30-يوليو-2021

تشهد تونس منعطفًا خطيرًا (الجزيرة)

لم يكن الاختلاف حول طبيعة ما أعلن عنه الرئيس قيس سعيّد يوم عيد الجمهوريّة أمرًا جديًّا أمام إجماع الأحزاب الديمقراطيّة ومنظّمات المجتمع المدني ومراجع القانون الدستوريّ والجمعيّات والهيئات القضائيّة الدستوريّة والتعديليّة على أنّ الإجراءات المُعلنة انقلابٌ على الدستور والديمقراطيّة ومؤسسات الدولة المنتخبة. ولم تكن كلمته أمام أهمّ المنظّمات الاجتماعيّة إلاّ تبريرًا لمغامرة قد تذهب بالدولة ومؤسساتها وتعصف بالسلم الأهلي.

تعرف تونس منعرجًا خطيرًا يهدّد تجربتها في الانتقال الديمقراطي في ظلّ أزمة خانقة وعجز عن التجاوز لا يمكن أن يفرزا سوى نزعات شعبويّة مجنونة يسهل توظيفها في هدم محاولات تأسيس الحريّة والمواطنة

مقدّمات الانقلاب

كثيرًا ما يُتغافل عن أنّ المنظومة الديمقراطيّة التي استهدفها الرئيس قيس سعيّد بإجراءاته الأخيرة هي التي أوصلته إلى سدّة الرئاسة. وهو أكثر من يَشهد بأنّه آتٍ من خارج الدوائر المناهضة الاستبداد والدفاع عن الحريّات السياسيّة العامّة والفرديّة. وكان من كرم الثورة أن وزّعت السلطة أفقيّا حتّى اعتلى أعلى المناصب أبناءُ الداخل المهّمش والأعماق المنسيّة. ولا يفسّر هذا السخاء السياسي سوى بحث الدولة الحثيث عن قاعدة حكم متينة تستقرّ عندها في هيئتها الجديدة بعد أن حرّك زلزال الانتفاض الاجتماعي المواطني طبقات الأبنية الاجتماعيّة والتضامنات السائدة وشبكات المصالح المتوارثة، على أمل أن يكون توزّع السلطة الأفقي مقدّمة إلى توزيع أعدل للثروة وجودة العيش.

اقرأ/ي أيضًا: تونس بعد انقلاب قيس سعيّد.. قلق مالي ومعيشي ومخاوف من تدهور أكثر للاقتصاد

لم يُخف قيس سعيّد اختلافه مع الديمقراطيّة التمثيليّة ولكنّه قَبل بأن يترشّح إلى منصب رئاسة الجمهوريّة ضمن منظومتها التي بنتها الثورة، وأقسم أمام مجلس نواب الشعب على صيانة دستورها واحترامه. ونُظر إلى هذا الاختلاف على أنّه ممّا تستوعبه الديمقراطيّة باعتبارها اختيارًا شعبيًّا عامًّا وحرًّا. فمن كرم الديمقراطيّة وشجاعتها إتاحتُها الفرصة لمناهضيها مع اشتراطها بأن يكون تجاوزها بوسائل ديمقراطيّة. وعندما عاد قيس سعيّد، بعد أن أصبح رئيسًا للجمهوريّة، إلى التذكير بأطروحته الشكلانيّة في الانتظام السياسي الأفقي، لم يكن من اعتراض من النخبة الديمقراطيّة على ما يعرضه سوى التزامه بما تمّ التعاقد عليه في دستور الثورة واحترام ما انبنى من مؤسسات ديمقراطيّة على ضوئه.

لم يمرّ وقت طويل حتّى بدأ توتّر رئيس الجمهوريّة المحسوب على الصف الثوري مع مؤسسات النظام السياسي سليل دستور الثورة. وقابله توتّر آخر أشدّ في مجلس النوّاب في أولى جلساته تطوّر إلى بلطجة متواصلة من قبل نوّاب الدستوري ممثّل التجمّع المنحلّ عطّلت أشغال المجلس ورذّلت دوره. وبدا واضحًا أنّ نتائج انتخابات 2019 في حاجة إلى قراءة جديدة بعيدًا عن الانطباعات الأولى التي اعتبرتها جولة لفائدة القوى المنتصرة للثورة، بعد أن كانت انتخابات 2014 جولة لصالح القديم. وأمكن ملاحظة انحدار في المشهد السياسي العام من جهة انحسار شروط بناء الديمقراطيّة وتواصل مسارها.

فبعد أن كان الإجماع على مفهوم الدولة، ولقاء بين القديم والجديد وسط العمليّة السياسيّة، ووجود مؤسسة أمنيّة وعسكريّة خارج رهانات السياسة ومغانمها شروط تواصل الانتقال إلى الديمقراطيّة أفصحت انتخابات 2019 عن مشهد جديد. ويتلخّص هذا المشهد في صعود الأطراف (الكرامة/عبير) وضعف الوسط (النهضة) واضمحلال أحد اطرافه (نداء تونس)  وظهور منزع شعبوي يغلب عليه الغموض (قيس سعيّد).

تدرّج الانقلاب

لم يكن من الطبقة السياسيّة انتباه إلى هذا التحوّل في المشهد السياسي وقواه الفاعلة. ومع حكومة المشيشي بدأت ملامح المشهد تكتمل. وظهر إلى جانب "الصراع الديمقراطي". وهو نتيجة لأطوار تدافع القديم والجديد على قاعدة توافق بشروط القديم الفائز بانتخابات 2014 وتحت سقف المنظومة الديمقراطيّة التي بناها الجديد. ومثّل قيس سعيّد وعبير موسي هذا العنوان الجديد من الصراع المستهدف للديمقراطيّة من داخل مؤسساتها (الرئاسة، البرلمان).

في أوّل الأمر كان سعيّد محسوبًا على الجديد والصفّ الثوري رغم اختلافه النوعي عنه، مثلما كانت موسي محسوبة على القديم رغم اختلافها عن أهمّ مكوّناته نداء تونس المضمحل. ومع ذلك فإنّهما يتقاطعان في مناهضة المنظومة الديمقراطيّة في نموذجها التمثيلي باعتباره شكل انتظام تقليدي عمودي يسمح بإعادة إنتاج علاقات القوّة بعيدًا عن العدل والمشاركة المباشرة للفرد عند سعيّد، وباعتباره انقلابًا على نموذج الدولة الوطنيّة والمشروع السياسي البورقيبي عند موسي.

كانت بداية حرب الرئيس قيس سعيّد على الدستور ومرجعيّة الديمقراطيّة ومسارها. فالدستور بالنسبة إليه نصّ انبنى على ترضيات هوويّة وفئويّة طبعته بالتضارب ومن ثمّ بالتهافت. وكان لهذه التجاذبات التي نشأ فيها أثر مباشر على النظام السياسي شبه البرلماني الذي تضمّنه. وما يميّز هذا النظام من تعدّد رؤوس الدولة برغبة تجنّب مركزة السلطة في يد جهة واحدة.

سعيّد الذي كان بالأمس من بين خبراء القانون الدستوري الذين شاركوا في صياغة الدستور في لجان المجلس الوطني التأسيسي هو اليوم يناهض الدستور، بعد أن أقسم على احترامه والوقوف عند أحكامه.

أدّى هذا التجاذب السياسي في أعلى مؤسسات الدولة إلى شلل نصفي في الحكومة فصارت تعمل بنصف وزرائها حين تعطّل التحوير الوزاري . وإلى تعطّل متواصل لمؤسسة البرلمان. وكان لكلّ هذا انعكاس مباشر على الحياة الاجتماعيّة وتفاقم الأزمة المركّبة. ولعلّ أخطر النتائج كان فيما صاحب التجاذب الذي لا يتوقّف في مؤسسات الدولة الأولى من ترذيل للديمقراطيّة ويأس عام من السياسة. وبذلك اجتمعت أسباب الاحتقان والإحباط المجال الخصب لتوسّع المنزع الشعبوي وترسّخ الحاجة إلى الزعيم المنقذ.

فالانقلاب على الدستور والديمقراطيّة بدأ عمليّة متدرّجة اشتغلت على شلّ المؤسسات والحياة السياسيّة ومفاقمة الأزمة وتيئيس منهجي من جدوى الديمقراطيّة وقدرتها على بسط الرفاه والأمن والعيش المشترك.

ومثّل تاريخ 25 يونيو درجة تأزيم قصوى كانت مبرّرًا كافيًا لإعلان الانقلاب على الدستور والديمقراطيّة.

صور من الانقلاب

مضى على الانقلاب أربعة أيّام. ومن المهمّ الوقوف عند ردود الأفعال. وهي ردود أفعال متداخلة متخارجة تعكس حجم الانقسامات التي شقّت المشهد السياسي. وكان موقف النهضة الأبرز والأكثر شدًّا للأنظار لما بلغته علاقة التوتّر بين الرئيس سعيّد وحركة النهضة، وبسبب ترؤّس حركة النهضة لمجلس نواب الشعب. وكانت أكثر الصور بلاغة وأثرًا صورة رئيس مجلس نواب الشعب الرجل الثمانيني مصوحبًا بنائبته الأولى وهو يقف أمام باب البرلمان الموصد، وخلف قضبان بوابته الضخمة تجثم مدرّعة عسكريّة لتنبّه إلى أنّ البرلمان موصد بأمر من رئاسة الجمهوريّة.

وبدا التحاق نوّاب وأنصار من حركة النهضة بالبرلمان مؤذنًا برفض قاطع لعمليّة الانقلاب على الديمقراطيّة ويمثّل البرلمان مؤسستها الأصليّة.

وتتالت الردود من الأحزاب والجمعيّات والمنظّمات ومن الهيئات القضائيّة والدستوريّة والتعديليّة وكانت في أغلبيّتها الساحقة رافضة للإجراءات الاستثنائيّة التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيّد، وداعية إلى احترام دستور الثورة.

وفي سياق ردود الأفعال هذه يفهم لقاء قيس سعيّد مع أهمّ المنظّمات الاجتماعيّة. وبدا في كلمته إلى ضيوفه مبرّرًا تبرير المتراجع. فالمنقلب الفعلي لا يجعل من انقلابه موضوعًا للنقاش بقدرما يمرّ إلى تنفيد ما أعلن عنه. ولا خلاف في كون الرئيس قيس سعيّد كان يستهدف جهتين باحتجاجه على أنّ ما أتاه لا يخرج عن الدستور والفصل 80. الجهة الأولى هي المشهد السياسي التونسي وقواه السياسيّة والاجتماعيّة الفاعلة. ولن يكون مرتاحًا إلى وصف حركته بالانقلاب. ولكنّه يدرك أنّ عهودًا من نضال النخبة ضدّ الاستبداد ومن استماتتها من أجل الحريات العامّة والخاصّة والحياة السياسيّة الديمقراطيّة والمشاركة في بناء تونس الجديدة ستكون حواجز عالية في طريقه إلى تصفية الديمقراطيّة التمثيليّة وفرض نموذجه الشكلاني الغامض.

والجهة الثانية هي القوى الإقليميّة والدوليّة صاحبة المصالح في تونس والمنطقة. ولا يخفى أنّ تونس تمثّل

نقطة تماسّ بين أبرز المحاور المتصارعة على منطقة المتوسّط والساحل والصحراء. وهي نقطة تتقاطع عندها مواقف هذه القوى من مسار بناء الديمقراطيّة في المجال العربي والتجربة التونسيّة باعتبارها تجربة الانتقال إلى الديمقراطيّة الوحيدة المتواصلة.      

أفق الانقلاب

اعتُبر سحب النهضة لأنصارها من البرلمان تجنّبًا للمواجهة وإيثارًا للحوار طريقًا إلى التراجع عن الإجراءات الاستثنائيّة. غير أنّ الدلالة السياسيّة الأبرز لهذا الموقف هو أنّ المواجهة ليست بين سعيّد والنهضة ولا بين النهضة والشعب مثلما نجحت نسبيًّا تظاهرات 25 جويلية في إظهاره، بقدرما هو مواجهة بين الانقلاب والديمقراطيّة. وقد كان من نتائج سياسة التعفين والعجز عن الأدنى من المنجز الاجتماعي والصراع في أعلى مؤسسات الدولة استعداد طيف واسع من الناس للقبول بالانقلاب على فشل حكومة المشيشي التي تُنسب إلى النهضة دون أن تشارك فيها.

منذ إعلانه عن الإجراءات الاستثنائيّة لم يكن من سعيّد إجراءات تذكر سوى بعض الاجتماعات هنا وهناك وتبدو موجّهة أكثر إلى جمهور قيس سعيّد المدعوم بجيوش إلكترونيّة ضخمة تثير كثيرًا من الأسئلة. فجمهور سعيّد مطالب بمحاسبة الفاسدين الذين لا تخلو منهم كلمة من كلماته. ومصرّ على تجاوز المنظومة الديمقراطيّة، فهي بالنسبة إليه سبب الأزمة.

تعرف تونس منعرجًا خطيرًا يهدّد تجربتها في الانتقال الديمقراطي في ظلّ أزمة خانقة وعجز عن التجاوز لا يمكن أن يفرزا سوى نزعات شعبويّة مجنونة يسهل توظيفها في هدم محاولات تأسيس الحريّة والمواطنة من قبل قوى إقليميّة ودوليّة لا تخفي عداءها للربيع والحريّة. ولئن كان الذي يحدث في تونس يجد أسبابه في السياق التونسي إلاّ أنّه لم يكن بعيدًا عن أجندات معادية للحريّة والديمقراطيّة بقيادة الإمارات ومصر ودولة الكيان.

لم يتّخذ الرئيس قيس سعيّد إجراءات كبرى منتظرة، ويبدو أنّ ما صرّح به أمام منظّمة الأعراف تغييره للرئيس المدير العام بالتلفزة الوطنيّة يأتي في إطار تأكيد الحضور لجمهوره ولكلّ من له أمل في أن يقوم سعيّد بإصلاحات جوهريّة لصالح الفقراء والمهمّشين وما وعد به من حرب على الفساد.   

هذه المرّة ستكون الشروط الدوليّة هي العامل الحاسم في مستقبل تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس بعد الإجراءات الاستثنائيّة التي أقدم عليها الرئيس قيس سعيّد. وقد أجمعت الطبقة السياسيّة والديمقراطيّة على خروجها عن الدستور وأنّ الحوار بمرجعيّة الدستور والديمقراطيّة هو السبيل الوحيد لإعادة الأمور إلى نصابها.

تبدو تجربة بناء الديمقراطيّة في تونس غير قابلة للكسر، بالنظر إلى النخبة السياسيّة وتاريخ الدولة وإلى عشر سنوات من الحياة السياسيّة الديمقراطيّة، وأخيرًا إلى توازنات المحاور والرهانات الإقليميّة والدوليّة الراهنة.