24-يوليو-2018

غراس وبورديو (تصميم ألترا صوت)

ننقل إليكم حوارًا شيّقًا دار بين عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو والروائي والشاعر الألماني غونتر غراس. الحوار ترجمة للنص الذي نشرته مجلة The Nation، الصادرة في نيويورك 3 تموز/ يوليو 2000.

لطالما وقع دور المثقف العام ومسؤولياته الأخلاقية إن وجدت، بين مطرقة الشهرة وسندان التهميش. في الحوار الذي نشر جزئيًا في جريدة Le Monde الفرنسية ومجلة Die Zeit الأسبوعية الألمانية، ناقش بيير بورديو وغراس دور المثقفين في المجتمع، والمنهجيات الأسلوبية الشائعة في المجتمع والأدب، وكذلك الاقتصاد النيوليبرالي والنظام العالمي الجديد ومواضيع أخرى. فيما يلي جزء مقتبس من الحوار، ترجمه عن الفرنسية إلى الإنجليزية ديبورا تريسمان.

بورديو الذي عمل أستاذًا للفلسفة في الكوليج دي فرانس هو مؤسس مجلة "وقائع بحوث العلوم الاجتماعية" عام 1975، ومؤلف كتب: نبل الدولة (1996)، وقواعد الفن (1996)، عن التلفاز (1998)، بؤس العالم (1999)، وتأملات باسكالية (2000). أما غراس الذي تنحدر أصوله إلى مدينة دانزيغ الحرة (تسمى الآن غدانسك) فيعرف نفسه بأنه "كاتب مواطن". فاز بجائزة نوبل في الأدب عام 1999. من بين أعماله: طبل الصفيح (1959)، من مذكرات حلزون (1972)، الجرذ (1987)، سنوات الكلاب (1987)، المتخبط (1989) ومئويتي (1999).


بورديو:

تحدثت في مكان ما عن "التقليد الأوروبي أو الألماني" والذي هو أيضًا بالمناسبة تقليد فرنسي عن "كيف تفتح فمك الكبير". لقد سعدت بحصولك على جائزة نوبل، وسعدت أيضًا بأنك لم تتحول بعد تلقيك للجائزة وما زلت ترى في نفسك الحاجة لـ"فتح فمك الكبير". آمل أن نستطيع فتح أفواهنا الكبيرة معًا.

غونتر غراس: نحن لا نتحدث عن قمة المجتمع؛ لا نتحدث عن تاريخ الفاتحين، بل وتمسكًا منا بروح مهنتنا، نقف موقفنا الشهير في صف الخاسرين

غراس:

من النادر أن يلتقي عالم اجتماع وكاتب على منصة ألمانية. في بلدي عادة ما يجتمع الفلاسفة في ركن الغرفة وعلماء الاجتماع في الركن الآخر، بينما يجلس الكتاب الذين يعاملون بعضهم البعض بازدراء في الجزء الخلفي. يعد مثل هذا التواصل الذي نخوضه الآن استثناء للقاعدة. عندما أفكر في كتابك "بؤس العالم" وآخر كتبي "مئويتي"، أرى بأن عاملًا مشتركًا يجمع بين أعمالنا: نحن نحاول إعادة سرد التاريخ كما يشاهد من الأسفل.

اقرأ/ي أيضًا: رسائل إدوارد سعيد إلى صادق جلال العظم

نحن لا نتحدث عن قمة المجتمع؛ لا نتحدث عن تاريخ الفاتحين، بل وتمسكًا منا بروح مهنتنا، نقف موقفنا الشهير في صف الخاسرين. أولئك المهمشون والمنفيون من المجتمع. في كتاب "بؤس العالم"، تمكنت أنت وأولئك الذين شاركوا في الكتابة معك من وضع فردانيتكم جانبًا وبنيتم عملكم على التفاهم الكامل، دون أن تدّعوا دائمًا أنكم أكثر علمًا ومعرفة، وكانت النتيجة هذه الصورة عن الظروف الاجتماعية وحالة المجتمع الفرنسي والتي يمكن مطابقتها بسهولة مع دول أخرى. أنا مجبور بوصفي الكاتب الذي أنا عليه أن أنقب في قصصكم باعتبارها مادة خام. على سبيل المثال تلك الدراسة عن المرأة الشابة التي أتت من الريف إلى باريس لترتب الرسائل البريدية ليلًا.

توصيف عملها يدفع بالمرء لإدراك المشاكل الاجتماعية دون العزوف عليها بنوع من التباهي. سعدت كثيرًا بهذا الأمر. تمنيت لو أن هناك كتابًا كهذا عن الظروف الاجتماعية في كل بلد.

أما السؤال الوحيد الذي راودني حول الكتاب فقد أتى من المجال السوسيولوجي على الأرجح: ليس هناك روح فكاهية في هذا النوع من الكتابة. تنقصها كوميديا الفشل والتي تلعب دورًا مهمًا في كتابي، تلك العبثية المتأصلة في مواجهات ومواقف معينة.

بورديو:

لقد كتبت بشكل مذهل عن عدد معين من التجارب والخبرات التي سردناها في كتابنا. لكن كثيرًا ما ينسحق الشخص تحت وقع هذه التجارب وتغمره بالكامل حين يسمعها مباشرة من الأشخاص الذين عايشوها، وليس بإمكانه دائمًا أن يحافظ على مسافة تفصله عنها. شعرنا على سبيل المثال، أن علينا أن نستبعد عددًا معينًا من القصص من الكتاب لأنها مثيرة للعواطف أو بائسة أو مؤلمة جدًا.

غراس:

عندما أتحدث عن الكوميديا لا أعني القول بأن المأساة والملهاة تنفي كل منهما الأخرى، وأن الحدود بينهما جامدة لا تتبدل أبدًا.

بورديو:

بالتأكيد… هذه حقيقة… في الواقع، ما نهدف له هو أن نجعل قرّاءنا يبصرون هذه العبثية المجردة، دون أية مؤثرات خاصة. نصت إحدى القواعد التي وضعناها لأنفسنا على عدم تحويل القصص التي أوردناها إلى "أدب". قد يكون الأمر صادمًا بالنسبة لك، لكن هناك دائمًا نوع من الإغراء حين يتعامل المرء مع قصص درامية مثل هذه، يدفعه لأن يكتبها جيدًا. نصت القاعدة على أن تكون القصص على أقصى درجات العملية التي يمكن أن تكون عليها، للسماح لهذه القصص بأن تحافظ على العنف المذهل وغير المحتمل الكامن بها. كانت هناك أسباب دفعتنا لذلك، بعضها علمي وبعضها أدبي كذلك، لأننا اخترنا ألا ننحو منحى أدبيًا بهدف أن نخرجه بشكل أدبي بطريقة أخرى.

هناك أيضًا أسباب سياسية. شعرنا بأن العنف يمارس حاليًا من قبل السياسات النيوليبرالية التي تنفذ في أوروبا وأمريكا اللاتينية والعديد من الدول الأخرى، عنف النظام هذا واسع وممتد ولا يستطيع المرء شرحه بالكامل عن طريق التحليل النظري فقط. مصادرنا النقدية لا تكفي لمجاراة تأثيرات هذا النظام السياسي.

غراس:

نحن كلانا عالم الاجتماع والأديب، أبناء التنوير الأوروبي، وأبناء تقليد يتعرض للمساءلة والنقد في كل مكان، أو على الأقل في فرنسا وألمانيا، كما لو أن الحركة الأوروبية نحو التنوير قد فشلت. العديد من جوانبها المبكرة، مثل تلك التي طرحها مونتين، قد تلاشت عبر القرون المتعاقبة. الفكاهة هي إحداها. على سبيل المثال في كتاب فولتير "كانديد" ورواية دنيس ديدرو "جاك القدري"، فإن الظروف الاجتماعية الموصفة فيهما بنفس القدر من الفظاعة. مع ذلك، حتى في خضم الألم والفشل، تبزغ مقدرة الإنسان على الفكاهة وبالتالي قدرته على تحقيق الانتصار كذلك.

بيير بورديو: إحساسنا بضياع تقليد التنوير مرتبط بالانقلاب الكامل في رؤيتنا تجاه العالم الذي فرضته الرؤى النيوليبرالية المهيمنة في زمننا

بورديو:

أجل، لكن إحساسنا بضياع تقليد التنوير مرتبط بالانقلاب الكامل في رؤيتنا تجاه العالم الذي فرضته الرؤى النيوليبرالية المهيمنة في زمننا هذا. أظن (وهنا في ألمانيا بإمكاني أن أعقد هذه المقارنة)، أعتقد أن الثورة النيوليبرالية الحالية هي ثورة محافظة، على نفس المنوال الذي سار فيه الحديث عن ثورة محافظة في ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين، والثورة المحافظة في حد ذاتها مفهوم مخاتل جدًا. هي ثورة تستعيد الماضي ومع ذلك تدعي أنها تقدمية. ثورة تحول الانحسار إلى تقدم إلى درجة أن من يعارضون هذا الانحسار يبدون كما لو كانوا هم أنفسهم من أنصار التخلف. نحن نصف أنفسنا طوعًا بأننا عتيقون. في فرنسا يسموننا بـringards (عتيقون) أو arriérés (عفى عليهم الزمن).

اقرأ/ي أيضًا: ماتياس إينار: الفصل بين الشرق والغرب مصطنع

غراس:

ديناصورات

بورديو:

ديناصورات، تمامًا. هذه هي القوى العظيمة للثورات المحافظة، أو الإحياء "التقدمي". حتى ما تقوله أنت، أعتقد يسلط الضوء أكثر على هذه الفكرة. لقد أخبرنا: أنت لست مضحكًا. لكن هذا العصر الذي نحياه ليس مضحكًا. صدقًا، ليس هناك ما نضحك بشأنه.

غراس:

لم أدع يومًا أننا نعيش في عصر مسل. لكن الضحكة الجهنمية التي تطلقها الوسائط الأدبية هي نوع من الاحتجاج ضد ظروف مجتمعنا. ما يروج له اليوم باعتباره نيوليبرالية هي عودة لليبرالية مانشستر في القرن التاسع عشر. في سبعينيات القرن العشرين، في معظم أرجاء أوروبا، بذلت جهود ناجحة نسبيًا لجعل الرأسمالية أكثر تحضرًا. إذا كنت تؤمن بالمبدأ القائل بأن الشيوعية والرأسمالية كلاهما هما ابنا التنوير المدللين، إذًا يجب عليك الاعتراف كذلك بأن لكل منها طريقته الخاصة في تجحيم الآخر ومنعه عن الخروج عن السيطرة.

حتى الرأسمالية كانت عرضة لمسؤوليات معينة. في ألمانيا، نحن ندعو هذا الأمر باقتصاد السوق الاشتراكي، وكان هناك إجماع عام شمل الحزب المحافظ على أن ظروف جمهورية فايمار لا يجب إعادة نتاجها أبدًا. خُرق هذا الإجماع في بداية الثمانينيات. منذ انهيار الهياكل الشيوعية، آمنت الرأسمالية بأن بإمكانها أن تفعل أي شيء، وتفلت من كل سيطرة ورقابة.

تعثر قطبها الآخر. القلة النادرة من الرأسماليين المسؤولين الذين يطالبون بالتعقل والحكمة يفعلون ذلك لأنهم يدركون بأنهم فقدوا الإحساس بالاتجاه الذي يسيرون نحوه، وأن النظام النيوليبرالي يكرر الآن أخطاء الشيوعية حين يخلق الدوغما الخاصة به، أسطورته الخاصة التي تدعي مناعته ضد أي سقوط أو انهيار.

بورديو:

أجل ولكن قوة هذه النيوليبرالية تكمن في أنها طبقت، على الأقل في أوروبا من قبل أشخاص ينعتون أنفسهم بأنهم اشتراكيون. سواء غيرهارد شرودر أو توني بلير أو ليونيل جوسبان، هؤلاء أشخاص يستخدمون الاشتراكية جسرًا لتعزيز النيوليبرالية.

غراس:

هذا استسلام تام للاقتصاد.

بورديو:

في الوقت نفسه، أصبح من العسير جدًا خلق موقف نقدي يساري تجاه الحكومات الاشتراكية الديمقراطية. في فرنسا، كان هناك إضراب عظيم عام 1995 نجح في حشد قطاع كبير من السكان، عمال وموظفون في المكاتب وغيرهم، وكذلك المثقفون. ثم تبعته سلسلة كاملة من الاحتجاجات. كانت هناك تظاهرات العمال العاطلين، يتظاهر الأوروبيون ضد البطالة، ويتظاهر المهاجرون غير الشرعيون وهكذا. كان هناك نوع من الاهتياج المستمر أجبر الاشتراكيين الديموقراطيين في السلطة بالتظاهر، على الأقل حتى يشاركوا في نوع من الحوار الاشتراكي.

غونتر غراس: منذ انهيار الهياكل الشيوعية، آمنت الرأسمالية بأن بإمكانها أن تفعل أي شيء، وتفلت من كل سيطرة ورقابة

لكن من الناحية العملية، ما زالت هذه الحركة النقدية ضعيفة للغاية لأنها محصورة على المستوى القومي في المقام الأول. بالنسبة لي، أحد الأسئلة المهمة التي تراودني تجاه الساحة السياسية، هي كيفية خلق موقف نقدي على المستوى الدولي يكون على يسار الحكومات الاشتراكية ويكون قادرًا على ممارسة نفوذ حقيقي عليها. لكني أستبعد نجاح أية محاولة لخلق حركة اشتراكية أوروبية في هذه اللحظة. والسؤال الذي أطرحه على نفسي دائمًا هو: ماذا بإمكاننا، كمثقفين ومفكرين، أن نفعل لنسهم في هذه الحركة التي لا غنى عنها، لأنه برغم ادعاءات النيوليبرالية، تحققت كل الانتصارات الاشتراكية عبر الصراع؟ إذا أردنا "أوروبا اشتراكية" كما يقولون، يجب علينا أن نخلق حركة اشتراكية أوروبية.

اقرأ/ي أيضًا: "حوارات لقرن جديد".. الروايات وأسرارها

لدي انطباع بأن المثقفين يتحملون قسمًا كبيرًا من المسؤولية تجاه خلق مثل هذه الحركة، لأن طبيعة الهيمنة السياسية ليست اقتصادية فقط بل فكرية كذلك. تكمن هذه الهيمنة أيضًا في القلب من الاعتقاد. لهذا أؤمن بأن علينا أن "نفتح أفواهنا الكبيرة" ونحاول استعادة اليوتوبيا الخاصة بنا، لأن أحد الصفات المحدد لهذه الحكومات النيوليبرالية هي أنها تقتل اليوتوبيا.

غراس:

آمن الاشتراكيون والأحزاب الاشتراكية الديمقراطية كذلك بطريقة ما بهذه الفكرة، حين ادعوا أن انهيار الشيوعية يعني القضاء التام على الاشتراكية في جميع أنحاء العالم، وفقدوا الثقة في الحركة العمالية في أوروبا التي صمدت وقتًا أطول من الشيوعية. فإذا تخلى المرء عن تقاليده الخاصة، فهو يتخلى عن نفسه.

شهدت ألمانيا محاولات صغيرة قليلة لتنظيم العاطلين عن العمل. لسنوات طويلة، كنت أحاول إخبار النقابات قائلًا: لا يمكنكم حصر مهامكم في الإشراف على العاملين الذين لديهم عمل بالفعل والذين ما إن يخسروا هذا العمل حتى يسقطوا في هاوية لا قرار لها. يجب أن تؤسسوا اتحادًا لمواطني أوروبا العاطلين عن العمل. نحن نشتكي من أن تشييد أوروبا يتم على أسس اقتصادية محضة، مع ذلك لم تبذل الاتحادات نفسها أي جهد لتوصل لنوع من التنظيم والفعل يتخطى الأطر القومية ويكون له تأثير عابر للحدود.

يجب علينا أن نخلق ثقلًا يوازن هذه النيوليبرالية التي اجتاحت العالم. لكن في الحقيقة، يبتلع مثقفو اليوم أي شيء، ولا يجلب لهم هذا سوى قرحة معدية. وهو ما يجعلني أشك في أن بإمكاننا الاعتماد حصرًا على المثقفين. في فرنسا، يبدو لي أن المرء يتحدث دائمًا ودون تردد عن "المثقفين" لكن تجربتي في ألمانيا أظهرت لي خطأ الاعتقاد بأن جميع المثقفين مؤيدون لليسار. يمكنك أن تجد أدلة على عكس ذلك تمامًا عبر تاريخ القرن العشرين بما في ذلك الفترة النازية: رجل مثل جوبلز كان مثقفًا. بالنسبة لي كون المرء مثقفًا ليس دليلًا على قيمته. يظهر كتابك "بؤس العالم"، كيف يمتلك أولئك الذين قدموا من عالمي العمل، أعضاء النقابات، خبرات أكثر في المجال الاجتماعي من تلك التي لدى المثقفين. هؤلاء الناس عاطلون عن العمل الآن ومتقاعدون ولا يبدو أن أحدًا بحاجة إليهم. إمكانياتهم مهدرة بالكامل.

بورديو:

دعني أعد سريعًا إلى كتاب "بؤس العالم". هو محاولة لربط الجهد الفكري بوظيفة أكثر تواضعًا بكثير وأكثر فائدة بحسب اعتقادي من تلك التي يعزوها إليه المرء عادة، وهي وظيفة "الكاتب العام". الكاتب العام، ولقد شاهدت هذا الأمر بنفسي في دول شمال أفريقيا، هو شخص يعرف كيف يكتب ويعير موهبته لآخرين للتعبير عن أشياء يعرفونها بشكل أفضل من الشخص الذي يكتبها. هم ليسوا مثل المثقفين الآخرين، هم في الأساس أشخاص يعرفون -وإن ليس دائمًا- كيف يسمعون، وكيف يفكّون رموز ما يسمعونه وكيف يدونونه وينقلونه على نحو أفضل.

ببير بورديو: في حالة فرنسا من الصعب لأي شخص لا يحظى بمكانة راسخة وشهرة واسعة من الوصول للجمهور

غراس:

لكن يعني هذا أن علينا أن نذكر المثقفين الذي يموضعون أنفسهم في صف النيوليبرالية. هناك من بينهم من بدأ يسائل نفسه إن كان تداول المال بهذا الشكل حول العالم، والذي يتجاوز كل سيطرة، إن كان هذا النوع من الجنون الذي ولد من رحم صعود الرأسمالية سيواجه أي نوع من المعارضة. على سبيل عمليات الاندماج التي تخلو من أي هدف أو غاية والتي تؤدي إلى تسريح آلاف الأشخاص من أعمالهم. تحسب كل هذه العمليات من منظور الأسواق المالية باعتبارها تعظيمًا للأرباح.

اقرأ/ي أيضًا:

بورديو:

أجل للأسف، لا يتلخص الأمر ببساطة في معارضة وتثبيط الخطاب المهيمن والذي يدعي أنه يمثل إجماع الآراء. لمحاربته بشكل فعال، يجب علينا أن نضمن وصول هذا النقد إلى الجمهور. نحن نتعرض بشكل مستمر ومتواصل لغزو وهجوم الخطاب السائد. تتواطأ الغالبية العظمى من الصحفيين مع هذه الأمر دون وعي منهم في كثير من الأحيان، ومن الصعوبة بمكان تمزيق وهم الإجماع. أولًا لأنه في حالة فرنسا من الصعب لأي شخص لا يحظى بمكانة راسخة وشهرة واسعة من الوصول للجمهور. عندما قلت في بداية هذا النقاش، بأني آمل بأن "تفتح فمك الكبير" كان ذلك لأني أعتقد أن الشخصيات العامة ذات المكانة الراسخة هم الأشخاص الوحيدون الذين بإمكانهم بطريقة ما كسر هذه الدائرة المفرغة.

لكن لسوء الحظ، عادة ما يحظون بتلك المكانة لأنهم لا يطرحون الأسئلة ويتحدثون بلطف ولأننا نريد أن نحافظ عليهم بهذا الشكل، وقليلون هم من يستخدمون الرأسمال الرمزي الذي يمنحه لهم موقعهم للحديث بصوت مرتفع وبصراحة تامة والحرص على أن تسمع تلك الأصوات التي لا يستطيع أصحابها الحديث عن أنفسهم. في كتاب "مئويتي" استدعيت سلسلة من الأحداث التاريخية وعدد منها لمسني بشكل كبير، أفكر في قصة الولد الصغير الذي يذهب إلى مظاهرة Liebknecht ويتبول على ظهر والده. لا أدري إن كانت مبنية على ذكرى شخصية، لكن في كل الأحوال تبين هذه القصة طريقة أصيلة جدًا لمعرفة الاشتراكية.

وأحببت للغاية كذلك ما قلته عن يونغر وريمارك: تقول بين السطور العديد من الأشياء عن دور المثقفين وتواطئهم في الأحداث التراجيدية، حتى بين أولئك الذين يظهرون بمظهر المنتقدين. وأحببت كذلك ما قلته عن هايدغر. هذا شيء مشترك آخر يجمع بيننا. أجريت تحليلًا كاملًا على خطاب هايدغر الذي كان له تأثير مريع في فرنسا حتى يومنا هذا تقريبًا.

غراس:

المهم بالنسبة لي في قصة Liebknecht هو أن لديك من جهة Liebknecht مشعلة حركة الشباب "وهي حركة تقدمية باسم الاشتراكية بدأت للتو" ومن ناحية أخرى، أب لا يدرك في خضم حماسه أن ابنه الجالس على كتفيه يريد النزول. عندما يتبول الولد الصغير على عنق والده، يصفعه والده صفعًا عنيفًا. هذا النوع من السلوك السلطوي يدفع الطفل للتطوع في الجيش أثناء حشد القوات للمشاركة في الحرب العالمية الأولى، بعبارة أخرى، تدفعه للسير في اتجاه مخالف تمامًا لذلك الذي أملت Liebknecht أن تلهم الشباب للسير فيه.

غونتر غراس: في كتاب "من مذكرات حلزون"، أروي كيف صرخ الطلاب في وجهي عندما أخبرتهم أن التقدم أشبه ما يكون بحلزون

في كتاب "مئويتي"، أصف أستاذًا جامعيًا يحاضر في محاضرة يوم الأربعاء عن تفاعلاته الخاصة أعوام 1966 و19967 و1968. في ذلك الوقت، بدأ بالأفكار العليا المجردة للفلسفة ثم عاد إليها في النهاية. وبين المقدمة والنهاية شهد طفرات عدة من الراديكالية وكان واحدًا من هاجموا أدورنو هجومًا حادًا من منصة الدرس. هذه سيرة ذاتية نمطية للغاية عن تلك الفترة. في الستينيات، وجدت نفسي منخرطًا في الأحداث. كانت تظاهرات الطلاب ضرورية وبثت روح الحركة في العديد من الأشياء أكثر مما يود المتحدثون باسم انتفاضة 68 الاعتراف بها. لهذا يمكننا القول إن الثورة لم تحدث، لم يكن لها أساس، لكن المجتمع تغير.

اقرأ/ي أيضًا: علي سعيد.. حقيبة ملأى بالناس

في كتاب "من مذكرات حلزون"، أروي كيف صرخ الطلاب في وجهي عندما أخبرتهم أن التقدم أشبه ما يكون بحلزون. قليلون من أرادوا تصديق ذلك. كلانا الآن في عمر يسمح لنا، وأنا أوافقك على ذلك، بفتح أفواهنا الكبيرة ما بقي فينا رمق من حياة. لكن وقتنا محدود. لا أعرف ما هو الحال في فرنسا، لا أعتقد أنه أفضل حالًا، لكني أؤمن أن الجيل الشاب من الأدباء الألمان أظهروا حماسًا واهتمامًا قليلين للغاية تجاه استكمال إرث التنوير وتقليد فتح فمك الكبير والتدخل. إن لم نشهد تجديدًا وإحياءً، وإن لم نر تغيرًا في الطليعة، سنرى بالتأكيد اضمحلال هذا الجانب الجيد من التقليد الأوروبي واختفائه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نيرودا وماركيز.. قصة دردشة معلنة

بين إدوارد سعيد والمسيري.. تأملات في فقد الحرية