23-أبريل-2021

للإنجليزية هيمنة عالميّة لا تنازعها عليها أية لغة أخرى (Getty)

فلنتفق بداية على ضرورة تعلّم الإنجليزية قبل ما سواها، وهذا أمر يتّصل بالجانب النفعيّ المتعلق باختيار البدء بتعلّمها والسعي لتحصيل مستوى يضمن الراحة معها والثقة في التفاعل معها. فتعلّم الإنجليزية باقتدار فوق المتوسّط لم يعد مجرد خيار يمكن تأجيله والتخلّي عنه، فهي اللغة العالميّة الأولى بلا منازع، ولا يقترب منها في نفعيتها التواصلية وانتشارها وهيمنتها أية لغة أخرى.

تعد الإنجليزية اللغة العالميّة الأولى بلا منازع، ولا يقترب منها في نفعيتها وحضورها أية لغة أخرى.

فعلى الرغم من كونها الثالثة في عدد المتحدثين الأصليين بها بعد الصينية والإسبانية، إلا أنها الأولى، بلا منازع أيضًا، في عدد الناطقين بها كلغة ثانية حول العالم، بحوالي 700 مليون إنسان، تليها الفرنسية بأقل من 150مليون، ثم الإسبانية، وبعدها الألمانية، ثم الروسية. وصحيح أنّ الصينية هي الأكبر من حيث عدد المتحدثين بها كلغة أم، إلا أنّها لا تنازع الإنجليزية في الحضور كخيار مفضّل ومسيطر في العديد من السياقات، ولاسيما على شبكة الإنترنت. كما تتقازم الأرقام أكثر بين الإنجليزية واللغات الأخرى على صعيد حصّة الإنجليزية في قطاع تعلّم اللغة أو السياحة اللغوية، إضافة إلى تفوّقها في أعداد من يتقدمون لاختبارات الكفاءة بها سنويًا. وحتى على تطبيقات تعلّم اللغة، مثل دولينغو، فإن الإنجليزية تحتفظ بالصدارة، لتكون اللغة الأكثر إقبالًا عليها في 121 دولة ينشط بها مستخدمو التطبيق.

الأرقام ليست مفاجئة بالطبع، ولها أسبابها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي جعلت هذه الهيمنة أمرًا واقعًا لا جدوى في إنكاره أو الاستخفاف به. فهي إحصاءات توضّح الواضح، وتؤكّد على مقدار الفرص الممكنة حقًا، والمتخيّلة، مهنيًا وأكاديميًا والمرتبطة بشكل وثيق، وخانق، بتعلّم الإنجليزية وإتقانها، كما تذكّر بالفجوة الواسعة الحاصلة، والتي تزداد توسعًا، بين من ينطق هذه اللغة بإتقان وبين قطاعات واسعة من الناس ممّن يحرمون من التعلّم الجيد، والذي يتطلّب بالضرورة اليوم تعلّم هذه اللغة العالمية التي غشمت بقيّة اللغات وكادت تواريها هيمنة وسيادة، في حالة من الإمبريالية اللغوية التي تعتاش على استدامة تفوّقها، وتفوّق الطبقات التي تتغلغل فيها.

أمّا المتحدّث بالإنجليزية اليوم، فليس بحاجة، عمليًا، لتعلّم أية لغة أخرى. والأسباب هي ما ذكر أعلاه، بالإضافة إلى التطورات الهائلة الحاصلة على صعيد الترجمة الآلية، والتي تمهّد الكثير من العقبات الضئيلة المتبقية أمام الأنجلوفوني للتواصل مع الآخرين، كاستعراض للياقة وحسب، أو فهم رسالة وصلته بالخطأ بلغة أخرى. وإن كان هذا ينطبق على متحدث هذه اللغة، كلغة مكتسبة أولى، فإنه ينطبق إلى حد كبير كذلك على من تعلّمها كلغة أجنبية.

اقرأ/ي أيضًا: كيف دخل تقليد "كلمة العام" إلى الإنجليزية وما الذي تغيّر في عام الجائحة؟

وأيًا كان الموقف من التعددية اللغوية وأهمّيتها على المستوى السياسي والثقافي والإنساني، فإنه يصعب نفي حقيقة أن تعلّم لغة جديدة، بعد الإنجليزية، يظل محدود الفائدة على المستوى التواصليّ المباشر، إن لم تكن تعمل في مجال يتطلّب كفاءة عالية بتلك اللغة. فليس ثمّة لغة جديرة اليوم بحمل وصف "بطاقة عبور" سوى الإنجليزية، فهي الخطوة الضرورية الأولى للتطور المهني والتميّز الأكاديمي، وهي "لعنة" مشتهاة، سواء للأسرة التي تضطر لإنفاق مبالغ طائلة لضمان تعليم أبنائهم الإنجليزية، أو لأولئك الذين لم يحظوا بفرصة تعلمها، وظلت بالنسبة إليهم حلمًا معلقًا تتوقّف عليه الكثير من الفرص. 

اسأل أي شخص زار أوروبا أو انتقل للعيش فيها، وسيخبرك أنّ جهده في تعلّم طرف من اللغة الرسمية للبلاد ذهب سدىً، لأن الكثيرين يتواصلون بالإنجليزية، وبكفاءة عالية، كما هي الحال في ألمانيا وهولندا مثلًا، وفي معظم أوروبا الغربية، حيث يحصل الطلبة على تأهيل بالإنجليزية منذ الصفوف الأولى، ما يجعلها لغة ثانية مكتسبة لهم، لا يجدون أي صعوبة في التعبير عن أنفسهم باستخدامها، في شتى السياقات. وليس الأمر مقتصرًا على أوروبا بالطبع، فالإنجليزية لغة رسمية في 59 دولة حول العالم، وهي اللغة الوسيط السائدة في عشرات الدول الأخرى، وربما ناهز عدد من يتحدثون بها حول العالم ملياري إنسان، وليس ثمّة في تاريخ البشريّة ما يشابه هذه الهيمنة اللغوية الكونية للسان واحد كما هو حاصل للإنجليزية اليوم.

هكذا إذن، ومن هذه الناحية وحسب، يمسي في تعلّم لغة جديدة، سوى الإنجليزية، لمعظم الناس، تضييع للوقت والجهد، إن كان الهدف من تعلّمها هو مجرد التواصل مع الآخرين، ذلك لأن الإنجليزية تتكفّل به. أما إن كانت الغاية تحقيق تطور مهني ما، فربما يكون تعلّم مهارة جديدة في مجال البرمجة أو الإدارة أكثر نفعًا من اكتساب كفاءة تواصلية بلغة جديدة يوفّر أهلها عليك غالبًا عناء الحديث بها، عبر الانتقال إلى الإنجليزية التي يُفترض تلقائيًا أنها لغة مشتركة بينكم، رغبة بالترحيب بك، أو بالتبجّح بالمعرفة بها.

ثمّة منفعة معنوية لعلها تكون الإضافة الأهمّ لتعلّم لغات أخرى، بعيدًا عن النفعيّة المباشرة لذلك، وليس ثمة ما يعبّر عنها أفضل من قول القائل بأن اللغات تكرم ضيوفها

ما سبق لا ينفي وجود حالة من الانبهار العام في مجتمعاتنا بمن يتحدثون لغة أخرى إلى جانب اللغة الأم والإنجليزية، رغم أنها الحالة الأكثر شيوعًا في العالم مقارنة بالأحادية اللغوية، وما يزال امتلاك لغة جديدة غير الإنجليزية ذخرًا جيدًا قد يؤدي إلى مكتسبات عمليّة ومهنيّة في مجالات محددة. كما أن ثمّة منفعة معنوية فرديّة لعلها تكون الإضافة الأهمّ لتعلّم لغات أخرى، بعيدًا عن النفعيّة المباشرة لذلك، وليس ثمة ما يعبّر عنها أفضل من قول القائل بأن اللغات تكرم ضيوفها، وهو ما علق عليه عبد الفتاح كيليطو في كتابه "لن تتكلم لغتي"، بأننا، بمعرفة لغات مختلفة "ننعم بالخيرات الجمّة التي تغدقها علينا بسخاء، ونتحلى خلال مقامنا في رحابها، أي طيلة حياتنا، بالآداب التي يتعيّن على الضيف احترامها عندما يكون في فضاء المضيف".  

 

اقرأ/ي أيضًا: 

العودة إلى اللغة الأيقونية

هل تعلمت لغة جديدة في 60 يومًا على "دولينغو"؟