09-يوليو-2016

ستاتوس سوري من القرن الأول ق.م (Getty)

تاريخ أصل الإنسان العاقل لا يزال معضلة تحيّر العلماء حتى يومنا، وتعد النظرية "الدينية" الأكثر راحة للبشر والتي تجنبهم البحث في تاريخهم القديم المعقد والشائك. فالمعتقدات الدينية لدى المجموعات البشرية على اختلاف بقعها الجغرافية، ومنذ آلاف السنين، توصلت إلى فكرة مفادها أن هذا الإنسان خلقته الآلهة في السماء من خلطة سحرية "لعاب وتراب"، أو "دم إله شرير اتفقت الآلهة على قتله ثم مزجت دمه بتراب وخلقت منه هذا الكائن المسمى بالإنسان"، ثم أهبطته إلى الأرض عقابًا له على خطاياه التي ارتكبها بحق آلهته العلوية، أي أنه ليس من سكان الأرض وإنما تم صناعته في كوكب آخر، نجد هذه النظرية في ديانات الأقدمين لدى سكان المعمورة القدماء قاطبة، ولا تزال تستمر إلى اليوم فيما يعرف بالديانات التوحيدية.

النار التي تهابها كائنات الأرض جميعها جعلت الإنسان في أمان من افتراسها كما جعلته هو من يفترسها

وبعيدًا عن نظرية القردة الداروينية التي ثبت خطؤها اليوم، فإن لدى العلماء اليوم نظريات كثيرة اعتمدوا عليها من اكتشاف مخلفات كائنات تشبههنا تعود في أقدمها لملايين السنين، إضافة لاكتشافهم لسلالات مختلفة اندثرت جميعها ولم يبق منها إلا نحن هذه الكائنات العجيبة التي تعيث على كوكب الأرض بناء وتدميرًا. 

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ كلمة "لي لي ليش" وحقيقة معبد "لالش" الأيزيدي

حسب العلماء، أقدم الدلائل على وجود الإنسان الذي اصطلح على تسميته بـ"الإنسان العاقل"، ونحن من سلالته، فإن تاريخ تواجده يعود إلى 35 ألف عام، هذا الإنسان الذي استخدم ذكاءه للتعويض عن ضعفه الجسدي مقارنة مع باقي حيوانات الأرض، فظل دأبه أن يمتلك قوة الأقوى على وجه الأرض، لذلك شبه أبطاله وقادته بالحيوانات القوية كالأسد والثور والنسور لا يزال ذلك مستمرًا إلى اليوم حتى أننا نجده أيضًا في أعلام الدول التي تستخدم رموز الحيوانات كالأسود والنمور أو الطيور الجارحة كالنسر والعقاب والصقور للدلالة على قوتها وهي من آثار الفكر الطوطمي في الديانات القديمة.

سعى هذا الإنسان معتمدًا على ذكائه إلى إيجاد البدائل التي تقوي نقاط ضعفه، فكان أن حك الحجر بالحجر لثقله فأوجد بهذه الطريقة السحرية امتدادًا له مع الطبيعة التي تحتاج للقوة كي يستمر الوجود، فكانت قطع الحجر المصقول "السكاكين والسهام الحجرية" بديلًا عن مخالب وأنياب الحيوانات، الاحتكاك ذاته ولّد لدى الإنسان البدئي في إحدى تجاربه النار المنفلتة عن حجر الصوان، كان عليه أن "يروض" هذه "الطاقة" ويدجنها ويحافظ على دوام توقدها، فأحاطها بالأساطير والقوى الإلهية الحامية لها، كيف لا والنار التي تهابها كائنات الأرض جميعها جعلت الإنسان في أمان من افتراسها كما جعلته هو من يفترسها، رحلة طويلة استغرقها الإنسان في اكتشاف قوته الصغيرة القابعة في جمجمته ليصير ما هو عليها اليوم.

بداية العصر الزراعي قبل 9000 آلاف عام كانت مفترق الطرق الأهم في رحلة هذا الإنسان، فابتكار أدوات الصيد لافتراس الحيوانات تم تسخيره لابتكار أدوات فلاحة الأرض وزراعتها، وتم استبدال حياة التنقل إلى حياة الاستقرار واكتشاف شؤون الفلك وحركة الكواكب لارتباطها بهذا الابتكار الجبار.

في التاريخ المغرق في القدم لسوريا كانت الجبال وليس السهول وضفاف الأنهار مكانًا للاستيطان

كنت محظوظًا بأن عملي في مجال الإعلام أتاح لي زيارة أحد أهم مواقع التطور الإنساني في التاريخ البشري وهو "تل العبر"، على نهر الفرات الأوسط، ورأيت كيف كان يعمل المنقبون الأثريون عن آثار ذلك الإنسان وتفحصت مكتشفاتهم البديعة، فالموقع يعود لأكثر من 9000 آلاف عام وهو قريب من موقع تل حلف وتل أحمر هناك، حيث اكتشف العلماء الحقول التي تمكن فيها الإنسان من "ترويض حبة القمح البرية" ليصبح القمح مدجنًا ويتيح للبشر عبورًا آمنًا إلى مرحلة الاستقرار بعد رحلة تشرده بحثًا عن غذائه.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا نحتفل بعيد الحبّ؟

في "تل العبر"، تلك القرية الوادعة على نهر الفرات، والتي لا يزال التواجد البشري حاضرًا فيها إلى اليوم، كانت أعمال الحفر تجري في قلب القرية والناس يتفرجون على آثار الأجداد تخرج من رحم الأرض بعد آلاف السنين، شاهدت التقنيات المدهشة المصنوعة من الحجر والتي استخدمها الإنسان في صناعة أدواته القديمة التي يتحكم من خلالها بمحيطه، شاهدت معبد تلك الحضارة القديمة حيث كان من أوائل المعابد الدينية في تاريخ البشر، معبد يتوسط القرية التي تتميز بنمط معماري مدهش ويتواجد فيها قنوات للصرف الصحي البدئية أيضًا.. حتى ذلك التاريخ كنت أعتقد كما كثيرين أن الحياة البشرية بدأت حول مجاري الأنهار إلى أن أتيح لي زيارة موقع آخر للاستيطان البشري يعود لـقرابة 8000 عام قبل الميلاد على جبال البلعاس، قرب مدينة سلمية في ريف حماة، هناك على قمة الجبل ظهر للمنقبين الآثاريين السوريين موقعًا لأقدم تصميم معماري لقرية بشرية على قمة جبل كانت تلك المنطقة الجرداء اليوم واحة خضراء احتضنت البشر البدئيين وزودتهم بمقومات الاستقرار.

في التاريخ المغرق في القدم لسوريا، كانت الجبال وليس السهول وضفاف الأنهار مكانًا للاستيطان، فهذا الإنسان العظيم ابتدأ بترويض الطبيعة حوله بأن نقل مسكنه من أعالي الأشجار والكهوف والحفر إلى تنظيم القرى، وجعل لها هيكلية فنية وإدارية ودينية منذ آلاف السنين، هيكلية لا تزال إلى يومنا هذا.

في تلك الأزمنة ابتكر الإنسان مبادئ "الترويض" للحيوانات في حظائر صارت اليوم حظائر في عالم السياسة باسم "الأحزاب"، وفي عالم الرياضة باسم "الفرق الرياضية"، وفي الأديان التي يبلغ عددها اليوم قرابة 120 دينًا، منهم 19 دينًا يتبعهم أغلب سكان المعمورة ويتقاتل بسببها البشر، لتثبت كل مجموعة أنها "شعب الله المختار"، كلها حظائر تصوغ وعي الناس في قوالب جاهزة ليسهل التحكم بها بكلمة واحدة. ابتكر ذلك البدئي الأدوات الموسيقية من القصب وجذوع الأشجار وأمعاء الحيوانات وجلودها، وابتكر الدولاب الذي كان قائد الثورة الصناعية للبشرية والذي استخدم في صناعة الماكينات الضخمة، وابتكر وسائل التصميم المعماري والفن والألوان. 

الإنسان البدئي هو الإنسان الخالق والمبتكر لكل أدوات الحضارات اللاحقة التي نعتمد عليها بشكل أساسي اليوم في حياتنا

كانت مهارة اليد البشرية مفصلًا تاريخيًا اكتشفها الإنسان قبل آلاف السنين برسومه على جدران الكهوف. ابتكارات أكثر من أن تحصرها هذه المادة، التي أرمي بها إلى تصحيح خطأ يرتكبه كثير من الباحثين -لا سيما المستشرقون الغربيون منهم والمسوقون لأفكارهم في الشرق، التي تصف ذلك الإنسان بأنه إنسان همجي بدائي، كما نجد في أعمال الأنثربولوجيين الغربيين الأوائل، في حين أنه كان في الحقيقة إنسانًا بدئيًا بدأ منه كل شيء نراه اليوم، فبشر اليوم رغم ذكائهم ليسوا أكثر من مطورين لاختراعات أجدادهم المغرقين في القدم.

اقرأ/ي أيضًا: "الفاروق" لقب المسيحيين السريان للخليفة عمر

الإنسان البدئي كان هو الإنسان الخالق والمبدع والمبتكر لكل أدوات الحضارات اللاحقة التي نعتمد عليها بشكل أساسي اليوم في حياتنا، ولنقل بشكل أدق هو الذي ابتكر أبجديات الفلك والعمارة والفن واللغة والموسيقى والسياسة والاقتصاد والتكنولوجيا وحتى الدين. وهي أبجديات يعتمد عليها البشر إلى اليوم وقادة ثورتهم للسيطرة على الطبيعة وكائناتها. ونجد أن الإنسان بعد أن تميز عن مخلوقات الأرض ونصب نفسه "الأحسن تقويمًا" بينها بدأ يميز نفسه عن أقرانه فكانت كل مجموعة تدعي بأنها "الأميز" والأحق بحظوة آلهتهم، حتى لو على حساب سحق إخوتهم، تارة لأسباب دينية، وأخرى لأسباب عرقية، وثالثة لأسباب عنصرية.

 ذلك الكائن البدئي "روّض" حجر الصوان ليصنع منه أدواته التي يتحكم بها بالطبيعة ويترجم من خلالها أفكاره، فجعل منهم ريشة الفنان الأول في رسم وحفر رموزه التي يحب وكان أداة حربه في مواجهة أعدائه، أو في صيد غذائه وكان محراثه، ثم زاوجه مع الخشب ليسهل حمله والتحكم به، ثم بدأت عصور المعادن التي كانت بديلًا عن الحجر لتسم عصور تطوير الأدوات الأولى إلى أن وصلنا إلى عصرنا الرقمي اليوم، رحلة شيقة من عصر الحجر إلى عصر الضوء والرقم، ولن تتوقف رحلة العصور في حياة هذا الكائن العجيب.

في لغة العرب نجد المعاني الكامنة عما نرمي إليه في الفرق بين كلمة بدائي وبدئي إذ تقول العرب: "بَدِيءٌ مِن بَدَأْتُ، والبَدْءُ: السيِّدُ، وقِيلَ الشَّابُّ الـمُسْتَجادُ الرأْيِ، الـمُسْتشَارُ، والجَمْعُ بُدُوءٌ، والبَدْءُ: السَيِّدُ الأَوَّلُ في السِّيادةِ، والبَدْءُ: المَفْصِلُ". المفصل الذي منه كان كل شيء، ونحن بشر اليوم لسنا مخترعين وإنما مطورين فقط لابتكارات أجدادانا البدئيين، وليس البدائيين حتمًا.

تاريخ البشر الدامي يشي بأن أمامهم درب طويل وشائك كي يصيروا ذلك "الإنسان" الذي يحلمون به، لكنهم قد يفنون جنسهم قبل أن يكونوه.

اقرأ/ي أيضًا:

"الله الصمد".. من نقوش أوغاريت إلى القرآن الكريم

تاريخ "الحنفية".. صراع اللغة والفقهاء