23-أكتوبر-2019

يانيس ريتسوس (1909-1990)

يانيس ريتسوس (1909-1990) شاعر التفاصيل المُهملة، أو صيّاد التفاصيل المُدهشة، أو شاعر البساطة الخادعة كما سمّاهُ بيتر بين في تقديمه للمختارات التي نقلها نيكوس ستانغوس إلى اللغة الإنجليزية. مُختاراتٌ ستجعل الشاعر اليونانيّ مقروءًا بكثرة إنجليزيًا، تمامًا كما هو الحال عربيًا. وفرة ترجمات شعر ريتسوس إلى لغة الضاد، منذ ترجمة الشاعر العراقيّ سعدي يوسف المبكّرة لمختارات من شعره تحت عنوان "إيماءات"؛ لم تصنع لصاحب "جرّار" (1934) قرّاءً فقط، وإنّما دفعت بشعراء جيل السبعينييات والثمانينيات إلى التأثّر بأشعاره، واقتفاء أثره، إلى أن بات لهُ أثرًا في الشّعر العربيّ المُعاصر. أثر لا يُمكن محوهُ.

وفرة ترجمات شعر ريتسوس إلى لغة الضاد دفعت بشعراء جيل السبعينييات والثمانينيات إلى التأثّر بأشعاره

ريتسوس الذي خرج مُبكّرًا على تركة أسلافه الشعراء، واختبر أيضًا الحياة في معسكرات الاعتقال التي انتقل إليها عقب انقلاب سنة 1948؛ اكتشف هناك، في المعسكرات نفسها، هوايته في تحويل الأشياء العادية من حوله، المُفرطة في عاديّتها، إلى أرواح حيّة، وإن مجازيًا. لن تكون المطرقةُ مجرّد مطرقة داخل قصيدته، ولن يكون المصباح مصباحًا، ولا السرير سريرًا. صفاء الأشياء المذكورة هذه سترتبط، كما قصيدة صاحب "يوميات المنفى"، بغموضٍ لا ينبع إلّا ممّا ترسمه رؤياه.

اقرأ/ي أيضًا: الشعر روح الرفض في زمن الاستبداد

هكذا، لن يكون قول بيتر بين بأنّ يانيس ريتسوس شاعرُ بساطةٍ خادعة محلّ اختلافٍ مع أحد، ولم يأتِ من فراغٍ أيضًا. صاحب "الممشى والدرج" تنقّل بخفّة بين السهولة والتعقيد لإنجاز قصائده. السهولة الظاهرة في القصيدة، ليست إلّا شراكًا مُحكمًا نصبهُ الشيوعي النبيل للقارئ الذي سيلجُ قصيدته عبر مقدّمة عادية، قبل أن يجد نفسه متورِّطًا، شيئًا فشيئًا، جُملةً وراء جُملة، وحرفًا خلف حرف أيضًا، في لعبة/ متاهة شيّدها ريتسوس بحزمٍ من التفاصيل اليومية المُنتقاة.

خروج ريتسوس على تركة شعراءٍ سبقوه، وآخرون جايلوه أيضًا، لن يكون خروجًا شكليًا إطلاقًا. في البدايات، بدا مؤلّف "صفاء شتوي" غريبًا عنهم، قبل أن يصير منافسًا شرسًا. هكذا، لن يجد مواطنه كوستيس بالاماس، أحد أعمدة الشعر اليوناني الحديث وأحد من اختبروا أيضًا شراك وفخاخ ريتسوس، حرجًا في أن يُخاطبهُ قائلًا: نتنحى جانبًا، كي تمرّ أنت، أيها الشاعر. ولن يجد الشاعر التشيلي بابلو نيرودا كذلك، يوم نال جائزة "نوبل للآداب" (1971) التي رُشِّحَ لها ريتسوس مرارًا، سببًا يمنعه من التوجّه للأخير بالقول "أعلم تمامًا أنّ ذلك الإغريقي يستحقّها أكثر منّي".

ولن يترّد الشاعر الفرنسي لويس أراغون الذي قاد حملة تضامن لإطلاق سراح ريتسوس بعد أربعة عقودٍ من الاعتقال والحرمان والمنافي البعيدة، في تقديم ترجمات أشعاره المنقولة إلى الفرنسية، حيث قال "مضى زمن طويل لم يهزّني فيه شيء كما هزّني هذا الشعر الصادم بعبقريته. من أن يجيء هذا الإحساس بالرعشة في الشِّعر؟ حيث الأشياء ذاتها تؤدّي دور الأشباح".

ترجمة سعدي يوسف المبكّرة لمجموعة "إيماءات"، فتحت الباب على أقصاه لترجماتٍ أخرى لن تتوقّف. مجموعات ومُختارات وأعمال كاملة ستنقلُ تباعًا إلى لغة الضاد، إمّا عن لغةٍ وسيطة، الإنجليزية، أو عن اللغة اليونانية مباشرةً. قبل أيام، صدرت عن "الهيئة المصرية العامّة للكتاب" مختارات شعرية جديدة للشاعر اليوناني يانيس ريتسوس بعنوان "جيران العالم"، ترجمة خالد رؤوف. المختارات التي نقلها المترجم المصري إلى العربية من اللغة اليونانية مباشرة، حملت عنوانًا مأخوذًا من أحد دواوين ريتسوس، وجمعت بين دفّتيها قصائد مختلفة من أشعاره التي لم تغطِّ نتاجه كاملًا، ولكنّها في المقابل غطّت مراحل مهمّة من تجربته الشعرية.

اشتغل خالد رؤوف، مطوّلًا، وأثناء ترجمته للمختارات، على أن تبدو النسخة العربية شبيهة بالنسخة الأصلية. وأن تحمل أيضًا ما هو موجود فيها، وأن تظلّ النصوص المنقولة إلى العربية محتفظةً بكامل سماتها وخصوصيتها أيضًا، بحيث تولّد عند القارئ العربي ما سبق وأن ولّدته في ذهن من قرأها بنسختها الأصلية، ولغتها الأم.

لا يزال الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس ناشطًا عربيًا، ولا يزال الوقت مبكّر على خفوته

يذكر خالد رؤوف أنّ المختارات تعتمد في أساسها على مجموعة شعرية نُشرت ليانيس ريتسوس سنة 2000، بتقديم الباحثة اليونانية خريسا بروكوباكي، مؤكّدةً في تلك المقدّمة التي نقلها المترجم المصريّ إلى اللغة العربية أنّ الباحث عندما يكون بصدد إنجاز مختاراتٍ ما من أعمال شاعرٍ بمكانة يانيس ريتسوس، وعطائه وتأثيره أيضًا، فإنّه من غير الصحيح أن يبني اختياراته على الجمال أو الإعجاب أو الذوق الشخصي، وإنّما على قيمة ما تقدّمه النصوص المنتخبة، إن كان ذلك للشعر والأدب اليوناني أو العالمي. من هنا تحديدًا، من هذه النقطة، استندت بروكوباكي، في اختيارها للنصوص، على الفترات التي تُعدّ فترات نضج الشاعر اليوناني.

اقرأ/ي أيضًا: استسلام الشعر

تأتي المختارات المترجمة بعد عامٍ على صدور الجزء الأول من الأعمال الكاملة ليانيس ريتسوس عن "دار أروقة" بترجمة العراقي جمال حيدر. وبعد شهورٍ قليلة على إصدار "دار المدى" لمختارات من شعره تحت عنوان "قدح حليبٍ دافئ"، ترجمة هاشم شفيق، وكذلك إصدار "منشورات الجمل" لعدة كتب من ترجمة الشاعر والمترجم العراقي محمد مظلوم، ما يعني أن الشاعر اليوناني لا يزال ناشطًا عربيًا، ولا يزال الوقت مبكّر على خفوته.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار| الشاعر بيتر نوبيرغ: الشعر السويدي معادٍ للاستهلاك

الأدب "التركي" بالإنجليزية.. نادٍ لطلاق اللغة الأم؟