26-مارس-2019

كتابات ضد بوتفليقة في الجزائر العاصمة (Getty)

الساعة تشير إلى العاشرة صباحًا، السماء زرقاء صافية، سكون تشهده المدينة، أجد نفسي كل صبيحة يوم جمعة في شارع البحرية أمام واجهة البحر اللامتناهية المدى، على ميناء الجزائر ترسو زوارق الصيد الصغيرة، تلمع الأسماك بألوان فضية، نعيق طيور النورس يملأ الفضاء الصباحي العاصمي ويزيده جمالًا، الطرق لا تزال فارغة، بعض المارة يأخذون صور سيلفي أمام الواجهة البحرية، يكسر الصمت والهدوء مروحية تجوب سماء شوارع المدينة، إنه يوم المسيرة.

أشعار نيرودا تمنحنا اللحظات التاريخية التي نعيشها في الجزائر بحثًا عن الحرية والعدالة

أجتاز ساحة الشهداء، عبر أزقة شارع زوج عيون، أقف أمام مسجد علي بتشين أسترجع ذكريات الطفولة، في شارع باب عزون محلات بيع الألبسة والأقمشة على غير العادة مقفلة والمقاهي مملوءة تهب ليوم ليس كسائر الأيام، حديث وهمسات من بداخل المقاهي تعلن عن حدث جلل، عند كل مداخل الشوارع تتربع جموع من الناس تتحدث عن يوم المسيرة. ترقب وخوف، كيف ستكون؟ كم هي أعداد الحضور؟ ماهي ردة فعل السلطة؟

اقرأ/ي أيضًا: رسائل مثقفين وإعلاميين جزائريين إلى بوتفليقة وشقيقه: "ضيّعتم كل الفرص"

واقف في شارع العربي بن مهيدي، أمام تمثال الأمير عبد القادر، تتربع عدد من النسوة ترتدين ألبسة فسيفسائية جميلة بألوان وطنية، صبيان الحي حول التمثال يلعبون كأيام زمان بكرة قدم بلاستيكية، رايات وطنية على البالكونات والشرفات تضفي احتفالية جميلة. إنه يوم المسيرة.

أتسلل بداخل مقهى مغراب الثقافي، مدخله وردي اللون، المؤثث بديكور خشبي عتيق، لايزال فارغًا ما عدا بعض الزبائن، أجلس في الزاوية وحيدًا أطلب نسكافيه، أستخرج من حقيبة الظهر كتاب "النشيد الشامل" لباوبلو نيرودا. مسترخيًا أقرأ بعض الأبيات الشعرية. في أشعاره أعيش اللحظات التاريخية نفسها في البحث عن الحرية والعدالة والديمقراطية، أغنية المطرب المتمرد القبائلي معطوب لوناس تمد المكان أبعادًا رومنسية ثورية.

بعد نصف ساعة، بدأ يشق سكون الكافيتريا الحديث عن السياسة والأخبار عن المسيرة والمظاهرة، البعض يتحدث عن قطع وسائل المواصلات، يشتكي الآخر من قطع الإنترنت، فضلت السكوت والصمت، تحول المقهى إلى حقل للنقاشات والمداخلات بين جميع الزبائن، توحدت أو اختلفت الرؤى والشعارات لكن الكل متفق على تغيير النظام، من ركن مظلم ينطلق صوت جوهري لشاب متوسط العمر "ليسقط النظام وترحل العصابة"، على واقع هذه الصيحة يطلب صاحب المحل الجميع بالالتحاق بموعد يوم المسيرة.

على رصيف شارع العربي بن مهيدي، كان الشاب فاروق في حالة تأهب قصوى، على طاولته جمع من المواطنين الراغبين في اقتناء رايات وشالات وأعلام وطنية، بمختلف الأنواع والأحجام. تعرفت على فاروق في فترة سابقة، فالرصيف الذي يبيع فيه منذ سنة هو الدرب الذي أسلكه من محطة الميترو البريد المركزي إلى مكتبة العالم الثالث وسط الشارع، يبدو على فاروق السعادة فتجارة الرايات الوطنية مربحة خلال هذه الفترة من المسيرات والمظاهرات التي تعرفها المدينة.

مضيت مع الجموع إلى غاية شارع أحمد حماني، شاراس سابقًا، وقفت أمام بقال، يبيع كل شيء ولا شيء، أثار فضولي مجموعة من الشباب، قررت التحدث إليهم، اقتربت من مراد، طالب جامعي لا يزال في السنة الثانية علوم اقتصادية جامعة دالي براهيم، شدني وعيه السياسي وخلفيات التي دفعته الى المجيء وحضور المسيرة، خاطبني بكل هدوء عن مخاطر مستقبل الاقتصاد الوطني، عن حجم الفساد والرشوة والمحسوبية، سألته لماذا لم ينظم الى حزب سياسي سابقًا فقال: "الملاعب هي مسرح الفعل السياسي بالنسبة إلينا"، فجأة وبكل حماس بدأ الشباب بترديد أغاني الملاعب التي تحمل طابعًا سياسيًا وثوريًا. لطالما كانت الملاعب الجزائرية مسرحًا وفضاءً جماعيًا يعبر فيه الجمهور الرياضي عن المحظور في الشأن السياسي، حيث تطرح أسماء الشخصيات الحاكمة والشراكات والعصابات بكل حرية، لكن بعد الانفتاح السياسي كنت أعتقد أن المجال التعبيري كان قد انتقل إلى منصات أخرى كالجرائد والصحف والتلفزيون.

أمام ساحة أودان ترفع نسرين مع جمع من صديقاتها أعلامًا وطنية، ولافتات تدعو إلى تغيير النظام ورفض العهدة الرئاسية الخامسة. نسرين تدرس السنة الثالثة ثانوي تقول إنها ترغب في جزائر جديدة، حرة ديمقراطية، منفتحة ومتعددة، تحلم في أن ترى الجزائر أكثر ازدهارًا واستقرارًا. حضور المرأة بقوة خلال هذه المظاهرة أعطى للمظاهرة عطر الياسمين، استعادت المرأة الفضاء العام الذي هجرته أو أجبرت على ذلك تركه.

لطالما كانت الملاعب الجزائرية مسرحًا وفضاءً جماعيًا يعبر فيه الجمهور الرياضي عن المحظور في الشأن السياسي

منتصف النهار بدأت صدى أهازيج الجماهير يصل من بعيد، وأفواج من الناس تصل إلى مركز المدينة، يقشعر بدن الإنسان بشكل رهيب، ساعتان تمر والجحافل من البشر تغزو المكان والفضاءات العامة، الطرق الكبرى والأرصفة والأزقة مليئة بجموع لا قدم لها. أغانٍ وطنية وشعارات سياسية، جدار الخوف سقط، لم أكن أتوقع أبدا هذا الحجم من الجماهير من مختلف الاعمار والفئات والفعاليات المجتمعية، الحضور العائلي كان ملفتًا للانتباه وأمد هذه المسيرة بالطابع البانورامي والجمالي والشعري.

اقرأ/ي أيضًا: نعوم تشومسكي: محاولة تأبيد بوتفليقة في الحكم مهزلة طائشة تتبعها عواقب وخيمة

وقت الغروب. الجموع تتفرق وتغادر أماكن الاعتصام والتجمع. المقاهي كلها مغلقة. بعض المحلات ظلت مفتوحة تقدم بعض الخدمات المحدودة. بدأ الليل يسدل ستاره، دخلت البيت في ساعة متأخرة، استلقيت على السرير، مسترخيًا لأستمع إلى سمفونية شومان، أعيد استرجاع صور اليوم الجميلة، أردد شعارات المسيرة، كان حلمًا جميلًا، لا بل عشت يومًا جميلًا في يوم المسيرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جيل الحراك الجزائري.. النهر الذي فاجأ الجميع

جمهورية بوتفليقة.. كشف حساب