مستقبلٍ وأُعيدَ النظرَ
لماضٍ يخلو من تلك الأخطاء

فأرسمُ ابتسامتي العريضة 
على يدها اليمنى وجبينها

لماذا كرهت أبي حين قال لي:
أنت سمينة،
فأمضي وأنظرَ من بعيد لذلك الكره
وأكره كرهي
وأحبَّ ثقتي الجديدة وأحضنَ إصراري كل يوم
فأفتحُ ألبوم صوري
لتعلو ضحكتي على شكلي القديم
وأحرصَ على التقاط المزيد الجديد

لماذا كرهتُ صديقتي حينَ بَدَتْ أجملَ مني
لماذا؟؟
لماذا كرهتُ كُلَّ الذي كانَ يصنعني؟
كرهتُ كل الحقائق

ولكن لَنْ أسأل نفسي لماذا كرهتك
حين بخلتَ عليَّ حتى بهذا التوقفِ
لِتُعيدَ تشغيل صوتك، ساعتك
فيجرفك اليوم بعيدًا 
لِتسقط من ذلك المرتفع الشاهقِ
الذي كان يعلو سحابَ محبَتي
وتَصطَدِمَ بذلك الهروبَ
فتتناثرُ أشلاءُ قصيدتك التي كانتْ
طوالَ الوقت مختبئة على معصَمك في تلك الساعة
فأُغني تناثُرها حُبًا ثبُتَ مكانه كنجمٍ بعيدِ.

اقرأ/ي أيضًا:

تاءٌ يتراقصُ على بياضٍ

أعراس عابرة