07-أبريل-2016

(Getty)

"حرام ساعدوهن ليقعدوا". تعبير "حرام" هذا هو أكثر ما يكرهه علي في هذه الحياة. في سنته الجامعية الأولى في كلية العلوم الاجتماعية-بيروت، يعيش علي مع صديق الطفولة والدراسة بل، وقبل أي شيء آخر، صديق الكفف مهدي، تجربة جديدة ومختلفة. فالانتقال من المدرسة إلى الجامعة هو عادةً قفزة هائلة نحو عالم مجهول. فكيف الحال إذا كان مَن يخوض هذه التجربة غارقًا في بحر من الظلمة؟

تلعب حاسة اللمس اليوم دورًا مساعدًا في حياة المكفوفين وتمكنهم، إلى جانب البرامج الناطقة، من استخدام مستحدثات التكنولوجيا من وسائط تواصل وغيرها

"اكتسبنا أصدقاء جددًا، العالم هنا واسع جدًا"، يقول مهدي ويتابع:"لا نزال نحنّ إلى أيام الدراسة وصخب مطابع البرايل. هنا، نستعين بآلات تسجيل لحفظ المحاضرات صوتيًّا لمذاكرتها لاحقًا. الأجواء تصبح أكثر ودًا مع الوقت". يقاطعه علي قائلًا "نحن بحاجة إلى المساعدة، هذا صحيح، لكننا لا نقبل  شفقة من أحد أعلم أننا لا نعيش في أوروبا، لكننا نأمل بأن يتحلّى الناس من حولنا بالوعي وحسن التدبير".

اقرأ/ي أيضًا: "شاو ربيع" ..تظاهرة الجزائر الخضراء

في مقدمة كتابه "الأيام"، يقول الأديب المصري طه حسين الذي فقد نعمة البصر في سنيّه الأولى  "الذين يقرأون هذا الكتاب من المكفوفين، سيرون فيه حياة صديق لهم تأثرّ بمحنتهم تأثّرًا عميقًا، لا لشيء، إلا لأنّه أحسّ من أهله رحمةً  وإشفاقًا، وأحسّ من  الناس سخرية  وازدراء. ولو عرف أهله كيف يربّونه من دون أن يظهروا له إشفاقًا، ولو كان الناس من رقي الحضارة بحيث لا يرثون للمكفوفين ولايظهرون لهم معاملة خاصة، لعرف ذلك الصبي وأمثاله محنتهم في رفق.ولاستقامت حياتهم بريئة من التعقيد كما تستقيم لغيرهم من الناس".

المهارات اليومية والتكيّف مع المحيط

عُرف عن أبي العلاء المعرّي، الشاعر العباسي الذي فقد بصره في الرابعة من عمره، أنه كان يتحرّج من تناول الطعام أمام الآخرين، بل أنه كان ينزوي في نفق تحت الأرض تحاشيًا للأعين. وفي أحد الأيام، أكل دبسًا فسقط بعضه على صدره، ولمّا خرج إلى الدرس قال له  تلاميذه: "أكلت دبسًا" فأسرع بيده إلى صدره وقال: "نعم قاتل الله شرّه"، ثم حرّم الدبس على نفسه طوال حياته.

لم تكن حال طه حسين، الذي جعل من حياة أبي العلاء محور أطروحته لنيل الدكتوراه، لم تكن أفضل. فقد حّرم على نفسه ألوانًا من الطعام كالحساء والأرزّ وكل ما يؤكل بالملعقة، إذ كان يكره أن يضحك إخوته أو تبكي أمه، وعندما دعاه علوي باشا، رئيس جامعة القاهرة إلى مائدته تكريمًا له، جلس إلى المائدة من دون أن يصيب شيئًا من الطعام. فلأنه لم يعرف ماذا يصنع بالشوكة وبالسكين، لبث في مكانه هادئًا تجنّبًا لأيّة سخرية أو إشفاق.

يتناول علي ومهدي طعامهما مستخدمين الأواني المختلفة بمهارة عالية. إنّ الاستقلالية وعدم طلب المعونة خلال تناول الطعام هي مدخل أساسي لبناء شخصية مستقلة ومتّزنة. كما أنّ إتقان استخدام الحواس المتبقية يساهم إلى حد بعيد في تذليل المعوقات التي يفرضها غياب أحدى الحواس.

تلعب حاسة اللمس اليوم دورًا مساعدًا في حياة المكفوفين وتمكنّهم، إلى جانب البرامج الناطقة، من استخدام مستحدثات التكنولوجيا من وسائط تواصل وغيرها. اقتنع علي أخيرًا باقتناء هاتف ذكي يعتمد على اللمس. قبل فترة كان يردّد مازحًا، في معرض انزعاجه من صعوبة مجاراة هذه الثورة:"نحن المكفوفين كل شي بحياتنا عالتاتش(TOUCH) ما عدا تلفون التاتش".

اقرأ/ي أيضًا: الجزائريون لسائق الأجرة..نثق بك

فرص عمل نادرة وآفاق مسدودة

ردًا على السؤال التقليدي حول ما يحب الطالب أن يكونه عندما يكبر، أجابني مهدي وبشيء من السخرية:"الحلم بمهنة مستقبلية هو ترف لا نمتلكه. خياراتنا محصورة بموظف سنترال أو بالأشغال اليدويّة التقليدية كصناعة القش أو غيرها".

لا يختلف ما قاله مهدي كثيرًا عما قاله طه حسين عندما كان في مثل سنه قبل مئة عام: "قد فرضت الحياة على أمثالنا إحدى اثنتين: فإما الدرس في الأزهر حتى تنال الدرجة وتضمن الحياة ببضعة قروش تؤخذ آخر الشهر وإمّا أن تقرأ القرآن في المآتم".

الصورة القاتمة لم تتغيّر إذًا، وبرغم إدراج مادة في  قانون العمل اللبناني تفرض على المؤسسات الخاصة والعامة تخصيص وظائف لذوي الاحتياجات الخاصة ومن ضمنهم المكفوفين بنسبة 3 بالمئة من إجمالي المستخدمين، فإنّ هذا القرار بقي حبرًا على ورق، وحتى تلك المؤسسات التي تدمج عددًا من ذوي الحاجات فإنها تحصر عملهم بمهام روتينية مؤطرّة تحد من قدرتهم على التطور والإبداع. "دخلنا الجامعة لنثبت أننا قادرون على نيل شهادة جامعية، رغم ثقتنا أن تعليقها على حائط في الصالون هو أقصى ما يمكن أن تفيدنا به" يقول الشابان.

الحب كبارقة أمل

"بدونك أشعر أنّي أعمى حقًا، أما وأنا معك فإنني أتوصّل إلى الشعور  بالأشياء التي تحيط بي". أضحكت هذه العبارة التي وجهها طه حسين إلى زوجته "سوزان برستو" مهدي وعلي. استغربًا كيف يقول أعمى أنه يشعر بأنّه أعمى، ثم، وبعد تأمل كثير أخذا يثنيان على جمال المعنى وعمقه وعلى أهمية الامتزاج بما يحيط بنا.

بعد وفاة طه حسين، رثته سوزان بريسوب كلمات مؤثرة. قالت: "ذراعي لن تمسك ذراعك أبدًا، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق في اليأس. أريد عبر عينيّ المخضّبتين بالدموع، حيث يقاس مدى الحب، وأمام الهاوية المظلمة، أريد أن أرى من جديد ابتسامتك الرائعة".

تساءل علي بدهشة: "هل توجد حقًا هكذا امرأة في هذا العالم؟".

اقرأ/ي أيضًا:

محاكم عدن..باب العدالة المهدم

زراعة الحشيش في دائرة الجدل