16-يونيو-2016

الفخراني في المسلسل

الشيطان يظهر في رمضان.. عنوان مناسب لنقد مسلسل "ونوس"، بطولة يحيى الفخراني ونبيل الحلفاوي وهالة صدقي، وتأليف السيناريست عبد الرحيم كمال. يغرق المسلسل في تفاصيل غواية الشيطان، الذي يجسّد دوره الفخراني، لياقوت -الحلفاوي- الذي استسلم في البداية، ثم قرّر أن يطرق باب التوبة ويعود إلى الله من جديد، فينصب "ونوس" الشراك حول أولاده وزوجته، يحول المتديّن إلى شيخ فضائيات مودرن يتلاعب بالقرآن والسنة لأجل حسابه في البنك، ويلعب لسائق التاكسي في العداد فتتضخّم حصيلة يومه، ويصل لابنه، طالب الموسيقى، فيغويه بالغناء في الأفراح. يأخذهم جميعا إلى حياة أخرى ثم يهبط بهم لأسفل سافلين عقابًا لياقوت على رفضه العودة لطريق الحرام. 

في "ونوس"، نرى كيف كيف يغوي الشيطان بملذات الدنيا، وكذلك طريقة انتقامه ممّن يرفض أن يكون من أباليسه

يصوّر المسلسل رحلة الشيطان إلى قلوب الحائرين بين الحلال والحرام، كيف يغويهم بملذات الدنيا، وطريقة انتقامه ممّن يرفض أن يكون أحد أباليسه في الدنيا، ولا يزال المسلسل في حلقته العاشرة، ويجد ردود فعل واسعة بالقاهرة تضعه في مقدمة مسلسلات رمضان. 

اقرأ/ي أيضًا: 4 من أهم المسلسلات السورية في الموسم الماضي

الشيطان يسكن التفاصيل، وعبد الرحيم كمال أيضًا. ليس غريبًا اعترافه أنه صوفي من مريدي الإمام صلاح الدين الحسني، لم يجد نفسه وريثًا لأب من دراويش الأضرحة والموالد، اختار الطريق بنفسه ومنح قلبه حرية اختيار "الطريقة" فكانت "التيجانية".

ولأن عبد الرحيم صوفي حفظ الأوراد، وشرب "العراديب"، فضَّل أن يصفي قلبه لله، ويغرق في الحكمة، ويرى ما لا يراه البشر، ويختبر آيات الشيطان لكي تطمئن روحه أنه لن ينحرف عن الطريق، فالصوفية وأهل الله لا ينتظرون النتائج، ولا ينتشون على عتبات محطات الوصول.. لأنهم يريدون الوصال، ويحبّون الطريق.

ستسأل.. كم مرة طارده الشيطان، وزيّن له الخطيئة، كم مرة رآه، ودخل معه في معارك لا تنتهي بانتصار أحدهما، تنتهي فقط ب"هدنة"، فالشيطان ليس مهزومًا لأنه يقاوم، ولا ينتهي ولا يموت، يظلّ يحوم بشباكه حول الضحية بنعومة. شيطان عبد الرحيم كمال أكثر قربًا من الشيطان الذي يسكن حياة البشر، ويقولون إنه محبوس في رمضان، بشرته ليست حمراء، رأسه لا تحمل قرنين ولا يسنّ أسنانه قبل أن ينوي غوايتك.

على العكس، وجه الشيطان بشوش وجميل، وعينه خضراء، ودمه خفيف، يفتن ضحاياه بالحب، يأخذك إلى مصيرك -الذي يخطط له- بود، ويلقي بك في نار جهنم بعد صداقة طويلة، ولذلك ظلّ "فتنة" الاسم المبدئي لمسلسل "ونوس" لفترة طويلة حتى ركع صناع العمل لغواية الشيطان، وأطلقوا عليه اسمه.

السؤال الآن.. لماذا "ونوس"؟

جعل عبد الرحيم كمال للشيطان نصيبًا من اسمه، فإبليس "ونس" في كل وقت، وسهراته "أنس" يبدأ ولا ينتهي، ونصائحه "وسوسة"، وهو -وفقًا للقرآن- وسواس خناس. "ونوس" حلّ وسط بين الأنس والوسواس يجمع كل صفات الشيطان، وصفحاته السوداء، التي لا تبدأ فقط بـ"ياقوت" كبير العائلة العاصي، الذي يعقد صفقات مع إبليس ويقرر أن يعود من طريق الغواية "تغور أنت وجنتك"، فيرهبه "أنت فاكر إنه هيسامحك؟"، ويشككه في رحمة ربه، التي سعى إليها "باب توبة مين اللي مفتوح؟.. ده كده مخلوع"، ويفتك بآخر آماله في النجاة "هافضحك قدام عيالك وهاسلّطهم عليك، هازق كل واحد وواحدة منهم في حفرة مش هيطلع منها أبدًا، هتشوفهم وهم بيقعوا واحد ورا التاني، وهتشوف فيهم أيام سوداء".

"ونوس" حلّ وسط بين الأنس والوسواس يجمع كل صفات الشيطان، وصفحاته السوداء

ينقلب الشيطان في لحظات العودة، من الحنان والحب وتزيين الخطيئة، يتحوّل من وَنَس إلى وسواس يهدم المعبد على رؤوس الجميع. أقنع "ونوس" ابن "ياقوت" الأكبر أنه رجل علم وصاحب كرامات، وأغرقه في حب "بوس الأيادي" الذي أفسد حياته، ولعب لـ"عزيز" سائق التاكسي في العداد لزيادة الأجرة، وأغوى "نبيل"، مطرب كورال الأوبرا بالشهرة والمجد.

اقرأ/ي أيضًا: "القنّاص الأمريكي".. قنّاص الخدع

لم يرحم "ونوس" عائلة "ياقوت".. حتى زوجته انشراح طاردها برسائل غرامية على الموبايل فاستسلمت له.. وبدأ طوفان اللعب على غرائز وشهوات النفس البشرية يحرك الجميع، وسقطت العائلة، التي ترمز إلى العالم، في غواية إبليس و"ونوس".. وقبلهم جميعًا، عبد الرحيم كمال. 

اختراق عالم السيناريست الدرويش

مرَّ اللقاء الأول لعبد الرحيم كمال بالجمهور مرورًا عابرًا بفيلم "على جنب ياسطى" حين أسَّس لمدرسة جديدة في "سيناريو العبث" بمشهد واحد.. لحظة ركوب ملك الموت التاكسي على هيئة رجل كبير سيأخذه السائق إلى أقرب مسجد لصلاة الفجر، لكنه قال له "أنا عزرائيل، وهقبض روحك، ومحدش هيشوفني غيرك".. يرتبك السائق، الذي قدّم دوره أشرف عبد الباقي، ويهرب، ليكتشف أنه ليس ملك الموت، إنما زعيم عصابة سرقة سيارات.

في "الرحايا"، لم يتوقف أحد عند السيناريست، سيرة نور الشريف الذي طارده عبد الرحيم كمال سنوات ليقدمه في أحد مسلسلاته كانت طاغية على السيناريو نفسه، لكن وتر الصوفية والخيال والتراث الذي بدأ ينسجه في المسلسلات التالية كان رقيقًا، وجذابًا ومستفزًا، والرابط الوحيد هو.. عبد الرحيم كمال.

في "شيخ العرب همام" استلهم شخصية جابر، قاطع الطريق (محمود عبد المغني)، من حكاية توبة إمام التابعين، الفضيل بن عياض، الذي أصبح بعدها من أعلام التصوف. وفق ابن عساكر، كان الفضيل قاطع طريق بين أبيورد وسرخس، وسبب توبته أنه عشق جارية، وبينما هو يقفز على جدار ليصل لها، سمع إماما يتلو: "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله"، فقال: "يا رب قد آن"، ورجع فآواه الليل إلى خرابة بها رحَّالة قرر بعضهم السفر في الليل، لكن فريق آخر قال: "انتظروا للصباح.. إذا خرجنا الآن سيقطع الفضيل الطريق علينا".

في "الخواجة عبد القادر" حوَّل عبد الرحيم كمال أحد أبطال أحاديث النبيّ محمد إلى قصة من لحم ودم

سمع "الفضيل" كلام الناس عنه، الذي تحوَّل داخله إلى لوم وعتاب وعذاب، فقال: "أنا أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين هنا يخافونني وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، يا الله إني تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام". وتاب الفضيل بن عياض، ورقّ قلبه تحت أقدام جارية، وخاف أن يحاسبه الله على رعب الناس منه، وأصبح تابعًا، وقطبًا صوفيًا.. نفس ما جرى مع جابر، قاطع طريق "شيخ العرب همام"، الذي أحب ليلى، وعلى شبّاكها رقّ قلبه للقرآن، وتاب، وخرج إلى الطريق وليًّا من أهل الله، زاهدًا فيما سيأتي، ناسيًا ما مضى. 

هنا.. بطل حديث النبيّ 

في "الخواجة عبد القادر" حوَّل كمال أحد أبطال أحاديث النبيّ محمد إلى قصة من لحم ودم، وأطلق عليه اسم صابر الأعمى. والحديث عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة؟.. فقال: لا، فقتله فأكمل به مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة: "جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيرا قط"، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال: "قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له".. فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة".

اقرأ/ي أيضًا: يوسف الإمام.. جمهور المراهقين المصريين هم هدفي

بقدرة نبيّ، أراد الخواجة عبد القادر (هيرمان) لصابر الأعمى أن يدخل الجنة، وهو رجل شرير، هائم على وجهه، يستبيح أي بناية ليأكل ويشرب ويختلس ويقتل، فكان له ما أراد، ونجا من البوليس الذي كان يطارده.. وكانت نفس نهاية بطل حديث النبيّ.. دخل الجنة لأنه قريب من الأرض التي قصدها، بينما تعلم الأعمى الوضوء على يد الخواجة الصوفي الذي طهَّر قلبه وأنقذه من الضلال. 

لهذا خلق الله "ونوس"

كان على عبد الرحيم كمال أن يأخذ رموزه وشخصياته إلى عالم آخر.. لهذا خلق الله "ونوس". انتقل من رموز أحاديث الرسول، وحكايات التابعين، وأساطير الأولين إلى الأسطورة الأكبر.. غواية الشيطان. يمكن أن تضع ملخصًا سريعًا للمسلسل.. ما استدعاه كمال ليس أكثر من أشكال علاقة الناس بالدنيا.. قصة البشرية منذ بداية الخلق. قدّم الرموز دون سطحية، بداية من شجرة التفاح التي أكل منها ياقوت، والقصر الذي ورثوه، وربط الملاهي بالحياة، وسكنه في شارع قابيل، واللعب على وتر الاحتياج والغواية وغواية زوجة الأخ.. ووصل إلى محطة التوبة.. خالف البشر عهدهم مع الشيطان واقتربوا ورأوا الحقيقة.. فقر وزيف وضياع ورغبات مكبوتة.. واستسلم لغضب الشيطان، الذي وضعه عاريًا أمام نفسه لأول مرة.

حمى كمال مسلسل "ونوس" من أن يتحول إلى تماحيك في أسطورة (قصة) دينية مكرَّرة، وهي إبليس اللعين، ولم يقترب كثيرًا من "فاوست"، رواية ومسرحية الشاعر الألماني جوتة، وإن كان سرق "روح الفكرة". دخل عبد الرحيم كمال تحدي الغواية والتوبة، وانتصر لتحضير روح إبليس في رمضان!

اقرأ/ي أيضًا:

كيف تشاهد فيلمًا لتكتب عنه؟

إيليا سليمان.. كيف تصل العالمية بثلاثة أفلام فقط