15-نوفمبر-2015

جهاد عورتاني/ فلسطين

سهلٌ جدًا أن نقول إن إرهاب داعش لا يمثل المسلمين وفق فهم معين يخصنا نحن للإسلام ولما نرى أنه يجب أن يكون عليه المسلمون، لكنك إن تبنيت هذا الموقف فستجد صعوبة أيضًا في اعتبار داعش خارجين تمامًا عن مظلة الإسلام إلى الكفر، لأنني أنا وأنت نعلم أن ما تفعله داعش له "تخريجاته" وفق نصوص يؤمن بها الجميع وأنه ليس فعلًا علمانيًا بحتًا منبتًا عن أي سياق يتصل بالدين في أي مستوى من مستويات فهمه.

ليس داعش صنيعة فهم خاطئ للإسلام، لكنه نتاج تربيتنا الدينية لجيل لا يتشكك، لا يتمرد، لا يتناقش

يمكننا أن نكون أكثر مصداقية ونقول إن ما تفعله داعش لا يعبر عن "جميع" المسلمين، إقرارًا بواقع أن الغالبية العظمى من المسلمين في العالم لا يؤيدونه ولا يرونه ذا مشروعية (ليس بالضرورة لأسباب دينية فقط بالمناسبة)، لكنه في نفس الوقت يعبّر عن "بعض" المسلمين الموجودين بيننا، ولهم دوافعهم العقلية والنقلية وراء ذلك، ويجب أن نعترف إذا كنا نريد الحل بأن لدينا مشكلة ما.. تتمثل في أن ظروفًا معينة اجتمعت في بيئتنا وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية أوصلت بعضًا من الناس إلى درجة ارتكاب أبشع الجرائم دون أن يخافوا الله أو يندموا على ذلك، بل إنهم يفعلونها بقلوب مطمئنة بالإيمان ومستقر في قرارة نفوسهم أنهم يطبقون الإسلام التطبيق الأمثل والأكمل..!

لن أقول لك مثلما يقول البعض إن المشكلة في التراث، فأنا لست من المؤمنين بتنقية التراث أصلًا، ولكنني من المؤمنين بالحوار مع التراث، وعدم التلقي منه بتبعية واستسلام، ولكن بندية وجدال، فالمشكلة في رأيي هي فيمن يقرأ شيئًا معينًا من التراث ثم يعيد تصديره وإنتاجه بآلية معينة لا تقدمه إلى القارئ بوصفه "مجرد تراث"، ولا تُربي دارسه على الجدل والنقاش والتفكير في المادة التي أمامه، بل تربيه تربية التابع المقهور المنبهر إلى حد الانبطاح والمستسلم إلى ما يُفرَضُ عليه فرضًا باعتباره "الحق المبين" بغير جدال، ثم عندما يصبح هذا القارئ أو الدارس ذا بأس وقوة يريد عندئذ أن يفرض على الآخرين تصوراته عن هذا "الحق المبين" بالقهر نفسه، ودون أن يجادله أحد، أو يجادل هو ذاته فيما يفعل.

ليس داعش صنيعة فهم خاطئ للإسلام وُلِدَ بمحض الصدفة ذات فجأة، لكنها في جانبها المرتبط بالدين نتاج تربيتنا الدينية لجيل لا يتشكك.. لا يتمرد.. لا يتناقش.. لا يعيد النظر.. يتعلم بالقهر.. ويقرأ بالقهر.. ولا يجرؤ على أن يُعمل عقله فيما يراه ويسمعه أبعد مما رُسِم له وحُدِّد له مسبقًا.. وهذه المشكلة للأسف ليست قاصرة فقط على داعش وحدها أو من ينتسبون إليها، بل هي من أمراض التعليم الديني على طول العالم الإسلامي وعرضه.

توجد بالطبع أسباب أخرى دنيوية تدفع لتبني الفكر الداعشي، أقصد هنا ظروف الاقتصاد والسياسة والجغرافية والتقلبات النفسية الخاصة لدى الأفراد، هذه الأسباب توفر مبررات دنيوية للعنف، لكنها لا تتجذر وتتخذ قالبها الديني إلا عندما تتلاقى مع تعليم شرعي فاسد قائم على القهر والتلقين وانعدام التشكك والتفكير، وهذا النوع من التعليم الديني التلقيني الفاسد إن لم يخلق لنا داعش.. خلق لنا علي جمعة..!

فقهاء السلاطين المؤيدون لاستبداد الحكام القتلة هم الوجه الآخر لداعش

إن فقهاء السلاطين المؤيدين لاستبداد الحكام القتلة هم الوجه الآخر لداعش، هم نتاج ظروف اقتصادية واجتماعية ونفسية وسياسية أخرى مغايرة لداعش، لكنهم أبناء التعليم الديني ذاته، أبناء منظومة شديدة المناهضة للعقل والاجتهاد والتفكير، شديدة الرجعية في كل ما يتعلق بحقوق الآخر وحرياته، ومازلنا مع الأسف نرى هؤلاء في كل مكان، فنقف عند الأفراد ننتقدهم وعند الظواهر ندينها فرادى وبالقطعة، ونكتفي كل مرة بالقول إنهم لا يمثلون ولا يعبرون ولا يشرفون وغير ذلك من كلام تطييب الخواطر ودفن الرؤوس في الرمال، وننفض عن المسألة قبل أن نضع أيادينا على جوهر المشكلة.

كلنا في النهاية مجرد نصوص، لسنا بشرًا حقيقيين نعيش في عالم اليوم، نرفض بصرامة أن يمتد عقلنا إلى تغيير أو تطوير أي شيء يتصل بعلاقة ولو بعيدة بالشأن الديني، حتى في الأمور يسهل تغييرها، خطبة الجمعة منذ مئات السنين لم تتغير عباراتها الممطوطة والمكررة إلا شيئًا يسيرًا جدًا، نحن غارقون في مستنقعات من الحفظ بلا فهم، والخوف من العقل ومن الحرية ومن التجديد.

حرروا التعليم الديني إن كانت لديكم الإرادة لرفع الغطاء الديني عن الإرهاب، فالجريمة لا تتغذى إلا على عقيدة دوغمائية صلبة كالفولاذ، إن الذي يفكر يتردد والذي يتردد يتفهم الآخرين بتقمص مواقفهم في جداله مع نفسه، والذي يتفهم الآخرين لا يطلق النار عليهم ولا يفجر فيهم نفسه. حرروا التعليم الديني لكن أثناء ذلك تذكروا أن مشكلتنا ليست فقط في ذلك، وأن العنف قد يستمر ولو بأيديولوجيا علمانية في حال ما لم تُرفع المظالم وتنتهي الأسباب الأخرى التي تساهم في خلق جريمة الإرهاب المسلح.

اقرأ/ي أيضًا:

مَن يُنظم انهيار السيسي؟

هل توجد اليوم ديمقراطيات حقيقية؟