19-يوليو-2023
في تقسيم

(Getty) حشد في إسطنبول

لا تشبه إسطنبول، بالنسبة لنا نحن السوريين، أية مدينة أخرى لجأنا إليها في تغريبتنا الطويلة. هي ليست كالقاهرة، ولابيروت، ولا عمان، بل لا تشبه حتى أية مدينة تركية أخرى، إذ لا يسعك إلا أن تنتمي إليها فور دخولك إلى ذلك الفضاء الإيقاعي، الموزون بالبهجة والفرح والصخب، المشتبك مع الحياة بانسيابية، تمنحك شعورًا خفيفًا، بأن العالم لا يزال بخير.

وبصرف النظر عن مجمل الأسباب السياسية التي حدّت من تواجد السوريين بكثرة، في عواصم عربية، كانت مؤهلة أكثر لاحتضان ملايين الهاربين من الموت، ظلت إسطنبول وجهة مفضلة كوطن مؤقت، يزحف نحوها مئات آلاف السوريين من داخل تركيا ومن خارجها، في تغريبة لعلها تكون هي الأقسى في التاريخ الحديث، لما صاحبها من موت بالجملة، قصفًا وإبادة وغرقًا وقهرًا.

بالنسبة للسوريين، إسطنبول كانت أشبه بتعويض عاطفي عن كل هذا الأسى، لم تبخل علينا بأن مدت إلينا مجالها العاطفي، فوقعنا جميعًا في غرامها، منحتنا فضاءً للعمل، وبيوتًا دافئة

إسطنبول التي كانت أشبه بتعويض عاطفي عن كل هذا الأسى، لم تبخل علينا بأن مدت إلينا مجالها العاطفي، فوقعنا جميعًا في غرامها، منحتنا فضاءً للعمل، وبيوتًا دافئة. منحتنا فرصة لإعادة ترتيب أوراق التاريخ المزيف، وذكرتنا بأننا كنا يومًا مواطنين في حمى الدولة العليا. لقد قربنا ذلك منها أكثر، وأمعنت الفجوات الزمنية في إسطنبول العصرية تأصيل هذا الشعور في داخلنا، فأنت لا ترى فقط مدينة عصرية صاخبة، فربما تأخذك فجوة زمنية، مستترة في شارع يوسف باشا، إلى مطعم حجري، لا يزال على الطراز العثماني، وربما تعيدك "تكية" منسية في منطقة الفاتح إلى أيام السلطنة والباب العالي.

هذه الفجوات الزمنية، لا تمنحك فكرة عن التاريخ، بل تمنحك التاريخ بالملمس والمشاهدة.

نعم عشقنا إسطنبول، واعتدنا هواءها وليلها، وتمكنت روحها العالية من جوارحنا، فنحن، أبناء الشرق، ضعاف أمام المدن ذات الطعم واللون والرائحة، وإسطنبول لها نكهة الحامض حلو، وألوان البهجة، ورائحة الموانئ والقلاع الشامخة. فكيف لنا، نحن السوريين، أن نقفز فوق ذلك كله، ونقتنع بأن علينا فهم السياق السياسي وحده لتفسير وجودنا فيها؟

لم يكن وداع إسطنبول هينًا علينا، ورغم وجودنا فيزيائيًا فيها، إلا أننا بدأنا وداعها ببطء وعلى مراحل. كلما اختلت موازين القوى المتحاربة على الأرض السورية، وانعكس هذا الاختلال إقليميًا ودوليًا، ابتعدت عنا خطوة، لنعود ونتمسك بها مع كل انتصار سياسي داخلي مناصر للاجئين وللقضية السورية من طرفها الثائر، لكن هذه العلاقة المتحركة جيئة وذهابًا أسقطت الكثير من مزاياها العاطفية في دواخلنا، وصرنا نكثر من التأسف والحنين، وندور علاقتنا بها على شكل استعادات لصورتنا ونحن أقوياء، ثوار غير مرتهنين، كنا في قلبها عندما كانت لنا قلوب تنبض، ولنا عيون ثاقبة تشخص نحو نصر قريب.

بدأ وداعنا الأكبر لها عندما خسرنا الحرب وتحولت الثورة إلى وجهة نظر سياسية بين متصارعين على السلطة، صرنا مهووسين أكثر بإثبات وجودنا الشرعي فيها، وصار خوفنا من انحسار التعاطف أو المكاسب للسياسيين الأتراك تجاه قضيتنا أكبر من خوفنا على قضيتنا ذاتها. هنا بدا ابتعادنا عن إسطنبول له صورة وملامح، صار مجسمًا بعد أن كان شعورًا، هذا كان وداعنا الثاني لها. أما وداعنا الثالث كان حقيقيًا وفعليًا، فمنذ أن بدأت محادثات أستانة للدول الضامنة "تركيا، روسيا، إيران"، أصدرت دائرة الهجرة التركية قرارًا يلزم أي سوري يحمل بطاقة حماية غير صادرة من ولاية إسطنبول على مغادرتها والعودة إلى الولاية التي منحته البطاقة، ومنع القرار السوريين من التنقل بين الولايات من دون إذن سفر محدود بمدة.

دفع هذا الإجراء آلاف العمال والحرفيين وعائلاتهم إلى مغادرتها مكرهين. أين يجد اللاجئون برجالهم ونسائهم وشبانهم فرصًا للعمل كالتي تتوفر في إسطنبول؟ وأين يجدون زخمًا للحياة مثل زخمها؟

حمل الجميع انكساراتهم وغادروها إلى ولايات تركية الجنوبية، والساحلية بنسب أقل، بينما ظلت النسبة الأكبر متشبثة بخيار البقاء فيها، وانتظار ما يمكن أن تحمله القادمات من الأيام. فحملت الكثير والكثير؛ انقلاب عسكري فاشل قذف بتركيا كلها إلى حافة الهاوية ثم أعادها، سوف يحدثك أي سوري عاش ذلك اليوم أول الأمر عن مشاعره، لن يسرد عليك ما حدث فقط، بل سوف يحدثك عن الحزن العميق الذي لف إسطنبول وهي خاوية، عن قلبه المنفطر وهو يشاهد الدبابات تعبر جسر البوسفور، وعن مهابة التكبيرات المنبعثة من شرفات المنازل ومن الشوارع الفرعية فجر الخامس عشر من تموز 2016. وسوف يضيف لك في آخر الحكاية خوفه كسوري على نفسه من المجهول، هل سنقتل، هل سيقذف بنا قسرًا إلى سوريا، ما الذي سيحدث؟

سمعت وقتذاك أن بعض السياسيين كانوا وراء فشل الانقلاب، إلا أن الله كان معهم في ذلك اليوم، لأن تركيا كانت مع المستضعفين والهاربين من الموت، وهو يقصد السوريين.

رغم ذلك، سوف يكون الوداع الأخير لإسطنبول لئيمًا وقاسيًا ومهينًا، لأنه وداع مكتمل من الداخل، ومطاردة وتخفٍ من الخارج. هو ليس وداعًا دراميًا، ولا رومانسيًا إطلاقًا، هو خواء في الداخل تجاها ووحشة ورعب منها، هو ليس وداعًا عظيمًا ولا تاريخيًا، وداع لن تحتفظ منه الذاكرة السورية بشيء، سوى مشاهد الذل والاستهانة بالبشر، وامتهان كرامتهم. وداع لن تجد درويشًا سوريًا يكتب عن لحظته ويأسطرها، كما فعل محمود درويش حينما ودع الفدائيون الفلسطينيون ومنظمة التحرير بيروت. بكوها وغنوا لها وهم خارجون، ورغم الالتباس والتشكيك بكتهم بيروت وهي لا تدري إن كان من تودعهم أبناءها أم أعداءها.

ولأن السوريين لا يجيدون وصف "تفاحة للبحر" سوف يكون وداعًا هزيلًا مضجرًا، بلا تلويح ولا أغان. فاليوم يربط المرحلون قسرًا بمشابك بلاستيكية إلى ببعضهم البعض، وكأنهم ديكور في مسرحية انتهى عرضها، أكتاف ووجوه متراصة بلا أذرع، لا يحملون شيئًا سوى ورقة في أيديهم تقول بأنهم عائدون طواعية، بينما تروي وجوههم الشاحبة قهرًا صامتًا لا يوصف.

هذا وداع أخير، لأنه باهت لا روح فيه، يشبه الرجوع المتكرر في العلاقات الفاشلة، الذي يستنفذ كل ما تبقى من عاطفة فيأتي الوداع باردًا وقويًا وواضحًا.

وداعًا إسطنبول، أحببناك، ملكت قلوبنا وملأت عيوننا، لكننا لا حاجة للإنكار والمكابرة، ثمة شيء ما كسر ولا يمكن إصلاحه، سنظل نحبك، لأننا أحببنا أنفسنا فيك.. وداعًا!