20-مارس-2019

يحتج الجزائريون على أنماط كاملة من الفساد والاستهتار (رويترز)

بالنسبة لبلد كالجزائر، ممتد جغرافيًا وفي موقع حيوي، لن تعدم المشاكل التي تجعل خطوط التماس حمراء أو برتقالية. فالجغرافيا تعمل عملها، والنظر إلى مشاكل الجوار وأخذها في الحسبان ليست حججًا تساق دون وجاهة. المجال الحيوي مليء بالتطورات غير السارة. يبذل الجيش الجزائري جهوده في هذا الصدد، لكن جماعات الإرهاب والجريمة المنظمة لها ما تقوله في كل مرة، والأسلحة والمخدرات تتدفقان. اللاعبون الدوليون والإقليميون ليسوا ودودين ولهم أجنداتهم وأدواتهم المحلية، هناك أوراق تُلعب من قبل الجزائر والأمور تحت السيطرة، ومع ذلك فالساحل (الخاصرة الرخوة) قد يغرق بفعل فاعل ويصبح ممرًا مفتوحًا لإرباك البلد الذي يحتل واجهة مميزة ويربط أوروبا بإفريقيا الداخلية.

هل نحن أمام فرصة تحقيق تحول تاريخي لم يتوقعه أحد في الجزائر؟ يمكن اللجوء إلى الصبر والإيمان بالتراكم وبالتحول التدريجي بالرغم من المقاومة القوية للتغيير من طرف السلطة

إن نظرة أعمق للجزائر بما فيها وما حولها ستكشف أن تحديات الجغرافيا رحيمة إذا ما قيست بقيود التاريخ. المستعمرة الفرنسية السابقة، بوضعها الحالي، هي محصلة تراكمية لأفعال تاريخية غير منسقة وأحيانًا حتى متناقضة لمن حكموا البلاد منذ الاستقلال المعلن. مثل بلدان العالم المستعمرة والتي استقلت فوجدت أنظمة الحكم فيها نفسها تواجه نتائج الماضي الاستعماري ثقافيًا واقتصاديًا وسياسيًا، مضافًا إليها رهانات بناء الدولة وتوجيه المجتمع، كان على الجزائر أن تواجه فوق ذلك مسألة شرعية الحكم أولًا ومدى تجانس العقول الحاكمة ثانيًا. علّتان مزمنتان، ظلت أعراضهما خفية، ثم عند أول محك حقيقي ظهرتا عاريتين، الرصاص والدم وصما عشرية كاملة وأُجهضت الديمقراطية من الخصوم كافة، الأمن مستتب حاليًا بفضل تلك المحنة لأن الناس تعلموا الدرس. الثمن كان باهظًا والحصيلة مفجعة.

قبل الاحتجاجات الأخيرة، لم يكن هناك أي نقاش جدي أو تشكيك بصوت عالٍ في مسألة شرعية التمثيل كأن لا أحد معنيًا بها، باستثناء أصوات ظرفية موجهة تطلق في غالبها للابتزاز والمساومة من حين لآخر وتحصيل مكاسب إضافية دون أن تكون لها جدية طرح المسألة والنضال الحقيقي من أجلها.

استسلمت النخب لمنطق السلطة مفترضة أن ظروف الديمقراطية الحقيقية غير متوفرة، اللعبة مغلقة أو دائرية، حيث النتائج لا تختلف عن المقدمات، تحتاج الديمقراطية إلى ثقافة وآليات، وبالنسبة للأخيرة، أي الآليات (الانتخابات النزيهة والاختيار الحر، التداول الحقيقي على السلطة، الحريات الفردية والجماعية، المحاسبة) فقد شوهت إلى أبعد حد ولم تنل أية مصداقية عند الأجيال الصاعدة. انتهى العمل السياسي بمفهومه الحقيقي، وقبله خفُت أمل التغيير من داخل المنظومة، واكتفى الفاعلون بالعمل النقابي أو الفئوي، والمثقفون دجنوا أو اجتهد بعضهم في رسم طريق الخلاص الفردي، وبعد مشاهدات لما نجم عن الربيع العربي أصبح التفكير في التغيير الجماعي بالضغط على النظام الحاكم باستخدام الأدوات الخشنة من الماضي.

الوضع يبعث على اليأس. المجتمع الشاب تُجهض لديه روح التطلع، تتيح الأجهزة الرقابية هنا هامشًا للتنفيس، مما يسمح بفهم الحالة النفسية لفئات واسعة، إذ تعج شبكات التواصل الاجتماعي بالانتقادات وتعرية الفساد محليًا ووطنيًا، واستغلال المسؤولين الكبار والصغار لسلطة مناصبهم، والاستخدام السيئ للموارد. ما من قوى منظمة وفاعلة على الأرض تملك مشروع تغيير ناضج وتعمل على تحقيقه، وحراك الشارع المتواصل عرى الجميع، وأجهزة الدولة ظلت تتحكم في الوضع إلى درجة جعلتها مقبولة من الشركاء الغربيين وفي مقدمتهم فرنسا، لا أحد في الضفة الشمالية يريد أن يرى قوارب المهاجرين تتدفق ولا الأسلحة ولا المخدرات، ومهمة حراسة المصالح تؤدى بتفان مثير، إنهم يفهمون اللعبة جيدًا ويكسبون فيها حتى الآن.

تمت المناورة بتعديلات دستورية تخص مسألة الهوية وتمكين المرأة، دون نقاش حقيقي، وحظيت بالتأييد من قبل تشكيلات سياسية واجتماعية مشكوك في تمثيلها هي الأخرى. مع ارتفاع أسعار النفط وتضاعف مداخيل البلاد من النقد الأجنبي كان المأمول أن يحظى المواطنون بالرفاهية مقابل ممارسة سياسية أقل، لكن انخفاض الأسعار في 2014 مثّل محنة حقيقية، إذ انكشفت للجميع هشاشة الوضع الاقتصادي، ومع أن محاولات الحكومة للتخفيف من الآثار المعيشية الوخيمة لتهاوي قيمة العملة وتدني الإنفاق الحكومي المعتمد على الريع قد نجحت إلى هذه الدرجة أو تلك، لكنها بدت فاقدة للحجة في الدفاع عن تواضع النتائج التنموية المحققة قياسًا بالموارد الضخمة المخصصة لمشاريع البنية التحتية وتحسين الإطار المعيشي للسكان.

يعاني الاقتصاد الجزائري اختلالًا هيكليًا ما يزال، وبلغة أقل تصنعًا، هو اقتصاد مشوه، وينخره الفساد وسوء تخصيص الموارد والتفاوت الجهوي في الاستفادة من التنمية، ولا تعديلات جوهرية تم تبنيها، حيث تؤدي الحكومة دور موزع عائدات الريع وتكرّس الزبونية السياسية والاجتماعية، وغني عن القول إن الريع والديمقراطية يمثلان ثنائية مستحيلة. وأبعد من ذلك، تشكلت عبر السنين طبقة طفيلية تنمي ثرواتها بعيدًا عن المفهوم الحقيقي للاستثمار وروح المقاولة، مستفيدة من حالات احتكارية غير مبررة اقتصاديًا، ويوشك بعض أصحاب المال أن يوجهوا موارد الدولة لخدمة مصالحهم كوكلاء محليين للشركات الكبرى بما يحقق ضررًا أكيدًا على بناء جهاز إنتاجي وطني قادر على المنافسة وكسر التبعية المطلقة للنفط.

صنع النظام السياسي برجوازيته الخاصة، كما شكل حقله السياسي من قبل بما يناسبه. الفائض الاقتصادي ناتج عن النفط والغاز وليس عن جهود قطاعات إنتاجية مختلفة، ويحظى من يحكمون بامتياز أن يوزعوه بما يخدم بقاءهم، كما أن الحكومة تعتمد عليه في تمويل إنفاقها، الجباية خارج المحروقات محدودة، لذا يتركز الصراع بين الفاعلين حول تعظيم مكاسبهم من عائدات الكعكة النفطية. إن الضرائب كعامل محرك وموحد للحركة المطلبية غير قوي، وعليه انحصرت المطالبات السابقة في تحسين الأوضاع المهنية والاجتماعية للمستخدمين العموميين أو لمواطنين تعاني مناطقهم من ضعف التنمية قياسًا بغيرها. العامل الديني والهوياتي لتحريك المواطنين أو المطالبات السياسية المحضة كلها اختفت تقريبًا. لزمن طويل ظلت النفقات الحكومية تدار على النحو الذي حفظ التوازنات القائمة. أشارت الاحتجاجات في السنوات الماضية  إلى اختلال توازن لا يلبث أن يكون ظرفيًا بعد أن تلبى المطالب، ولم تهدف في أي وقت لنقض الاتفاق شبه المعلن بين مختلف الفاعلين، أما الآن فالأمر مع الحراك الأخير مختلف. روعيت الحساسيات والولاءات وتم حفظ التوازنات التي تبقي الأمر تحت السيطرة، غير أنه يمكن ملاحظة أن السلطة اتخذت ظهيرًا ماليًا قويًا في السنوات الأخيرة وكان سيرها في اتجاه تقويته متسارعًا.

في دولة يمثل فيها عائد النفط أهم ما يمكن الاعتماد عليه، يوجه الإنفاق الحكومي في جزء كبير منه تبعًا لنوايا غير بريئة. تشوه المنطق الاقتصادي بالنظرة السياسوية الضيقة، وبشكل ممنهج، يدفع الاقتصاد الجزائري ثمن الخطايا السياسية ويُرهن مستقبل البلاد البعيد من أجل نيل رضا الخارج والحفاظ على مصالحه وتغذيتها من جهة، وشراء سلم اجتماعي مؤقت ومهزوز وتمويل العلاقات الزبونية لضمان استمرار الحكم من جهة أخرى. لقد نمت رأسمالية طفيلية خلال عقدين من حكم بوتفليقة، وحتى أثناء الحرب الأهلية، حاليًا، أصبح اقتصاد الجزائر مستنقعًا كبيرًا لذباب الداخل والخارج، وتتحكم جماعات شديدة النفوذ في التجارة الخارجية، الاستيراد مربح والفساد في الدوائر المرتبطة به يكاد يلمس باليد. ولكل حرب أمراؤها إذا كان يجب التذكير. تنال مؤسسات مقاولة بعينها حظوة في تنفيذ مشاريع البنية التحتية المربحة وعديمة المخاطرة التي تطلقها الحكومة، عمليًا لا وجود لرقابة حقيقية عليها، لذلك تنجز المشاريع بلا إتقان وبعيدًا عن المعايير السليمة، ولا شفافية حول أرباح تلك المقاولات ولا إلى أين تذهب.

أهملت المؤسسات الاقتصادية المملوكة للدولة في غالبها وتُركت لسوء التسيير، وأصبحت تُثقل كاهل خزينة الدولة عوض المساهمة في التنمية. حالات الاحتكار كثيرة، استيرادًا أو بإنتاج يستورد كل مركبات المنتوج، أي بنسبة إدماج ضعيفة. وفي النتيجة، اقتصاد بازار، ما زال البلد يستورد كل شيء تقريبًا، استنزفت الأراضي الزراعية والتهمها الإسمنت، لا أمن غذائي، لا توازن في التنمية، لا مدن جديدة لإعمار الجنوب الكبير، البطالة مقنّعة وجزء من مقدرات البلاد البشرية والمادية معطل أو يساء استخدامه، ويتزايد الإحساس بأن هناك عقلًا موازيًا يوجه ويأمر على النحو الذي يبقي البلد تابعًا. تثار نقاشات كثيرة حول السياسة الاقتصادية (أو برنامج الإنفاق السنوي الذي تسميه الحكومة كذلك) وتورد الدوائر الرسمية الأرقام والإحصائيات لتدافع عن منجزات الرئيس بعد أربع عهدات ملكية، لكن الأرقام تشبه امرأة لعوب ناهيك عن استحالة التحقق من صحتها لأن الأجهزة الرقابية غير فاعلة. إن صورة الحكومات المتعاقبة مهتزة والهوة بينها وبين أغلب الفئات واسعة. ومن بين النتائج الأخطر ظهور الممارسات الانتهازية كطريقة شبه مباحة للترقي الاجتماعي والإثراء، العدالة مغيبة، وهذا سلوك اللصوصية الناعمة عند المسؤولين المحليين الصغار المغمورين خارج محيطهم، وكذلك لدى أولئك الذين احتموا بالبرلمان والهيئات المنتخبة، فالمال الوسخ أصبح مؤثرًا في العملية السياسية المشوهة أصلًا والفاقدة للمصداقية.

البنوك الوطنية مقيدة بالبيروقراطية والجمود وعاجزة عن تمويل مشاريع ذات جدوى، الجامعة لا تخرج الكفاءات المطلوبة وصارت أشبه بدور حضانة للبالغين، ومعاهد التكوين المهني والتقني بعيدة عن تقديم اليد العاملة المؤهلة، حصيلة شبه متفق عليها، "السياسات" الظرفية غير المتبصرة عقدت الوضع والزمن لا يعمل لصالح البلد. أما التوازن الجهوي في التنمية وتحقيق تكافؤ معقول في المستوى المعيشي ما بين سكان المناطق المختلفة فما زال بعيدًا. تكفي المقارنة هنا بين ولايات الأغواط وورقلة وإليزي (حيث حقول النفط والغاز) من جهة، وولايات العاصمة وبعض المدن الساحلية من جهة أخرى والتي تتركز فيها الإدارات وبعض النخب البيروقراطية المتعالية والأنانية الممسكة بجزء من قرار تخصيص الموارد.

مؤشر التنمية البشرية للجزائر مقبول. أغلب مشاكل الصحة والسكن والبنية التحتية وتزويد السكان بالماء وخطوط الهاتف لا تتعلق بنقص الأموال بل بضعف الأداء الحكومي، الولاء في شغل المناصب العليا يأتي قبل الكفاءة بمراحل. أما التعليم، وبعيدًا عن الجانب الكمي، يمكن ملاحظة أنه كان دائمًا وما يزال ساحة لصراع إيديولوجي أضر بالنظام التعليمي، يتركز حول التربية الإسلامية واللغة والتاريخ، وإجمالًا المرجعية التاريخية المناسبة للأجيال الصاعدة، بين جماعة فرنكفونية الهوى قليلة العدد لكنها فاعلة وبين أخرى أكبر منها عددًا ومستضعفة الآن، الحكومة تنتصر للأولى بينما لا تملك الثانية سوى نقابات ذات مطالب مهنية.

اقرأ/ي أيضًا: 3 سيناريوهات جزائرية معلّقة بين الشارع و"الدولة العميقة"

 إن مستوى الأساتذة والمعلمين محل شك دائم، يوظَّفون، في غالبيتهم، بعد التخرج مباشرة من تخصصات مختلفة ولا يستفيدون من تكوين عال يتصل بالتعليم. التخلي عن المجلس الأعلى للتربية، المنوط به رسم السياسات التعليمية، كان تراجعًا له عواقبه، ويتزايد الاعتقاد بأن من يحكمون يستفيدون من ذلك الصراع الهوياتي القديم الذي له ما يشبهه في الإعلام والثقافة. الصورة في الجامعة مشابهة، إذ تميعت وصارت أقرب لإطار لاستيعاب الشباب، الشهادات التي تمنحها أصبحت بلا معنى عدا كونها أداة للتكسّب، وانكفأ الأساتذة والأكاديميون في ردة واضحة أو خيبة أمل، ولم يعد التدريس الجامعي يمثل رسالة أو يحظى بالتبجيل من المجتمع، العطب تعمق خلال العشرين سنة الأخيرة، وهؤلاء انسحبوا من الحياة العامة وصاروا مثلهم مثل الموظفين المحبطين في القطاعات الحكومية الأخرى أو مجرد انتهازيين بدعوى الواقعية، لذا فإن الدور التقليدي اختفى أو يوشك، ومشاركتهم الفاعلة في أي تغيير قادم هي محل تشكيك قادم.

هل نحن أمام فرصة تحقيق تحول تاريخي لم يتوقعه أحد؟ يمكن اللجوء إلى الصبر والإيمان بالتراكم وبالتحول التدريجي بالرغم من المقاومة القوية للتغيير من طرف السلطة والمنتفعين منها داخليًا ودوليًا، الزمن قوي ولا فرد أو جماعة يمكنهم إيقاف تطور المجتمعات إذا امتلكت الإرادة والأدوات، كما يمكن انتظار طفرة قد تولدها التظاهرات الأخيرة، والمشاهدات التاريخية في هذا الصدد كثيرة. وبغض النظر عما إذا كان الظرف مواتيًا أم لا، فإذا ما أتيح تغييرٌ في الاتجاه الصحيح في المستقبل القريب، فسيكون على من يتولاه أن يتمتع بحكمة نبي وبمهارة طبيب جراح. تنتظره، دون مبالغة، مهمة بناء عقل جديد للدولة وزرع جهاز عصبي (أمني وإداري)، بدل شبكات الفساد المقنن القائمة حاليًا، كأدوات للعمل. نموذج الدولة الوطنية وصل لحدوده النهائية، ودولة الرفاه والتنمية أصبحت شعارًا فارغًا، ثم والآن، ليس من الجديد القول إن الحكم يتخبط دون رؤية ولا فلسفة أو حتى أفكار ناظمة. تحتاج الجزائر إلى عشرة أعوام على الأقل لإعادة وضعها على السكة. في الاقتصاد والسياسة والقطاعات المختلفة هناك عمل جبار وخارق يُنتظر إنجازه، تتمثله جيدًا العقول الواعية من أجيال مختلفة يجمعها تجانس الأفكار والإدراك المتقارب أكثر من الجهود المشتركة، فهي وللأسف، مشتتة ومنكفئة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

السلميّة سيدة موقف الجزائريين ضد عهدة خامسة لبوتفليقة

فشل المعارضة في تحديد مرشّح توافقي يحرك الشارع الجزائري