22-ديسمبر-2021

الكاتب والمخرج المسرحي اللبناني يحيى جابر (فيسبوك)

كان يحيى جابر يغيظني كثيرًا خلال إقامتي في بيروت. يكتب شعرًا ومسرحًا، لكنه بخلاف ما كنت آمل وأتوقع، يكتب كل هذا ليثبت لي "شخصيًا" أن أحلامي أضغاث، وأن كل جهودي التي أبذلها، مضنى، لا قيمة لها. فذات يوم، وليس يومًا بعيدًا، سأنكس راياتي كلها، وأمضي في صمتي وخجلي حتى أخمص قدمي.

لقد تحول الساخر منا إلى ممثل. لقد دخل قبلنا في عالم ما بعد الهاوية. ونحن ما زلنا في مرحلة سقوطنا الحر نحوها

يحيى جابر كان يكتب استحالتنا. لربما كان يرى نفسه ويرانا معه، جيلًا ملعونًا، مصابًا بمرضٍ وراثي لا شفاء منه. وكان يسخر من نفسه ومنا ومن أحلامه وأحلامنا، ليقول لنا بدون مواربة: اضحكوا ما استطعتم إلى الضحك سبيلا. اضحكوا من أنفسكم أولًا، ومن آبائكم وأمهاتكم والعلامات التي وضعتموها على الطريق الذي لن تصلوا إلى أي محطة من محطاته أصلًا.

اقرأ/ي أيضًا: أن تكون دومًا على صواب!

كنا جميعا أبناء جيل خارج من الحرب. وحين أتحدث عن جيل حربي، أعني جيلًا محاربًا. بعضنا لم يكن يفكر في سني فتوته أنه سيكون كاتبًا أو شاعرًا أو مسرحيًا ذات يوم. لقد ولجنا هذا العالم بوصفنا محاربين، ولم نكن يوم ولجنا هذا العالم الدامي، نفكر أننا سنغادره موتى أو أحياء.

لكن الحرب خذلتنا. انتهت على حين غرة وتركتنا بلا أمل. وكان علينا أن نربي آمالًا جديدة وأن نخترعها من الصفر. هكذا كتبنا ندمنا، وكتبنا ما اعتبرناه دروسًا يمكن أن يستفيد منها أبناء الجيل الذي يلينا، فلا يدخلون حربًا ستتوقف فجأة في منتصف الطريق وتتركهم بلا أمل. يحيى جابر من بيننا، كان يكتب سخريته من نفسه. كان رفيقًا بنا، لم يسخر منا، ولم يحتج علينا كما فعل مع أساتذتنا، الذين كانوا يغررون بنا للدخول في عالم الأستذة على أنفسنا، وإعطاء الدروس لمن يريد ومن لا يريد. ببساطة، كان يدرك في عمق سخريته أننا سنعود خائبين. وها نحن قد عدنا. لكننا لم نجده هناك، حيث تخيلنا أنه سيبقى.

عدنا خائبين، وها نحن نكتب خيباتنا، واحدًا بجوار الآخر. نكتب الخيبة من ثوراتنا، من سذاجتنا السياسية، من أشعارنا التي ظننا أننا سنغير العالم بإيقاعها، من مقالاتنا التي خمنّا أنها ستفتح لنا بابًا إلى العالم الواسع. وحين بدأت السخرية تأخذ بتلابيبنا، وربما يجدر بي أن أتكلم عن نفسي فقط ولا أجمل كتاب جيلي وفنانيه بهذا الحكم، وجدناه في مكانٍ آخر.

لقد تحول الساخر منا إلى ممثل. لقد دخل قبلنا في عالم ما بعد الهاوية. ونحن ما زلنا في مرحلة سقوطنا الحر نحوها. ها هو يقف أمام سيخ الشاورما ويغني له اشتياقًا. في وقتٍ أحاول شخصيًا أن اكتشف علل الديمقراطيات وأمراضها، وفي وقت يبحث يوسف بزي المخنوق في بيروت، عن موقع القبر الذي يريد أن يريح فيه أحلامنا جميعًا، فيما غاب فادي أبو خليل عن أنظارنا وأسماعنا، وتركنا على حافة اليتم.

يحيى جابر كان يكتب استحالتنا. لربما كان يرى نفسه ويرانا معه، جيلًا ملعونًا، مصابًا بمرضٍ وراثي لا شفاء منه

يحيى جابر يسبقنا بخطوة. لكنها خطوة معبرة. لا أعرف، ولا أستطيع أن أعرف إن كان الموقع الذي يجثم فيه الآن يبعث على الألم أكثر من الموقع الذي نجد، نحن مجايليه، أنفسنا فيه. لكنه سبقنا بوجع على الأقل. لقد أنجز كل أوجاعنا قبلنا، وها هو ينظر إلينا من موقعه، ليقول: تمسكوا بالسخرية أيها الحمقى. هي حبل النجاة الوحيد. لأنكم ما أن تتمسكوا بها حتى تدركوا أن الحياة، حياة جيلنا على الأخص، ليست أكثر من إحباط متواصل. وأن سبيلكم إلى عيشها لن يكون إلا بمعاقرة السخرية المرة. السخرية من كوننا ولدنا في هذين المكان والزمان، وحسبنا أننا نستطيع أن نصبح نجومًا، لأننا ببساطة نكتب ونقرأ.

اقرأ/ي أيضًا: سعادة إيلون ماسك الإلهية

ابتسم أنت لبناني. هكذا أمرنا منذ عقود. لكننا ما زلنا عبوسين كأساتذة الثانوية. ونحسب أن السعادة والبهجة ممكنتان، وأن تطليق القلق ممكن في بلاد أحرقنا نصفها بأيدينا، وما زلنا نزعم أننا ضحاياها.   

 

اقرأ/ي أيضًا:

صحراء اللغات

قصّة شَعر شيرين